ولقد كان هدف التفكير الجمالي في القرن الخامس عشر هو كشف الصيغ السحرية لليونانيين؛ أي الصيغ الرياضية الدقيقة التي تؤدي إلى كشف أشكال «فيدياس» من جديد؛ فقد كان هدف الحياة الفنية هو الاستنباط الرياضي للتماثل والتناسق والمنظور. وكان نيكولاس مسايرا لروح عصره عندما اتفق مع أفلاطون على أن الرياضة هي أساس الموسيقى، وعلى أن الرياضة مبحث عقلي صرف.
ويقول نيكولاس إننا عندما نستمع إلى الموسيقى «ندرك الأجزاء المتوافقة بحواسنا ونقيس المسافات والتوافقات بعقولنا، وبمساعدة خبرتنا الموسيقية. وهذه الملكة (أي العقل والقدرة على الانتفاع من التعليم) لا توجد في الحيوانات ... ولذا لم يكن في استطاعة الحيوانات تعلم الموسيقى، وإن كانوا يدركون الأصوات ب «الحواس» مثلنا، ويطربون للأصوات المتوافقة. وعلى هذا الأساس يحق لنا أن نصف روحنا بأنها عاقلة؛ لأنها قادرة على القياس والعد وتدرك ما يقتضي تمييزا دقيقا، وعندما تستمع آذاننا إلى توافقات موسيقية جميلة تطرب لها. وهكذا فإن العقل حين وجد أن التوافق مبني على العدد والتناسب، قد اخترع النظرية العقلية للتآلفات الموسيقية المبنية على نظرية الأعداد.»
14
وقد عاد نيكولاس إلى نظرية المشاعر اليونانية، وأشار بوصفه رجل كنيسة إلى أن الانفعالات «زائلة، والانطباعات الحسية لا تكون جميلة، إلا بقدر ما تمس الأفكار الروحية أو الجمال الروحي»
15
كما تمثل المذهب الأخلاقي الأفلاطوني في كتابات نيكولاس؛ لأنه اهتم ببحث تأثيرات الإيقاعات والمقامات الموسيقية في النفس، ولكنه من حيث هو شخصية تنتمي إلى عصر النزعة الإنسانية قد تخلى عن الاعتقاد القديم القائل إن المؤلف الموسيقي وسيط بين الله وبين الإنسان، وإنه ينقل رسالة الإرادة الإلهية إلى الأرض؛ فقد انتقد نيكولاس فكرة أفلاطون القائلة إن الفنان شخص يتلقى الوحي من ربات الفن «الموزي»، وكثيرا ما يتصف بالهوس، ولا يخلق إلا بإلهام يأتيه من أعلى، وأكد في مقابل ذلك الرأي السائد في عصر النهضة بأن الفنان مبدع بقواه الخاصة.
وعلى حين أن نيكولاس دي كوزا أقل تعمقا في الموسيقى منه في الفنون الأخرى، فإن اهتمام مرسيليو فيتشينو بالموسيقى كان أعمق من اهتمامه بالفنون الأخرى. ويقال إنه كان يعزف إحدى الآلات الموسيقية، ويقدم عروضا كثيرة أمام مجموعات كبيرة من أصدقائه. كذلك فإنه تحدث بإقناع تام عن تأثيرات الموسيقى في النفس، وردد آراء أفلاطون في اعتقاده بأن أساس جمال الأصوات هو التوافق الذي ربطه بمفهوم التناسب. وفي رأيه أن هذه الموسيقى تصدر من أعمال روح المؤلف الموسيقي، ومن هنا كان في وسعها أن تؤثر في نفس السامع. وقد اتفق مع أفلاطون على أن الموسيقى تستطيع أن تغلغل في الأغوار الباطنة للنفس البشرية، وتؤثر في مجرى السلوك الجسمي «فلما كانت الأغنية والصوت يأتيان من التفكير الذهني، ومن تأثير الخيال، ومن انفعال القلب، ولما كانت تقوم بمساعدة الهواء الذي يتكون ويتذبذب نتيجة لها بتحريك الروح الشبيهة بالهواء لدى السامع، والتي هي حلقة الاتصال بين النفس والجسم، فإن من السهل عليها أن تحرك الخيال، وتؤثر في القلب، وتتغلغل في أبعد أغوار الذهن»
16 «إن الموسيقى الجادة تحفظ توافق أجزاء النفس وتستعيده، كما يقول أفلاطون وأرسطو، وكما جربنا نحن أنفسنا مرارا.»
17
وقد ذكر فيتشينو أن للموسيقى تأثيرا علاجيا يزيل الكآبة والكدر. كذلك تستطيع الموسيقى أن تبعث حالة تأملية تزيد المرء قربا من الله «... كثيرا ما كنت أتحول إلى الألحان والأغاني الجدية بعد دراسة اللاهوت أو الطب، حتى أنصرف عن اللذات الحسية الأخرى، وأتخلص من متاعب النفس والجسم، وأسمو بالعقل إلى الأمور العليا، وإلى الله على قدر استطاعتي.»
অজানা পৃষ্ঠা