ولا عجب فالعرب في ذياك الوقت قد بلغوا شأوا عظيما من الحضارة، وكان أهل أوربا في أشد الحاجة لمعونتهم وثقافتهم، وهاك "دوزي" يؤكد أن بعد أن وقف بالدرس على كنه الحضارة العربية في الأندلس: "أنه لم يكن في كل الأندلس أمي يوم لم يكن في كل أوربا من يعرف القراءة والكتابة إلا في الطبقة العليا من القساوسة" وصارت جامعة طليطلة قبلة الطلاب من كل بقاع أوربا في القرن الثاني عشر, حتى بعد أن تقلص ظل الملك العربي عن معظم بلاد الأندلس، وبقيت العربية لغة الثقافة والمعاملات والعقود حتى سنة 1580، وظلت بعض قرى بلنسية تتكلم العربية حتى القرن التاسع عشر، ولسنا الآن في صدد تبيان # أثر العرب في الحضارة الأوربية وآدابها وغنائها وموسيقاها، وبحسبك أن تعلم أن الفلسفة الإسلامية ظلت تدرس في جامعات أوربا حتى سنة 1650, وأن أرسطو لم يكن يفهم إلا بشروح ابن رشد، وأن طب ابن سينا كان غاية كل مشتغل بالطب في أوربا أمدا طويلا، وأن مئات الكلمات العربية التي تنبيء عن الحضارة والعلم قد دخلت اللغات الأوربية واستعجمت؛ من مثل: قيثارة, وقطران, وأميرال, وشراب, وزعفران، وكافور, وقرمز, وصك, ورزمة، وإكسير، وكيمياء، وجبر، وساقية, وما شاكل ذلك، وهم الذين علموهم صناعة الحرير والغلائل الموشاة، وصناعة السلاح والخز المذهب, والفسيفساء والبلور والورق والأصباغ والأدهان، والمعادن، وعلم الجبر والحساب بأرقامه1.
واتصل الغرب مرة أخرى بالشرق إبان الحروب الصليبية التي شنها متعصبة المسيحيين, حينما أنسوا في عرب الأندلس ضعفا، وظلت نحو قرنين وطوفان جنود أوروبا يتكسر على صفاة حماة الإسلام، ويرتد، ثم يعود أشد مما كان بأسا، فتقابله صدمات تخفف من غلوائه، وهكذا حتى خمد، ولكن خلف هذا الاتصال الطويل آثارا بعيدة الغور في كل من المغاربة والمشارقة، أما المغاربة فدهشوا من حضارة العرب في بلادهم, ووجدوا أشياء كثيرة لا عهد لهم بها، فقلدوا المشارقة في لبس الدروع الخفيفة المنسوجة, وفي استخدام الموسيقى العسكرية؛ واصطنعوا السيوف والرماح، وأخذوا عنهم فن بناء الحصون وحفر الخنادق، وإقامة الاستحكمات, واستعملوا النار لنقل أخبارهم في الليل, والحمام الزاجل بالنهار، وأخذوا كثيرا من أصول الهندسة وتأسيس المنازل بالطنافس والنماذج والسجاد والأواني الخزفية وغيرها، وإن الفلسفة اليونانية التي يعتز بها الغرب، وعليها بنى حضارته وثقافته، إنما وصلت إليه عن طريق العرب، فهم الذين حفظوها وشرحوها وعلقوا عليها, وأضافوا إليها فلسفتهم وآراءهم, فلما استيقظت أوربا وجدت الطريق ممهدا فسارت في المدنية بخطى واسعة.
পৃষ্ঠা ৩৭৫