وفي كل شأن من شئون الحياة، وضرب من ضروب العلم والفن ترى خداع الكم.
فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها في أربعمائة صفحة - مثلا - من القطع الكبير، والمتعلمون كثيرا ما باهوا بكثرة ما قرأوا، والكتاب
بكثرة ما كتبوا؛ والصحافة كثيرا ما خدعت القراء بالكم، فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات في الجرائد والمجلات، مع أن الصفحات وحدها كم، ولا قيمة لها ما لم يصحبها الكيف. وكم أتمنى أن أرى جريدة أو مجلة ترغب قراءها بالكيف فقط، وإن كنت أجزم بأن مصيرها الفشل؛ لأن أكثر الناس لم يمنحوا - بعد - ميزان الكيف.
وقد جرت كثرة الصفحات في الجرائد والمجلات إلى تحوير الأسلوب إلى ما يناسبها؛ فكان الأسلوب أحيانا كالعهن المنفوش، يصاغ منه في صفحة ما يصح أن يصاغ في عمود، وفي عمود ما يصح أن يصاغ في سطر واحد - ولست أدري لم كان الناس إذا أرسلوا برقية، تخيروا أوجز الألفاظ لأغزر المعاني؛ ولم يفعلوا من ذلك شيئا في كتبهم ورسائلهم ومقالاتهم؛ ولعلهم يفعلون ذلك؛ لأن الكلمات في البرقية تقدر بالقروش، وليس كذلك فيما عداها - إن كان هذا هو السبب دل على تقدير القرش أكثر مما يقدر زمن القارئ والكاتب؛ وفي هذا منتهى الشر، وفي هذا أقسى مثل لغفلة الناس في تقدير الكم لا الكيف.
وقديما عرض علماء البلاغة للكيف والكم في الأدب، وسموها اسما خاصا هو الإيجاز والإطناب؛ وعدوا الإيجاز أشرف الكلام؛ والإجادة فيه بعيدة المنال؛ لما فيه من لفظ قليل يدل على معنى كثير، ومثلوا للإيجاز والإطناب بالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة؛ فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم لكثرتها، ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولا يعدل عن الإيجاز إلى الإطناب إلا لإيضاح معنى أو تأكيد رأي.
والحق أن الأدب العربي في هذا الباب من خير الآداب، فأكثر ما صدر في عصوره الأولى حبات من المطر تجمعت من سحاب منتشر، أو قطرات من العطر استخلصت من كثير من الزهر.
وبعد، فلست أحب أن تكون كتابتنا كلها برقيات، وإذا لعدمنا ما للأسلوب من جمال، وما لتوضيح الفكرة وتجليتها وتحليتها من قيمة؛ وإنما أريد أن يكون المعنى هو القصد وهو المقياس، فإن أطنبنا فللمعنى، وإن أوجزنا فللمعنى.
وأريد أن يقوم الناس الكيف للكيف، وإذا قدروا الكم فللكيف. ولعل من ألطف ما كان أني حين بلغت هذا الموضع من مقالاتي أخذت أعد صفحات ما كتبت، فوجدتها قليلة العدد، فآلمني ذلك؛ لأني لم أبلغ ما حذرت أن يكون، وفرحت بهذه الملاحظة؛ لأنها سدت فراغا في المقالة، يكمل بعض ما فيها من قصر. ألسنا جميعا عباد (كم)، أوليس هذا من نوع تقدير الخيار «بالكوم»؟
صديق
لي صديق، اصطلحت عليه الأضداد، وأتلفت فيه المتناقضات، سواء في ذلك خلقه وخلقه وعلمه.
অজানা পৃষ্ঠা