وهناك إشارات إلى البوليفونية في الفترة الواقعة بين القرن التاسع والقرن الثالث عشر، ولهذه الإشارات أهمية عملية لكل من يريد تتبع التطور التاريخي للموسيقى البوليفونية في الحضارة الغربية. وقد خلف لنا كاتب مجهول من القرن التاسع بحثا في البوليفونية بعنوان
Musica enchiriadis ، وصف فيه أنواع الأورجانوم التي كانت مستخدمة في أيامه. وبعده بثلاثة قرون قال كاتب إنجليزي اسمه «جون كوتن
John Cotton » إن الموسيقى البوليفونية تعزف في القرن الثاني عشر على أنحاء متعددة. ثم قال : «ولكن أسهل الطرق فهما هي تلك التي تكون فيها للحركة المضادة أهمية خاصة؛ أي عندما يهبط سطر الأورجانوم على حين يصعد اللحن الثابت «كانتوس فيرموس
Cantus firmus »، والعكس بالعكس.»
4
كذلك قدم إلينا جيرالدوس كامبرنسيس
Giraldus Cambrensis (حوالي 1147-1220م) وصفا للغناء المتقن المؤلف من أسطر لحنية متعددة، والذي وجد أهل ويلز يؤدونه بسهولة كبيرة، فقال: «إنهم في حفلاتهم الموسيقية لا يغنون في اتفاق نغمي كما يفعل سكان البلاد الأخرى، وإنما يوزعون الغناء على أسطر لحنية عديدة متباينة، بحيث إنك تسمع في فرق المغنين، التي يصادف المرء الكثير منها في ويلز، من عدد الأسطر اللحنية الموزعة والأصوات بقدر ما يوجد من عدد المغنين، ثم يتحد هؤلاء جميعا آخر الأمر في صوت واحد متناغم، تمثله الرقة الناعمة لنغمة «سي بيمول»، وفي المنطقة الشمالية من إنجلترا، فيما وراء نهر الهمبر، وعلى حدود يوركشير، يستخدم الأهالي نفس النوع من الأصوات المتوافقة المنسجمة، ولكن في تنوع أقل؛ إذ يوزعون الغناء على سطرين لحنين أو صوتين فقط؛ أحدهما يلغط في القرار، والآخر يرفع عقيرته بصوت حاد أو رفيع.»
5
على أن فن البوليفونية لم يكن أسعد حظا في الوثائق البابوية، أو في كتابات اللاهوتيين من الموسيقى المقدسة في أواخر العصر الوسيط، وفي عصر النهضة، فقد وجهت سلطات الكنيسة إلى البوليفونية نفس النقد الذي وجهه أفلاطون في «القوانين» إلى الموسيقى الموزعة على سطرين لحنين. صحيح أن اللاهوتيين قد وجهوا هذا النقد لأسباب مختلفة، ولكن أسس هذه المعارضة كانت متشابهة؛ ذلك لأن أفلاطون كان ساخطا على إدخال التجديدات الموسيقية للشعراء المغنين اليونانيين في تعليم الشباب الأثيني. وكان يعتقد أن عزف سطرين لحنين مختلفين في آن واحد أو بطريقة شبه متقطعة (
staccato-like fashion ) يعبر عن وجود مبادئ متعارضة تبعث في النفس الاضطراب، تؤدي آخر الأمر إلى الانحلال الأخلاقي؛ وعلى ذلك فإن الشاب الذي يتلقى هذا النوع من التعليم الموسيقي يجد صعوبة في استيعاب مبادئ الموسيقى، بل إنه يتعرض لخطر الاضطراب النفسي بفعل هذا الفن المتنافر الذي يمكنه أن يتغلغل في أعمق أعماق النفس، ويؤثر في الجسم بدوره. وعلى ذلك فمن الواجب على حراس الدولة أن يراقبوا عن كثب تعليم الصغار، حتى يتأكدوا من أن الأساليب والإيقاعات التقليدية هي وحدها التي تعلم؛ إذ إن ما تتسم به طبيعتها من بساطة ووحدة كفيل بأن يبث النظام والطاعة في نفس التلميذ.
অজানা পৃষ্ঠা