ويظهر أن اتجاه هؤلاء الباحثين هذا الاتجاه سببه عقيدة سادت بين رجال الفن عهدا طويلا، وهي «أن الذوق لا يعلل»؛ فالناظر ينظر إلى الصورة فيستجملها أو يستقبحها، فإن أنت سألته: لم استجملها أو لم استقبحها؟ لم يحر جوابا؛ وإذا أجاب أجاب بكلمات منمقة، ولكنها جوفاء، لا تحوي علة ولا توضح سببا؛ وإنما هي نفس الدعوى بألفاظ رشيقة جميلة؛ وإذا رأيت طاقة من الزهر قلت: ما أجملها، ولكن إن سألت: لم كانت جميلة؟ قلت: إنها منسقة، إنها بديعة الألوان، إن نفسي لترتاح إلى رؤيتها، إنها لتسر النظر، وتبهر العقل؛ وأنت غني بعد عن أن أقول لك: إن هذه ألفاظ وجمل قد ترضي البلاغة، ولكن لا ترضي المنطق؛ وقد تعرض صورة أو يظهر إنسان أمام جمع من النظارة؛ فهذا يستحسنه وذاك يستقبحه، وثالث لا يستحسنه ولا يستقبحه ، فإذا سألت من استحسن لم استحسن، ومن استهجن لم استهجن، ومن حايد لم حايد؟ كانت الإجابات مثارا للعجب، وموضعا للضحك. وقد ترى إنسانا وكل عضو من أعضائه على انفراد جميل، ولكنه ليس جميلا ككل، فما الذي كونه هذا التكوين؟ وما الذي وضعه هذا الوضع؟ ولم استحسنته مفرقا، ولم تستحسنه جملة؟ لا شيء في الحقيقة إلا الذوق الذي لا يعلل، وهذا هو الشأن في الأدب؛ وأظهر مثل لذلك ما فعله عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، فماذا صنع؟ إنه يأتي بالبيت الجميل ثم يقف ويتساءل: فيم كان جماله؟ فما هو إلا أن يصوغ لك جملا رشيقة، فيقول: إن هذا اللفظ يروقك ويؤنسك، وغيره يثقل عليك ويوحشك، وهذا الوضع يبهرك جماله، وهذا النظم يأخذ بلبك ما فيه من نسج وصياغة، ووشي وتحبير؛ ويعلل سبب ذلك أحيانا بالتقديم والتأخير، وأحيانا بالفصل والوصل - وكلها علل لا تصلح، فأنا كفيل بأن آتيك بتقديم يحسن، وتقديم مثله يقبح، وفصل يروعك، وفصل مثله يسوءك، وقد تحاول أن تفرق بينهم فلا تستطيع، ثم تسلم سلاحك وتكتفي بأن تقول: هذا جميل، وهذا قبيح، وهذا يحسن في ذوقي وهذا لا يحسن، وبذلك تكون قد قطعت شوطا بعيدا، ثم في آخر الأمر عدت إلى النقطة التي بدأت منها سيرك. وما علوم البلاغة كلها إلا محاولة لتعليل الذوق الأدبي، ولكن هل أفلحت في التعليل؟ إنا لنخشى أن تكون قد دارت حول نفسها، ولم تأت بشيء؛ «لأن الذوق لا يعلل».
وإذا كان الذوق لا يعلل فكل ما ترتب عليه لا يعلل، وإذا كان الفن وليد الذوق فالفن لا يعلل، لا يعلل كيف ظهر وكيف قوي وكيف ضعف.
هكذا أيضا قالوا أو يصح أن يقولوا - وهذه الآراء - وإن كان فيها شية من الحق - ليست حقا كلها، وليست حقا في أساسها؛ وقد بذل بعض العلماء المحدثين مجهودا حميدا في بيان ما فيها من حق وباطل، وحاولوا أن يفلسفوا الذوق، ويفلسفوا الجمال، ووضعوا للذوق والجمال علما، وعدوه فرعا من فروع الفلسفة، وحاربوا فيه الفكرة السائدة: «إن الذوق لا يعلل »، ووضعوا قواعد لتعليله نجحوا فيها أحيانا وفشلوا أحيانا، ولا يزال مجال البحث أمامهم فسيحا؛ وكان لهذا الاتجاه الجديد في علم الجمال أثر كبير في خلق نظريات في الأدب، ووضع أسس جديدة للبلاغة والنقد الأدبي مما ليس هذا موضعه.
والذي أميل إليه أن الفن نتيجة الذوق لا محالة، وأن الذوق يمكن تربيته وترقيته؛ فالطفل إذا لفت نظره إلى الأزهار وجملها تكون فيه الميل إلى حبها والاستمتاع بها؛ فإذا كان بعد أدبيا اتصلت حياته الأدبية بها، وظهر في نتاجه الفني هذا الحب وهذا التقدير.
والذوق العام للأمة في قوته وضعفه ورقيه وانحطاطه، ليس يظهر فجأة ولا هو نتيجة المصادفة البحتة، إنما هو نتيجة لكل ما يحيط بالأمة من ظروف وأحداث، هو نتيجة النظم السياسية، والحياة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافة العقلية وغير ذلك. وإن شئت فقل: إن ذوق الأمة هو تعبيرها عما تقوم؛ فالأمة إذا قومت المناظر الطبيعية تذوقتها، وإذا قومت جمال الأزهار تذوقته، وإذا لم تقوم النظام في المجتمعات لم تتذوقه، ولم يجرح ذوقها تهويش على محاضر أو مغن أو ممثل - والفنان ليس إلا معبرا عن ذوق الأمة، والأديب ليس إلا الموقع للأصوات التي تستلذها الأمة.
ومن أهم أسباب ضعف الأدب العربي مسألتان تتصلان بهذه الحقيقة: الأولى أن الأدب العربي لا يتصل بالذوق العام للأمة اتصالا وثيقا؛ لأنه يصاغ بلغة غير لغة الشعوب، ولا يتصل إلا بذوق خاص وهو ذوق محترفي الأدب، ومن تكون ذوقهم تكونا «كلاسيكيا»؛ ولا أمل في نجاحه إلا أن نعمل بأي شكل كان على أن نصل الأدب أو أكثره بالذوق العام. والثانية تتصل بالأولى، وهي أن.الآداب في أكثر الأمم كانت أرستقراطية النزعة يوم كانت القوة في يد الأرستقراطيين؛ فلما انتشرت الديمقراطية تبعها الأدب، فأصبح ديمقراطي الموضوع، ديمقراطي النزعة. أما الأدب العربي فقد أصبح أرستقراطيا منذ العهد الأموي، وأصبح أهم أنواع الأدب إنما ينشأ حول قصور الأمراء والأغنياء، وفي الموضوعات التي تناسبهم من مديح لهم وهجاء لأعدائهم؛ فلما عمت النزعة الديمقراطية العالم لم تؤثر في الأدب العربي أثرها في غيره من الآداب، بل ظل محتفظا إلى حد ما بأرستقراطيته، وهذا قلل من غير شك اتصاله بالذوق العام للأمة.
على كل حال لا وسيلة لترقية الفن ومنه الأدب إلا بترقية الذوق، وربط الفن به، ولذلك وسائل:
من أهمها التأذين في الناس بصوت عالي يهزهم هزا عنيفا حتى يشعروا بأن أذواقهم مريضة، لا يشعرون بالجمال كما ينبغي، ولا يهيمون بالحسن كما يجب؛ ولست أعني جمال الوجوه وحدها ولكن جمال الأزهار، وجمال الطبيعة، وجمال الموسيقى، وجمال الحركة، وجمال النظام، وجمال النظافة، وجمال المعاني. ويجب ألا يقتصر دعاة الفن على الدعوة لجمال الكرنك وأنس الوجود والمساجد الأثرية؛ بل يجمعون إلى الدعوة لجمال الماضي جمال الحاضر - وهذا أكثر وضوحا في الأدب، فدعوة الأدباء دائما وقول الأدباء دائما إنما هو إلى الماضي وفي الماضي، وهذا حسن لدرجة ما، ولكن يجب أن يقرن به الدعوة القوية أيضا إلى النظر إلى أنفسنا والقول في أنفسنا.
يجب أن نغير تسعيرة الأشياء، ونضع تسعيرة جديدة لما يدور حولنا، ونضع أمام ناشئتنا قيما جديدة لما يقع عليه نظرهم؛ فإذا كانت بيوتنا تعني بكمية الأكل وتعطيها أكبر قيمة، وجب أن نرفع قيمة الكيفية فنضع قيمة كبرى للأزهار على المائدة ولجمال الترتيب والنظام ولجمال الحديث.
يجب أن نوجه إرادتنا في ترقية الذوق كما نوجه إرادتنا لترقية العلم ولترقية النظام السياسي، ونضع للذوق برامج كالتي نضع لبرامج التعليم.
অজানা পৃষ্ঠা