بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين السنّة قامع الْبِدْعَة أَبُو عبد الله الشهير بِابْن قيّم الجوزيّة ﵀ ورضى عَنهُ
قَاعِدَة جليلة إِذا أردْت الِانْتِفَاع بِالْقُرْآنِ فاجمع قَلْبك عِنْد تِلَاوَته وسماعه
وأَلْقِ سَمعك واحضر حُضُور من يخاطبه بِهِ من تكلّم بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ فانه خَاطب مِنْهُ لَك على لِسَان رَسُوله قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد﴾ وَذَلِكَ أَن تَمام التَّأْثِير لمّا كَانَ مَوْقُوفا على مُؤثر مُقْتَض وَمحل قَابل وَشرط لحُصُول الْأَثر وَانْتِفَاء الْمَانِع الَّذِي يمْنَع مِنْهُ تضمّنت الْآيَة بَيَان ذَلِك كلّه بأوجز لفظ وأبينه وأدلّه على المُرَاد فَقَوله ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى﴾ اشار إِلَى مَا تقدّم من أوّل السُّورَة الى هَهُنَا وَهَذَا هُوَ المؤثّر وَقَوله ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ فَهَذَا هُوَ الْمحل الْقَابِل وَالْمرَاد بِهِ الْقلب الحيّ الَّذِي يعقل عَن الله كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا﴾ أَي حيّ الْقلب وَقَوله ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ أَي وجَّه سَمعه وأصغى حاسّة سَمعه إِلَى مَا يُقَال لَهُ وَهَذَا شَرط التأثّر بالْكلَام وَقَوله ﴿وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ أَي شَاهد الْقلب حَاضر غير غَائِب قَالَ ابْن قُتَيْبَة اسْتمع كتاب الله وَهُوَ شَاهد الْقلب والفهم لَيْسَ بغافل وَلَا ساه وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْمَانِع من حُصُول التَّأْثِير وَهُوَ سَهْو الْقلب وغيبته عَن تعقّل مَا يُقَال لَهُ وَالنَّظَر فِيهِ وتأمّله فَإِذا حصل الْمُؤثر وَهُوَ الْقُرْآن وَالْمحل الْقَابِل وَهُوَ الْقلب الْحَيّ وَوجد الشَّرْط وَهُوَ الإصغاء وانتفى الْمَانِع وَهُوَ اشْتِغَال الْقلب وذهوله عَن معنى الْخطاب وانصرافه عَنهُ إِلَى شَيْء آخر حصل الْأَثر وَهُوَ الِانْتِفَاع والتذكّر
1 / 3
فَإِن قيل إِذا كَانَ التَّأْثِير إِنَّمَا يتم بِمَجْمُوع هَذِه فَمَا وَجه دُخُول أَدَاة أَو فِي قَوْله
﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ﴾ والموضع مَوضِع وَاو الْجمع لَا مَوضِع أَو الَّتِي هِيَ لأحد الشَّيْئَيْنِ قيل هَذَا سُؤال جيّد وَالْجَوَاب عَنهُ أَن يُقَال خرج الْكَلَام بِأَو بِاعْتِبَار حَال الْمُخَاطب الْمَدْعُو فَإِن من النَّاس من يكون حَيّ الْقلب واعيه تَامّ الْفطْرَة فَإِذا فكَّر بِقَلْبِه وجال بفكره دلّه قلبه وعقله على صحّة الْقُرْآن وَأَنه الْحق وَشهد قلبه بِمَا أخبر بِهِ الْقُرْآن فَكَانَ وُرُود الْقُرْآن على قلبه نورا على نور الْفطْرَة وَهَذَا وصف الَّذين قيل فيهم ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحق﴾ وَقَالَ فِي حقّهم الله نور السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاء فَهَذَا نور الْفطْرَة على نور الْوَحْي وَهَذَا حَال صَاحب الْقلب الْحَيّ الواعي قَالَ ابْن الْقيم وَقد ذكرنَا مَا تضمّنت هَذِه الْآيَة من الْأَسْرَار والعبر فِي كتاب اجْتِمَاع الجيوش الإسلامية على غَزْو المعطّلة والجهميّة فَصَاحب الْقلب يجمع بَين قلبه وَبَين مَعَاني الْقُرْآن فيجدها كَأَنَّهَا قد كتبت فِيهِ فَهُوَ يَقْرَأها عَن ظَهْر قَلْب وَمن النَّاس من لَا يكون تامَّ الاستعداد واعي الْقلب كَامِل الْحَيَاة فَيحْتَاج إِلَى شَاهد يميّز لَهُ بَين الْحق وَالْبَاطِل وَلم تبلغ حَيَاة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صَاحب الْقلب الْحَيّ الواعي فطريق حُصُول هدايته أَن يفرغ سَمعه للْكَلَام وَقَلبه لتأمله والتفكير فِيهِ وتعقل مَعَانِيه فَيعلم حِينَئِذٍ أَنه الْحق فَالْأول حَال من رأى بِعَيْنِه مَا دعِي إِلَيْهِ وَأخْبر بِهِ وَالثَّانِي حَال من علم صدق الْمخبر وتيقّنه وَقَالَ يَكْفِينِي خَبره فَهُوَ فِي مقَام الْإِيمَان والأوّل فِي مقَام الْإِحْسَان هَذَا قد وصل إِلَى علم الْيَقِين وترقى قلبه مِنْهُ إِلَى فنزلة عين الْيَقِين وَذَاكَ مَعَه التَّصْدِيق الْجَازِم الَّذِي خرج بِهِ من الْكفْر وَدخل بِهِ فِي الْإِسْلَام فعين الْيَقِين نَوْعَانِ نوع فِي الدُّنْيَا وَنَوع فِي الْآخِرَة فَالْحَاصِل فِي الدُّنْيَا نسبته إِلَى الْقلب كنسبة الشَّاهِد
1 / 4
إِلَى الْعين وَمَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل من الْغَيْب يعاين فِي الْآخِرَة بالأبصار وَفِي لدُنْيَا بالبصائر فَهُوَ عين يَقِين فِي المرتبتين
فصل وَقد جمعت هَذِه السُّورَة من أصُول الْإِيمَان مَا يَكْفِي ويشفي ويغني عَن
كَلَام أهل الْكَلَام ومعقول أهل الْمَعْقُول فَإِنَّهَا تضمّنت تَقْرِير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوّة وَالْإِيمَان بِالْمَلَائِكَةِ وانقسام النَّاس إِلَى هَالك شقي وفائز سعيد وأوصاف هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء وتضمّنت إِثْبَات صِفَات الْكَمَال لله وتنزيهه عَمَّا يضاد كمله من النقائص والعيوب وَذكر فِيهَا القيامتين الصُّغْرَى والكبرى وَالْعَالمِينَ الْأَكْبَر وَهُوَ عَالم الْآخِرَة والأصغر وَهُوَ عَالم الدُّنْيَا وَذكر فِيهَا خلق الْإِنْسَان ووفاته وإعادته وحاله عِنْد وَفَاته وَيَوْم معاده وإحاطته سُبْحَانَهُ بِهِ من كل وَجه حَتَّى علمه بوساوس نَفسه وَإِقَامَة الْحفظَة عَلَيْهِ يُحصونَ عَلَيْهِ كل لَفْظَة يتَكَلَّم بهَا وَأَنه يوافيه يَوْم الْقِيَامَة وَمَعَهُ سائق يَسُوقهُ إِلَيْهِ وَشَاهد يشْهد عَلَيْهِ فَإِذا أحضرهُ السَّائِق قَالَ ﴿هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ أَي هَذَا الَّذِي أمرت بإحضاره قد أحضرته فَيُقَال عِنْد إِحْضَاره ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عنيد﴾ كَمَا يحضر الْجَانِي إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان فَيُقَال هَذَا فلَان قد أحضرته فَيَقُول اذْهَبُوا بِهِ إِلَى السجْن وعاقبوه بِمَا يستحقّه
وتأمّل كَيفَ دلّت السُّورَة صَرِيحًا على أَن الله سُبْحَانَهُ يُعِيد هَذَا الْجَسَد بِعَيْنِه الَّذِي أطَاع وَعصى فينعمه ويعذّبه كَمَا ينعم الرّوح الَّتِي آمَنت بِعَينهَا ويعذّب الَّتِي كفرت بِعَينهَا لَا أَنه سُبْحَانَهُ يخلق روحا أُخْرَى غير هَذِه فينعمها ويعذبها كَمَا قَالَه من لم يعرف الْمعَاد الَّذِي أخْبرت بِهِ الرُّسُل حَيْثُ زعم أَن الله سُبْحَانَهُ يخلق بدنا غير هَذَا الْبدن من كل وَجه عَلَيْهِ يَقع النَّعيم وَالْعَذَاب وَالروح عِنْده عرض من أَعْرَاض الْبدن فيخلق روحا غير هَذِه الرّوح وبدنا غير هَذَا الْبدن
1 / 5
وَهَذَا غير مَا اتّفقت عَلَيْهِ الرُّسُل ودلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن والسنّة وَسَائِر كتب الله تَعَالَى وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة إِنْكَار للمعاد وموافقة لقَوْل من أنكرهُ من المكذبين فَإِنَّهُم لم ينكروا قدرَة الله على خلق أجسام أخر غير هَذِه الْأَجْسَام يعذبها وينعمها كَيفَ وهم يشْهدُونَ النَّوْع الإنساني يخلق شَيْئا بعد شَيْء فَكل وَقت يخلق الله سُبْحَانَهُ أجسامًا وأرواحًا غير الْأَجْسَام الَّتِي فنيت فَكيف يتعجّبون من شَيْء يشاهدونه عيَانًا وَإِنَّمَا تعجّبوا من عودهم بأعيانهم بعد أَن مزّقهم البلى وصاروا عظاما ورفاتا فتعجّبوا أَن يَكُونُوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء وَلِهَذَا ﴿قَالُوا أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظامًا أئنا لمبعوثون﴾ وَقَالُوا ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بعيد﴾ وَلَو كَانَ الْجَزَاء إِنَّمَا هُوَ لأجسام غير هَذِه ل يكن ذَلِك بعثا وَلَا رجعا بل يكون ابْتِدَاء وَلم يكن لقَوْله ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْض مِنْهُم﴾ كَبِير معنى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جعل هَذَا جَوَابا لسؤال مقدّر وَهُوَ أنّه يُمَيّز تِلْكَ الْأَجْزَاء الَّتِي اخْتلطت بِالْأَرْضِ واستحالت إِلَى العناصر بِحَيْثُ لَا تتميّز فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه قد علم مَا تنقصه الأَرْض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم وَأَنه كَمَا هُوَ عَالم بِتِلْكَ الْأَجْزَاء فَهُوَ قَادر على تَحْصِيلهَا وَجَمعهَا بعد تفرّقها وتأليفها خلقا جَدِيدا وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقرر الْمعَاد بِذكر كَمَال علمه وَكَمَال قدرته وَكَمَال حكمته فَإِن شُبه المنكرين لَهُ كلهَا تعود إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع أَحدهَا اخْتِلَاط أجزائهم بأجزاء الأَرْض على وَجه لَا يتميّز وَلَا يحصل مَعهَا تميز شخص عَن شخص الثَّانِي أَن الْقُدْرَة لَا تتعلّق بذلك الثَّالِث أَن ذَلِك أَمر لَا فَائِدَة فِيهِ أَو إِنَّمَا الْحِكْمَة اقْتَضَت دوَام هَذَا النَّوْع الإنساني شَيْئا بعد شَيْء هَكَذَا أبدا كلما مَاتَ جيل خَلفه جيل آخر فأمّا أَن يُمِيت النَّوْع الإنساني كُله ثمَّ يحيه بعد ذَلِك فَلَا حِكْمَة فِي ذَلِك فَجَاءَت براهين الْمعَاد فِي الْقُرْآن مبينَة على ثَلَاثَة أصُول أَحدهَا تَقْرِير كَمَال علم الرب سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ فِي جَوَاب من قَالَ من يحي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عليم وَقَالَ ﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ وَقَالَ ﴿قَدْ عَلِمْنَا﴾
1 / 6
﴿مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُم﴾ وَالثَّانِي تَقْرِير كَمَال قدرته كَقَوْلِه أَو لَيْسَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَقَوله ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بنانه﴾ وَقَوله ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وانه يحي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كل شَيْء قدير وَيجمع سُبْحَانَهُ بَين الْأَمريْنِ كَمَا فِي قَوْله أَو لَيْسَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم الثَّالِث كَمَال حكمته كَقَوْلِه وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين وَقَوله ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا﴾ وَقَوله ﴿أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً﴾ وَقَوله ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحق﴾ وَقَوله ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَاب أَن الْمعَاد مَعْلُوم بِالْعقلِ مَعَ الشَّرْع وَأَن كَمَال الرب تَعَالَى وَكَمَال أَسْمَائِهِ وَصِفَاته تَقْتَضِيه وتوجبه وَأَنه منزّه عمّا يَقُوله منكروه كَمَا ينزه كَمَاله عَن سَائِر الْعُيُوب والنقائص ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن المنكرين لذَلِك لمّا كذّبوا بِالْحَقِّ اخْتَلَط عَلَيْهِم أَمرهم ﴿فَهُمْ فِي أَمْرٍ مريج﴾ مختلط لَا يحصلون مِنْهُ على شَيْء ثمَّ دعاهم إِلَى النّظر فِي الْعَالم الْعلوِي وبنائه وارتفاعه واستوائه وَحسنه والتئامه ثمَّ إِلَى الْعَالم السفلي وَهُوَ الأَرْض وَكَيف بسطها وهيّأها بالبسط لما يُرَاد مِنْهَا وثبّتها بالجبال وأودع فِيهَا الْمَنَافِع وَأنْبت فِيهَا من كل صنف حسن من أَصْنَاف النَّبَات على اخْتِلَاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه وَصِفَاته وَأَن ذَلِك تبصرة إِذا تأمّلها العَبْد الْمُنِيب وتبصّر بهَا تذكر مَا دلّت عَلَيْهِ مِمَّا أخْبرت بِهِ الرُّسُل من التَّوْحِيد والمعاد فالناظر فِيهَا يتبصّر أَولا ثمَّ يتَذَكَّر ثَانِيًا وَأَن هَذَا لَا يحصل إِلَّا لعبد منيب إِلَى الله بِقَلْبِه وجوارحه ثمَّ دعاهم إِلَى التفكّر فِي مَادَّة أَرْزَاقهم وأقواتهم وملابسهم ومراكبهم وجناتهم وَهُوَ المَاء الَّذِي أنزلهُ من السَّمَاء وَبَارك فِيهِ حَتَّى أنبت بِهِ جنّات مُخْتَلفَة الثِّمَار والفواكه مَا بَين أَبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض وَبَين ذَلِك مَعَ اخْتِلَاف منابعها وتنوع أجناسها وَأنْبت بِهِ
1 / 7
الْحُبُوب كلهَا على تنوعها وَاخْتِلَاف مَنَافِعهَا وصفاتها وأشكالها ومقاديرها ثمَّ أفرد النّخل لما فِيهِ من مَوضِع الْعبْرَة وَالدّلَالَة الَّتِي لَا تخفى عَليّ المتأمل وَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوتهَا ثمَّ قَالَ كَذَلِكَ الْخُرُوج أَي مثل هَذَا الْإِخْرَاج من الأَرْض الْفَوَاكِه وَالثِّمَار والأقوات والحبوب خروجكم من الأَرْض بعد مَا غيّبتم فِيهَا وَقد ذكرنَا هَذَا الْقيَاس وَأَمْثَاله من المقاييس الْوَاقِعَة فِي الْقُرْآن فِي كتَابنَا المعالم وبيّنا بعض مَا فِيهَا من الْأَسْرَار والعبر ثمَّ انْتقل سُبْحَانَهُ إِلَى تَقْرِير النبوّة بِأَحْسَن تَقْرِير وأوجر لفظ وأبعده عَن كل شُبْهَة وَشك فَأخْبر أَنه أرسل إِلَى قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم لوط وَقوم فِرْعَوْن رسلًا فكذّبوهم فأهلكهم بأنواع الْهَلَاك وَصدق فيهم وعيده الَّذِي أَو عدتهمْ بِهِ رسله إِن لم يُؤمنُوا وَهَذَا تَقْرِير لنبوّتهم ولنبوة من أخبر بذلك عَنْهُم من غير أَن يتَعَلَّم ذَلِك من معلّم وَلَا قَرَأَهُ فِي كتاب بل أخبر بِهِ إِخْبَارًا مفصّلا مطابقا لما عِنْد أهل الْكتاب وَلَا يرد على هَذَا إِلَّا سُؤال البهت والمكابرة على جحد الضروريات بِأَنَّهُ لم يكن شَيْء من ذَلِك أَو أَن حوادث الدَّهْر ونكباته أَصَابَتْهُم كَمَا أَصَابَت غَيرهم وَصَاحب هَذَا السُّؤَال يعلم من نَفسه أَنه باهت مبَاحث جَاحد لما شهد بِهِ العيان وتناقلته الْقرن قرنا بعد قررن فإنكاره بِمَنْزِلَة إِنْكَار وجود الْمَشْهُورين من الْمُلُوك وَالْعُلَمَاء والبلاد النائية ثمَّ عَاد سُبْحَانَهُ إِلَى تَقْرِير الْمعَاد بقوله ﴿أَفَعَيِينَا بالخلق الأول﴾ يُقَال لكل من عجز عَن شَيْء عيي بِهِ وعيي فلَان بِهَذَا الْأَمر قَالَ الشَّاعِر
عيوا بأمرهم كَمَا ... عييت ببيضتها الْحَمَامَة وَمِنْه قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَمْ يعي بخلقهن﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس يُرِيد أفعجزنا وَكَذَلِكَ قَالَ مقَاتل قلت هَذَا تَفْسِير بِلَازِم اللَّفْظَة وحقيقتها أَعم من ذَلِك فان الْعَرَب تَقول أعياني أَن أعرف كَذَا وعييت بِهِ إِذا لم تهتد لَهُ لوجهه وَلم تقدر على مَعْرفَته وتحصيله فَتَقول أعياني دواؤك إِذا لم تهتد وَلم تقف عَلَيْهِ ولازم هَذَا الْمَعْنى الْعَجز عَنهُ وَالْبَيْت الَّذِي اسْتشْهدُوا بِهِ شَاهد لهَذَا الْمَعْنى فان الْحَمَامَة لم تعجز عَن
1 / 8
بيضتها وَلَكِن أعيادها إِذا أَرَادَت أَن تبيض أَيْن ترمي بالبيضة فَهِيَ تَدور وتجول حَتَّى ترمي بهَا فَإِذا باضت أعياها أَيْن تحفظها وتودعها حَتَّى لَا تُنال فَهِيَ تنقلها من مَكَان إِلَى مَكَان وتحار أَيْن تجْعَل مقرّها كَمَا هُوَ حَال من عى بأَمْره فَلم يدر من أَيْن يقْصد لَهُ وَمن أَيْن يَأْتِيهِ وَلَيْسَ المُرَاد بالإعياء فِي هَذِه الْآيَة التَّعَب كَمَا يظنّه من لم يعرف تَفْسِير الْقُرْآن بل هَذَا الْمَعْنى هُوَ الَّذِي نَفَاهُ سُبْحَانَهُ عَن نَفسه فِي آخر السُّورَة بقوله ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أنّهم ﴿فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أَي أَنهم الْتبس عَلَيْهِم إِعَادَة الْخلق خلقا جَدِيدا ثمَّ نبههم على مَا هُوَ من أعظم آيَات قدرته وشواهد ربوبيّته وأدلّة الْمعَاد وَهُوَ خلق الْإِنْسَان فَإِنَّهُ من أعظم الْأَدِلَّة على التَّوْحِيد والمعاد وَأي دَلِيل أوضح من تركيب هَذِه الصُّورَة الآدميّة بأعضائها وقواها وصفاتها وَمَا فِيهَا من اللَّحْم والعظم وَالْعُرُوق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات والعلوم والإرادات والصناعات كل ذَلِك من نُطْفَة مَاء فَلَو أنصف العَبْد ربه لاكتفى بفكره فِي نَفسه وَاسْتدلَّ بِوُجُودِهِ على جَمِيع مَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل عَن الله وأسمائه وَصِفَاته ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ عَن إحاطة علمه بِهِ حَتَّى علم وساوس نَفسه ثمَّ أخبر عَن قربه إِلَيْهِ بِالْعلمِ والإحاطة وَأَن ذَلِك أدنى إِلَيْهِ من الْعرق الَّذِي هُوَ دَاخل بدنه فَهُوَ أقرب إِلَيْهِ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْعلم بِهِ من ذَلِك الْعرق وَقَالَ شَيخنَا المُرَاد بقول نَحن أَي ملائكتنا كَمَا قَالَ ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قرآنه﴾ أَي إِذا قَرَأَهُ عَلَيْك رَسُولنَا جِبْرِيل قَالَ وَيدل عَلَيْهِ قَوْله ﴿إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان﴾ فقيد الْقرب الْمَذْكُور بتلقّي الْملكَيْنِ وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ قرب الذَّات لم يتَقَيَّد بِوَقْت تلقي الْملكَيْنِ فَلَا فِي صَحبه الْآيَة لحلولي وَلَا معطّل ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن على يَمِينه وشماله ملكَيْنِ يكتبان أَعماله وأقواله وَنبهَ بإحصاء الْأَقْوَال وكتابتها على كِتَابَة الْأَعْمَال الَّتِي هِيَ أقل وقوعا وَأعظم أثرا من الْأَقْوَال وَهِي غايات الْأَقْوَال ونهايتها ثمَّ أخبر عَن الْقِيَامَة الصُّغْرَى وَهِي سكرة الْمَوْت وَأَنَّهَا تَجِيء بِالْحَقِّ وَهُوَ لقاؤه سُبْحَانَهُ والقدوم عَلَيْهِ وَعرض الرّوح عَلَيْهِ وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب الَّذِي تعجل
1 / 9
لَهَا قبل الْقِيَامَة الْكُبْرَى ثمَّ ذكر الْقِيَامَة الْكُبْرَى بقول ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد﴾ ثمَّ أخبر عَن أَحْوَال الْخلق فِي هَذَا الْيَوْم وَأَن كل أحد يَأْتِي الله سُبْحَانَهُ ذَلِك الْيَوْم وَمَعَهُ سائق يَسُوقهُ وشهيد يشْهد عَلَيْهِ وَهَذَا غير شَهَادَة جوارحه وَغير شَهَادَة الأَرْض الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَهُ عَلَيْهِ وَغير شَهَادَة رَسُوله وَالْمُؤمنِينَ فَإِن الله سُبْحَانَهُ يستشهد على العَبْد الْحفظَة والأنبياء والأمكنة الَّتِي عمِلُوا عَلَيْهَا الْخَيْر وَالشَّر والجلود الَّتِي عصوه بهَا وَلَا يحكم بَينهم بمجرّد علمه وَهُوَ أعدل العادلين وَأحكم الْحَاكِمين
وَلِهَذَا أخبر نبيه أَنه يحكم بَين النَّاس بِمَا سَمعه من إقرارهم وَشَهَادَة البيّنة لَا بمجرّد علمه فَكيف يسوغ لحَاكم أَن يحكم بِمُجَرَّد علمه من غير بيّنة وَلَا إِقْرَار ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن الْإِنْسَان فِي غَفلَة من هَذَا الشَّأْن الَّذِي هُوَ حقيق بِأَن لَا يغْفل عَنهُ وَأَن لَا يزَال على ذكره وباله وَقَالَ ﴿فِي غَفلَة من هَذَا﴾ وَلم يقل عَنهُ كَمَا قَالَ ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مريب﴾ وَلم يقل فِي شكّ فِيهِ وَجَاء هَذَا فِي الْمصدر وان لم يجىء فِي الْفِعْل فَلَا يُقَال غفلت مِنْهُ وَلَا شَككت مِنْهُ كَأَن غفلته وشكه ابْتِدَاء مِنْهُ فَهُوَ مبدأ غفلته وشكّه وَهَذَا أبلغ من أَن يُقَال فِي غَفلَة عَنهُ وَشك فِيهِ فَإِنَّهُ جعل مَا يَنْبَغِي أَن يكون مبدأ التَّذْكِرَة وَالْيَقِين ومنشأهما مبدأ للغفلة وَالشَّكّ ثمَّ أخبر أَن غطاء الْغَفْلَة والذهول يكْشف عَنهُ ذَلِك الْيَوْم كَمَا يكْشف غطاء النّوم عَن الْقلب فيستيقظ وَعَن الْعين فتنفتح فنسبة كشف هَذَا الغطاء عَن العَبْد عِنْد المعاينة كنسبة كشف غطاء النّوم عَنهُ عِنْد الانتباه ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن قرينه وَهُوَ الَّذِي قرن بِهِ فِي الدُّنْيَا من الْمَلَائِكَة يكْتب عمله وَقَوله يَقُول لمّا يحضرهُ هَذَا الَّذِي كنت وكّلتني بِهِ فِي الدُّنْيَا قد أحضرته وَأَتَيْتُك بِهِ هَذَا قَول مُجَاهِد وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة الْمَعْنى هَذَا مَا كتبته عَلَيْهِ وأحصيته من قَوْله وَعَمله حَاضر عِنْدِي وَالتَّحْقِيق أَن الْآيَة نتضمن الْأَمريْنِ أَي هَذَا الشَّخْص الَّذِي وكلت بِهِ وَهَذَا عمله الَّذِي أحصيته عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يُقَال ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ وَهَذَا إِمَّا أَن يكون خطابا للسائق والشهيد
1 / 10
أَو خطابا للْملك الْمُوكل بعذابه وَإِن كَانَ وَاحِدًا وَهُوَ مَذْهَب مَعْرُوف من مَذَاهِب الْعَرَب فِي خطابها أَو تكون الْألف منقلبة عَن نون التَّأْكِيد الْخَفِيفَة ثمَّ أجري الْوَصْل مجْرى الْوَقْف ثمَّ ذكر صِفَات هَذَا الْملقى فَذكر لَهُ سِتّ صِفَات أَحدهَا أَنه كفار لنعم الله وحقوقه كفار بِدِينِهِ وتوحيده وأسمائه وَصِفَاته كفّار برسله وَمَلَائِكَته كفار بكتبه ولقائه الثَّانِيَة أَنه معاند للحق بِدَفْعِهِ جحدا وعنادا الثَّالِثَة أَنه مناع للخير وَهَذَا يعم مَنعه للخير الَّذِي هُوَ إِحْسَان إِلَى نَفسه من الطَّاعَات والقرب إِلَى الله وَالْخَيْر الَّذِي هُوَ إِحْسَان إِلَى النَّاس فَلَيْسَ فِيهِ خير لنَفسِهِ وَلَا لبني جنسه كَمَا هُوَ الْحَال أَكثر الْخلق الرَّابِعَة أَنه مَعَ مَنعه للخير مُعْتَد على النَّاس ظلوم غشوم مُعْتَد عَلَيْهِم بِيَدِهِ وَلسَانه الْخَامِسَة أَنه مريب أَي صَاحب ريب وَشك وَمَعَ هَذَا فَهُوَ آتٍ لكل رِيبَة يُقَال فلَان مريب إِذا كَانَ صَاحب رِيبَة السَّادِسَة أَنه مَعَ ذَلِك مُشْرك بِاللَّه قد اتّخذ مَعَ الله إِلَهًا آخر يعبده وَيُحِبهُ ويغضب لَهُ ويرضى لَهُ وَيحلف باسمه وينذر لَهُ ويوالي فِيهِ ويعادي فِيهِ فيختصم هُوَ وقرينه من الشَّيَاطِين ويحيل الْأَمر عَلَيْهِ وَأَنه هُوَ الَّذِي أطغاه وأضله فَيَقُول قرينه لم يكن لي قوّة أَن أضلّه وأطغيه وَلَكِن كَانَ فِي ضلال بعيد اخْتَارَهُ لنَفسِهِ وآثره على الْحق كَمَا قَالَ إِبْلِيس لأهل النَّار ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي﴾ وعَلى هَذَا فالقرين هُنَا هُوَ شَيْطَانه يختصمان عِنْد الله وَقَالَت طَائِفَة بل قرينه هَهُنَا هُوَ الْملك فيدعي عَلَيْهِ أَنه زَاد عَلَيْهِ فِيمَا كتبه عَلَيْهِ وطغى وَأَنه لم يفعل ذَلِك كُله وَأَنه أعجله بِالْكِتَابَةِ عَن التَّوْبَة وَلم يمهله حَتَّى يَتُوب فَيَقُول الْملك مَا زِدْت فِي الْكِتَابَة على مَا عمل وَلَا أعجلته عَن التَّوْبَة ﴿وَلَكِنْ كَانَ فِي ضلال بعيد﴾ فَيَقُول الرب تَعَالَى ﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَي﴾ وَقد أخبر سُبْحَانَهُ عَن اختصام الْكفَّار وَالشَّيَاطِين بَين يَدَيْهِ فِي سُورَة الصافات والأعراف وَأخْبر عَن اختصام النَّاس بَين يَدَيْهِ فِي سُورَة الزمر وَأخْبر عَن اختصام أهل النَّار فِيهَا فِي سُورَة الشُّعَرَاء وَسورَة ص ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَنه لَا يبدَّل القَوْل لَدَيْهِ فَقيل المُرَاد بذلك قَوْله ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّة وَالنَّاس﴾
1 / 11
أَجْمَعِينَ ووعده لأهل الْإِيمَان بِالْجنَّةِ وَأَن هَذَا لَا يُبدل وَلَا يخلف قَالَ ابْن عَبَّاس يُرِيد مالو عدي خلف لأهل طَاعَتي وَلَا أهل معصيتي قَالَ مُجَاهِد قد قضيت مَا أَنا قَاض وَهَذَا أصح الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَة وفيهَا قَول آخر أَن الْمَعْنى مَا يغيّر القَوْل عِنْدِي بِالْكَذِبِ والتلبيس كَمَا يغيّر عِنْد الْمُلُوك والحكّام فَيكون المُرَاد بالْقَوْل قَول المختصمين وَهُوَ اخْتِيَار الْفراء وَابْن قُتَيْبَة قَالَ الْفراء الْمَعْنى مَا يكذب عِنْدِي لعلمي بِالْغَيْبِ وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة أَي مَا يحرف القَوْل عِنْدِي وَلَا يُزَاد فِيهِ وَلَا ينقص مِنْهُ قَالَ لِأَنَّهُ قَالَ القَوْل عِنْدِي وَلم يقل قولي وَهَذَا كَمَا يُقَال لَا يكذب عِنْدِي فعلى القَوْل الأوّل يكون قَوْله ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ من تَمام قَوْله ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لدي﴾ فِي الْمَعْنى أَي مَا قلته ووعدت بِهِ لَا بُد من فعله وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عدل لَا ظلم فِيهِ وَلَا جور وعَلى الثَّانِي يكون قد وصف نَفسه بأمرين أَحدهمَا أَن كَمَال علمه واطلاعه يمْنَع من تَبْدِيل القَوْل بَين يَدَيْهِ وترويج الْبَاطِل عَلَيْهِ وَكَمَال عدله وغناه يمْنَع من ظلمه لعبيده ثمَّ أخبر عَن سَعَة جهنّم وَأَنَّهَا كلّما ألْقى فِيهَا تَقول هَل من مزِيد وَأَخْطَأ من قَالَ أَن ذَلِك للنَّفْي أَي لَيْسَ من مزِيد والْحَدِيث الصَّحِيح يردّ هَذَا التَّأْوِيل ثمَّ أخبر عَن تقريب الْجنَّة من الْمُتَّقِينَ وَأَن أَهلهَا هم الَّذين اتصفوا بِهَذِهِ الصِّفَات الْأَرْبَع إِحْدَاهَا أَن يكون أوابا أَي رجَّاعًا إِلَى الله من مَعْصِيَته إِلَى طَاعَته وَمن الْغَفْلَة عَنهُ إِلَى ذكره قَالَ عبيد بن عُمَيْر الأوّاب الَّذِي يتَذَكَّر ذنُوبه ثمَّ يسْتَغْفر مِنْهَا وَقَالَ مُجَاهِد هُوَ الَّذِي إِذا ذكر ذَنبه فِي الْخَلَاء اسْتغْفر مِنْهُ وَقَالَ سعيد بن المسيّب هُوَ الَّذِي يُذنب ثمَّ يَتُوب ثمَّ يُذنب ثمَّ يَتُوب الثَّانِيَة أَن يكون حفيظا قَالَ ابْن عبّاس لما ائتمنه الله عَلَيْهِ وافترضه وَقَالَ قَتَادَة حَافظ لما استودعه الله من حقّه وَنعمته وَلما كَانَت النَّفس لَهَا قوّتان قُوَّة الطّلب وَقُوَّة الْإِمْسَاك كَانَ الأواب مُسْتَعْملا لقُوَّة الطّلب فِي رُجُوعه إِلَى الله ومرضاته وطاعته والحفيظ مُسْتَعْملا لقُوَّة الْحِفْظ فِي الْإِمْسَاك عَن مَعَاصيه ونواهيه فالحفيظ الممسك نَفسه عَمَّا حرّم عَلَيْهِ والأوّاب الْمقبل على الله بِطَاعَتِهِ الثَّالِثَة
1 / 12
قَوْله ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ﴾ يتَضَمَّن الْإِقْرَار بِوُجُودِهِ وربوبيته وَقدرته وَعلمه واطلاعه على تفاصيل أَحْوَال العَبْد ويتضمن الْإِقْرَار بكتبه وَرُسُله وَأمره وَنَهْيه ويتضمن الْإِقْرَار بوعده ووعيده ولقائه فَلَا تصح خشيَة الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ إِلَّا بعد هَذَا كُله الرَّابِعَة قَوْله ﴿وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس رَاجع عَن معاصي الله مقبل على طَاعَة الله وَحَقِيقَة الْإِنَابَة عكوف الْقلب على طَاعَة الله ومحبته والإقبال عَلَيْهِ ثمَّ ذكر سُبْحَانَهُ جَزَاء من قَامَت بِهِ هَذِه الْأَوْصَاف بقوله ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود لَهُم مَا يشاؤون فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ ثمَّ خوَّفهم بِأَن يصيبهم من الْهَلَاك مَا أصَاب من قبلهم وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَشد مِنْهُم بطشا وَلم يدْفع عَنْهُم الْهَلَاك شدّة بطشهم وَلَهُم عِنْد الْهَلَاك تقلّبوا وطافوا فِي الْبِلَاد وَهل يَجدونَ محيصا ومنجى من عَذَاب الله قَالَ قَتَادَة حَاص أَعدَاء الله فوجدوا أَمر الله لَهُم مدْركا وَقَالَ الزّجاج طوّفوا وفتشوا فَلم يرو محيصا من الْمَوْت وَحَقِيقَة ذَلِك أَنهم طلبُوا الْمَهْرَب من الْمَوْت فَلم يجدوه ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن فِي هَذَا الذى ذكر ذكرى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ثمَّ أخبر أَنه خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي ستّة أيّام وَلم يمسهُ من تَعب وَلَا إعياء تَكْذِيب لأعدائه من الْيَهُود حَيْثُ قَالُوا أَنه استراح فِي الْيَوْم السَّابِع ثمَّ أَمر نبيه بالتأسي بِهِ سُبْحَانَهُ فِي الصَّبْر على مَا يَقُول أعداؤه فِيهِ كَمَا أَنه سُبْحَانَهُ صَبر على قَول الْيَهُود أَنه استراح وَلَا أحد أَصْبِر على أَذَى يسمعهُ مِنْهُ ثمَّ أمره بِمَا يَسْتَعِين بِهِ على الصَّبْر وَهُوَ التَّسْبِيح بِحَمْد ربه قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا وبالليل وأدبار السُّجُود فَقيل هُوَ الْوتر وَقيل الركعتان بعد الْمغرب وَالْأول قَول ابْن عَبَّاس وَالثَّانِي قَول عمر وَعلي وَأبي هُرَيْرَة وَالْحسن بن عَليّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس وَعَن ابْن عَبَّاس رِوَايَة ثَالِثَة أَنه التَّسْبِيح بِاللِّسَانِ أدبار الصَّلَاة المكتوبات ثمَّ ختم السُّورَة بِذكر الْمعَاد ونداء الْمُنَادِي بِرُجُوع الْأَرْوَاح إِلَى أجسادها للحشر وَأخْبر أَن هَذَا النداء من مَكَان قريب يسمعهُ كل أحد يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَق
1 / 13
بِالْبَعْثِ ولقاء الله يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ كَمَا تشقق عَن النَّبَات فَيخْرجُونَ سرَاعًا من غير مهلة وَلَا بطء ذَلِك حشر يسير عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَنه عَالم بِمَا يَقُول أعداؤه وَذَلِكَ يتضمّن مجازاته لَهُم بقَوْلهمْ إِذْ لم يخف عَلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يذكر علمه وَقدرته لتحقيق الْجَزَاء ثمَّ أخبرهُ أَنه لَيْسَ بمسلط عَلَيْهِم وَلَا قهّار وَلم يبْعَث ليجبرهم على الْإِسْلَام ويكرههم عَلَيْهِ وَأمره أَن يذكر بِكَلَامِهِ من يخَاف وعيده فَهُوَ الَّذِي ينْتَفع بالتذكير وَأما من لَا يُؤمن بلقائه وَلَا يخَاف وعيده وَلَا يَرْجُو ثَوَابه فَلَا ينْتَفع بالتذكير فَائِدَة
قَول النَّبِي لعمر وَمَا يدْريك أَن الله اطّلع على أهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم أشكل على كثير من النَّاس مَعْنَاهُ فَإِن ظَاهره
1 / 14
إِبَاحَة كل الْأَعْمَال لَهُم وتخييرهم فِيمَا شاؤا مِنْهَا وَذَلِكَ مُمْتَنع فَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم ابْن الْجَوْزِيّ لَيْسَ المُرَاد من قَوْله اعْمَلُوا الِاسْتِقْبَال وَإِنَّمَا هُوَ للماضي وَتَقْدِيره أَي عمل كَانَ لكم فقد غفرته قَالَ وَيدل على ذَلِك شَيْئَانِ أَحدهمَا أَنه لَو كَانَ للمستقبل كَانَ جَوَابه قَوْله فسأغفر لكم وَالثَّانِي أَنه كَانَ يكون إطلاقا فِي الذُّنُوب وَلَا وَجه لذَلِك وَحَقِيقَة هَذَا الْجَواب أَنِّي قد غفرت لكم بِهَذِهِ الْغَزْوَة مَا سلف من ذنوبكم لكنه ضَعِيف من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن لفظ اعْمَلُوا يأباه فَإِنَّهُ للاستقبال دون الْمَاضِي وَقَوله قد غفرت لكم لَا يُوجب أَن يكون اعْمَلُوا مثله فَإِن قَوْله قد غفرت تَحْقِيق لوُقُوع الْمَغْفِرَة فِي الْمُسْتَقْبل كَقَوْلِه ﴿أَتَى أَمر الله﴾ وَجَاء رَبك ونظائره الثَّانِي أَن نفس الحَدِيث يردّه فَإِن سَببه قصّة حَاطِب
1 / 15
وتجسسه على النَّبِي وَذَلِكَ ذَنْب وَاقع بعد غَزْوَة بدر لَا قبلهَا وَهُوَ سَبَب الحَدِيث فَهُوَ مُرَاد مِنْهُ قطعا فَالَّذِي نظن فِي ذَلِك وَالله أعلم أَن هَذَا خطاب لقوم قد علم الله سُبْحَانَهُ أنّهم لَا يفارقون دينهم بل يموتون على الْإِسْلَام وَأَنَّهُمْ قد يقارفون بعض مَا يقارفه غَيرهم من الذُّنُوب وَلَكِن لَا يتركهم سُبْحَانَهُ مصرِّين عَلَيْهَا بل يوفّقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذَلِك وَيكون تخصيصهم بِهَذَا دون غَيرهم لِأَنَّهُ قد تحقق ذَلِك فيهم وَأَنَّهُمْ مغْفُور لَهُم وَلَا يمْنَع ذَلِك كَون الْمَغْفِرَة حصلت بِأَسْبَاب تقوم بهم كَمَا لَا يَقْتَضِي ذَلِك أَن يعطّلوا الْفَرَائِض وثوقا بالمغفرة فَلَو كَانَت قد حصلت بِدُونِ الِاسْتِمْرَار على الْقيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذَلِك إِلَى صَلَاة وَلَا صِيَام وَلَا حج وَلَا زَكَاة وَلَا جِهَاد وَهَذَا محَال وَمن أوجب الْوَاجِبَات التَّوْبَة بعد الذَّنب فضمان الْمَغْفِرَة لَا يوجّب تَعْطِيل أَسبَاب الْمَغْفِرَة وَنَظِير هَذَا قَوْله فِي الحَدِيث الآخر أذْنب عبد ذَنبا فَقَالَ أَي ربّ أذنبت ذَنبا فاغفره لي فغفر لَهُ ثمَّ مكث مَا شَاءَ الله أَن يمْكث ثمَّ أذْنب ذَنبا آخر فَقَالَ أَي ربّ أصبت ذَنبا فَاغْفِر لي فغفر لَهُ ثمَّ مكث مَا شَاءَ الله أَن يمْكث ثمَّ أذْنب ذَنبا آخر فَقَالَ رب أصبت ذَنبا فاغفره لي فَقَالَ الله علم عَبدِي أَن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدي فليعمل مَا شَاءَ فَلَيْسَ فِي هَذَا إِطْلَاق وَإِذن مِنْهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي المحرّمات والجرائم وَإِنَّمَا يدل على أَنه يغْفر لَهُ مَا دَامَ كَذَلِك إِذا أذْنب تَابَ
1 / 16
واختصاص هَذَا العَبْد بِهَذَا لِأَنَّهُ قد علم أَنه لَا يصر على ذَنْب وَأَنه كلما أذْنب تَابَ حكم يعم كل من كَانَت حَاله حَاله لَكِن ذَلِك العَبْد مَقْطُوع لَهُ بذلك كَمَا قطع بِهِ لأهل بدر وَكَذَلِكَ كل من بشّره رَسُول الله بِالْجنَّةِ أَو أخبرهُ بِأَنَّهُ مغْفُور لَهُ لم يفهم مِنْهُ هُوَ وَلَا غَيره من الصَّحَابَة إِطْلَاق الذُّنُوب والمعاصي لَهُ ومسامحته بترك الْوَاجِبَات بل كَانَ هَؤُلَاءِ أَشد اجْتِهَادًا وحذرا وخوفا بعد الْبشَارَة مِنْهُم قبلهَا كالعشرة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ وَقد كَانَ الصديّق شَدِيد الحذر والمخافة وَكَذَلِكَ عمر فَلهم علمُوا أَن الْبشَارَة الْمُطلقَة مقيّدة بشروطها والاستمرار عَلَيْهَا إِلَى الْمَوْت ومقيدة بانتقاء موانعها وَلم يفهم أحد مِنْهُم من ذَلِك الْإِطْلَاق الْإِذْن فِيمَا شاؤا من الْأَعْمَال
فَائِدَة جليلة قَوْله تَعَالَى
﴿هُوَ الَّذِي جعل لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور﴾ أخبر سُبْحَانَهُ أَنه جعل الأَرْض ذلولا منقادة للْوَطْء عَلَيْهَا وحفرها وشقّها وَالْبناء عَلَيْهَا وَلم يَجْعَلهَا مستصعبة ممتنعة على من أَرَادَ ذَلِك مِنْهَا وَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه جعلهَا مهادا وفراشا وبساطا وقرارا وكفاتا وَأخْبر أَنه دحاها وطحاها وَأخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها وثبَّتها بالجبال ونهج فِيهَا الفجاج والطرق وأجرى فِيهَا الْأَنْهَار والعيون وَبَارك فِيهَا وقدّر فِيهَا أقواتها وَمن بركتها أَن الْحَيَوَانَات كلهَا وأرزاقها وأقواتها تخرج مِنْهَا وَمن بركاتها أَنَّك تودع فِيهَا الْحبّ فتخرجه لَك أَضْعَاف أَضْعَاف مَا كَانَ وَمن بركاتها أَنَّهَا تحمل الْأَذَى على ظهرهَا وَتخرج لَك من بَطنهَا أحسن الْأَشْيَاء وأنفعها فتوارى مِنْهُ كل قَبِيح وَتخرج لَهُ كل مليح وَمن بركتها أَنَّهَا تستر قبائح العَبْد وفضلات بدنه وتواريها وتضمّه وتؤويه وَتخرج لَهُ طَعَامه وَشَرَابه فَهِيَ أحمل شَيْء للأذى وأعوده بالنفع فَلَا كَانَ من التُّرَاب خير مِنْهُ وَأبْعد من الْأَذَى وَأقرب إِلَى الْخَيْر
1 / 17
وَالْمَقْصُود أَنه سُبْحَانَهُ جعل لنا الأَرْض كَالْجمَلِ الذلول الَّذِي كَيْفَمَا يُقَاد ينقاد وَحسن التَّعْبِير بمناكبها عَن طرقها وفجاجها لما تقدّم من وصفهَا بِكَوْنِهَا ذلولا فالماشي عَلَيْهَا يطَأ على مناكبها وَهُوَ أَعلَى شَيْء فِيهَا وَلِهَذَا فسرت المناكب بِالْجَبَلِ كمناكب الْإِنْسَان وَهِي أعاليه قَالُوا وَذَلِكَ تَنْبِيه على أَن الْمَشْي فِي سهولها أيسر وَقَالَت طَائِفَة بل المناكب الجوانب والنواحي وَمِنْه مناكب الْإِنْسَان لجوانبه وَالَّذِي يظْهر أَن المُرَاد بالمناكب الأعالي وَهَذَا الْوَجْه الَّذِي يمشي عَلَيْهِ الْحَيَوَان هُوَ العالي من الأَرْض دون الْوَجْه الْمُقَابل لَهُ فان سطح الكرة أَعْلَاهَا وَالْمَشْي إِنَّمَا يَقع فِي سطحها وَحسن التَّعْبِير عَنهُ بالمناكب لما تقدّم من وصفهَا بِأَنَّهَا ذَلُول ثمَّ أَمرهم أَن يَأْكُلُوا من رزقه الَّذِي أودعهُ فِيهَا فذلّلها لَهُم ووطّأها وفتق فِيهَا السبل والطرق الَّتِي يَمْشُونَ فِيهَا وأودعها رزقهم فَذكر تهيئة الْمسكن للِانْتِفَاع والتقلب فِيهِ بالذهاب والمجيء وَالْأكل مِمَّا أودع فِيهَا للساكن ثمَّ نبّه بقوله وَإِلَيْهِ النُّشُورُ على أنّا فِي هَذَا الْمسكن غير مستوطنين وَلَا مقيمين بل دخلناه عابري سَبِيل فَلَا يحسن أَن نتخذه وطنا ومستقرّا وَإِنَّمَا دخلناه لنتزوّد مِنْهُ إِلَى دَار الْقَرار فَهُوَ منزل عبور لَا مُسْتَقر حبور ومعبر وممر لَا وَطن ومستقر فتضمّنت الْآيَة الدّلَالَة على ربوبيّته ووحدانيّته وَقدرته وحكمته ولطفه والتذكير بنعمه وإحسانه والتحذير من الركون إِلَى الدُّنْيَا واتخاذها وطنا ومستقرا بل نسرع فِيهَا السّير إِلَى دَاره وجنّته فَالله فِي مَا ضمن هَذِه الْآيَة من مَعْرفَته وتوحيده والتذكير بنعمه والحث على السّير إِلَيْهِ والاستعداد للقائه والقدوم عَلَيْهِ والإعلام بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يطوي هَذِه الدَّار كَأَن لم تكن وَأَنه يحي أَهلهَا بعد مَا أماتهم وَإِلَيْهِ النشور
فَائِدَة للْإنْسَان قوتان قُوَّة علمية نظرية وَقُوَّة عملية إرادية وسعادته
التَّامَّة مَوْقُوفَة على استكمال قوتيه العلمية الارادية واستكمال الْقُوَّة العلمية إِنَّمَا يكون بِمَعْرِفَة
1 / 18
فاطره وبارئه وَمَعْرِفَة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وَمَعْرِفَة الطَّرِيق الَّتِي توصل إِلَيْهِ وَمَعْرِفَة آفاتها وَمَعْرِفَة نَفسه وَمَعْرِفَة عيوبها فبهذه المعارف الْخَمْسَة يحصل كَمَال قوته العلمية وَأعلم النَّاس أعرفهم بهَا وأفقههم فِيهَا استكمال الْقُوَّة العلمية الإرادية لَا تحصل إِلَّا بمراعاة حُقُوقه سُبْحَانَهُ على العَبْد وَالْقِيَام بهَا إخلاصا وصدقا وَنصحا وإحسانا ومتابعة وشهودا لمنّته عَلَيْهِ وتقصيره هُوَ فِي أَدَاء حقّه فَهُوَ مستحي من مواجهته بِتِلْكَ الْخدمَة لعلمه أَنَّهَا دون مَا يستحقّه عَلَيْهِ وَدون دون ذَلِك وَأَنه لَا سَبِيل لَهُ إِلَى استكمال هَاتين القوتين إِلَّا بمعونته فَهُوَ مُضْطَر إِلَى أَن يهديه الصِّرَاط الْمُسْتَقيم الَّذِي هدى إِلَيْهِ أولياءه وخاصّته وَأَن يجنّبه الْخُرُوج عَن ذَلِك الصِّرَاط إِمَّا بِفساد فِي قوته العلمية فَيَقَع فِي الضلال واما فِي قوّته العملية فَيُوجب لَهُ الْغَضَب
فكمال الْإِنْسَان وسعادته لَا تتمّ إِلَّا بِمَجْمُوع هَذِه الْأُمُور وَقد تضمنّتها سُورَة الْفَاتِحَة وانتظمتها أكمل انتظام فَإِن قَوْله ﴿الْحَمد لله رب الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يتضمّن الأَصْل الأوّل وَهُوَ معرفَة الرب تَعَالَى وَمَعْرِفَة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وأفعاله والأسماء الْمَذْكُورَة فِي هَذِه السُّورَة هِيَ أصُول الْأَسْمَاء الْحسنى وَهِي اسْم الله والرب والرحمن فاسم الله متضمّن لصفات الألوهيّة وَاسم الرب متضمّن الربوبية وَاسم الرَّحْمَن مُتَضَمّن لصفات الْإِحْسَان والجود وَالْبر ومعاني أَسْمَائِهِ تَدور لى هَذَا وَقَوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يتضمّن معرفَة الطَّرِيق الموصلة إِلَيْهِ وَأَنَّهَا لَيست إِلَّا عِبَادَته وَحده بِمَا يحبّه ويرضاه واستعانته على عِبَادَته وَقَوله ﴿اهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم﴾ يتضمّن بَيَان أَن العَبْد لَا سَبِيل لَهُ إِلَى سعادته إِلَّا باستقامته على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَأَنه لَا سَبِيل لَهُ إِلَى الاسْتقَامَة إِلَّا بهداية ربه لَهُ كَمَا لَا سَبِيل لَهُ إِلَى عِبَادَته بمعونته فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الاسْتقَامَة على الصِّرَاط إِلَّا بهدايته وَقَوله ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ يتضمّن بَيَان طرفِي الانحراف عَن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَأَن الانحراف إِلَى أحد الطَّرفَيْنِ انحراف إِلَى الضلال الَّذِي هُوَ فَسَاد الْعلم والاعتقاد والانحراف إِلَى الطّرف الآخر انحراف إِلَى الْغَضَب الَّذِي سَببه فَسَاد الْقَصْد وَالْعَمَل
1 / 19
فأوّل السُّورَة رَحْمَة وأوسطها هِدَايَة وَآخِرهَا نعْمَة وحظ العَبْد من النِّعْمَة على قدر حظّه من الْهِدَايَة وحظّه مِنْهَا على قدر حظّه من الرَّحْمَة فَعَاد الْأَمر كلّه إِلَى نعْمَته وَرَحمته وَالنعْمَة وَالرَّحْمَة من لَوَازِم ربوبيّته فَلَا يكون إِلَّا رحِيما منعما وَذَلِكَ من مُوجبَات الهيّته فَهُوَ الْإِلَه الْحق وَإِن جَحده الجاحدون وَعدل بِهِ الْمُشْركُونَ فَمن تحقّق بمعاني الْفَاتِحَة علما وَمَعْرِفَة وَعَملا وَحَالا فقد فَازَ من كَمَاله بأوفر نصيب وَصَارَت عبوديّته عبوديّة الخاصّة الَّذين ارْتَفَعت درجتهم عَن عوام المتعبّدين وَالله الْمُسْتَعَان
فَائِدَة الرب تَعَالَى يَدْعُو عباده فِي الْقُرْآن إِلَى مَعْرفَته من طَرِيقين أَحدهمَا
النّظر فِي مفعولاته وَالثَّانِي التفكر فِي آيَاته وتدبّرها فَتلك آيَاته المشهودة وَهَذِه آيَاته المسموعة المعقولة فالنوع الأوّل كَقَوْلِه إِنَّ فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى آخرهَا وَقَوله إِنَّ فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن وَالثَّانِي كَقَوْلِه ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن﴾ وَقَوله ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْل﴾ وَقَوله ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاته﴾ وَهُوَ كثير أَيْضا
فأمّا المفعولات فَإِنَّهَا دالّة على الْأَفْعَال وَالْأَفْعَال دالّة على الصِّفَات فَإِن الْمَفْعُول يدل على فَاعل فعله وَذَلِكَ يسْتَلْزم وجوده وَقدرته ومشيئته وَعلمه لِاسْتِحَالَة صُدُور الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ من مَعْدُوم أَو مَوْجُود لَا قدرَة لَهُ وَلَا حَيَاة وَلَا علم وَلَا إِرَادَة ثمَّ مَا فِي المفعولات من التخصيصات المتنوعة دالّ على إِرَادَة الْفَاعِل وَأَن فعله لَيْسَ بالطبع بِحَيْثُ يكون وَاحِدًا غير متكرر وَمَا فِيهَا من الْمصَالح وَالْحكم والغايات المحمودة دَال على حكمته تَعَالَى وَمَا فِيهَا من النَّفْع وَالْإِحْسَان وَالْخَيْر دَال على رَحمته وَمَا فِيهَا من الْبَطْش والانتقام والعقوبة دَال
1 / 20
على غَضَبه وَمَا فِيهَا من الْإِكْرَام والتقريب والعناية دَال على محبّته وَمَا فِيهَا من الإهانة والإبعاد والخذلان دَال على بغضه ومقته وَمَا فِيهَا من ابْتِدَاء الشَّيْء فِي غَايَة النَّقْص والضعف ثمَّ سوقه إِلَى تَمَامه ونهايته دَال على وُقُوع الْمعَاد وَمَا فِيهَا من أَحْوَال النَّبَات وَالْحَيَوَان وَتصرف الْمِيَاه دَلِيل على إِمْكَان الْمعَاد وَمَا فِيهَا من ظُهُور آثَار الرَّحْمَة وَالنعْمَة على خلقه دَلِيل على صحّة النبوّات وَمَا فِيهَا من الكمالات الَّتِي لَو عدمتها كَانَت نَاقِصَة دَلِيل على أَن معطي تِلْكَ الكمالات أَحَق بهَا فمفعولاته من أدل شَيْء على صِفَاته وَصدق مَا أخْبرت بِهِ رسله عَنهُ فالمصنوعات شاهدة تصدق الْآيَات المسموعات منبّهة على الِاسْتِدْلَال بِالْآيَاتِ المصنوعات قَالَ تَعَالَى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ أَي أَن الْقُرْآن حق فَأخْبر أنّه لَا بُد من أَن يُرِيهم من آيَاته المشهودة مَا يبيّن لَهُم أَن آيَاته المتلوّة حق ثمَّ أخبر بكفاية شَهَادَته على صِحَة خَبره بِمَا أَقَامَ من الدَّلَائِل والبراهين على صدق رَسُوله فآياته شاهدة بصدقه وَهُوَ شَاهد بِصدق رَسُوله بآياته وَهُوَ الشَّاهِد والمشهود لَهُ وَهُوَ الدَّلِيل والمدلول عَلَيْهِ فَهُوَ الدَّلِيل بِنَفسِهِ على نَفسه كَمَا قَالَ بعض العارفين كَيفَ أطلب لدَلِيل على من هُوَ دَلِيل على كل شَيْء فَأَي دَلِيل طلبته عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ أظهر مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ الرُّسُل لقومهم ﴿أَفِي اللَّهِ شَكّ﴾ فَهُوَ أعرف من كل مَعْرُوف وَأبين من كل دَلِيل فالأشياء عُرفت بِهِ فِي الْحَقِيقَة وَإِن كَانَ عُرف بهَا فِي النّظر وَالِاسْتِدْلَال بأفعاله وَأَحْكَامه عَلَيْهِ
فَائِدَة فِي الْمسند وصحيح أبي الحاتم من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود قَالَ
قَالَ رَسُول الله مَا أصَاب عبدا هم وَلَا حزن فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبدك وَابْن عَبدك ابْن أمتك ناصيتي بِيَدِك مَاض فِي حكمك عدل فِي قضاؤك أَسأَلك بِكُل اسْم هُوَ لَك سميت بِهِ نَفسك أَو أنزلته فِي كتابك أَو علّمته أحدا من خلقك أَو استأثرت
1 / 21
بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك أَن تجْعَل الْقُرْآن ربيع قلبِي وَنور صَدْرِي وجلاء حزني وَذَهَاب همّي وغمّي إِلَّا أذهب الله همه وغمه وأبدله مَكَانَهُ فَرحا قَالُوا يَا رَسُول الله أَفلا نتعلّمهن قَالَ بلَى يَنْبَغِي لمن سمعهن أَن يتعلّمهن فتضمّن هَذَا الحَدِيث الْعَظِيم أمورا من الْمعرفَة والتوحيد والعبوديّة مِنْهَا أَن الدَّاعِي بِهِ صدَّر سُؤَاله بقوله إِنِّي عَبدك ابْن عَبدك ابْن أمتك وَهَذَا يتَنَاوَل مَن فَوْقه من آبَائِهِ وأمهاته إِلَى أَبَوَيْهِ آدم وحوّاء وَفِي ذَلِك تملّق لَهُ واستخذا بَين يَدَيْهِ واعتراف بِأَنَّهُ مَمْلُوكه وآباؤه مماليكه وَأَن العَبْد لَيْسَ لَهُ غير بَاب سيّده وفضله وإحسانه وَأَن سيّده إِن أهمله وتخلّى عَنهُ هلك وَلم يُؤوه أحد وَلم يعْطف عَلَيْهِ بل يضيع أعظم ضَيْعَة فتحت هَذَا الِاعْتِرَاف أَنِّي لَا غنى بِي عَنْك طرفَة عين وَلَيْسَ لي من أعوذ بِهِ وألوذ بِهِ غير سيّدي الَّذِي أَنا عَبده وَفِي ضمن ذَلِك الِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ مربوب مدبّر مَأْمُور مَنْهِيّ إِنَّمَا يتصرّف بِحكم العبوديّة لَا بِحكم الِاخْتِيَار لنَفسِهِ فَلَيْسَ هَذَا شَأْن العَبْد بل شَأْن الْمُلُوك والأحرار وَأما العبيد فتعرفهم على مَحْض العبوديّة فَهَؤُلَاءِ عبيد الطَّاعَة المضافون إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي قَوْله ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِم سُلْطَان﴾ وَقَوله ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْض هونا﴾ وَمن عداهم عبيد الْقَهْر والربوبية فأضافتهم إِلَيْهِ كإضافة سَائِر الْبيُوت إِلَى ملكه وَإِضَافَة أُولَئِكَ كإضافة الْبَيْت الْحَرَام إِلَيْهِ اضافة نَاقَته إِلَيْهِ وداره الَّتِي هِيَ الْجنَّة إِلَيْهِ وَإِضَافَة عبودية رَسُوله إِلَيْهِ بقوله ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا على عَبدنَا﴾ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ وَفِي التَّحْقِيق بِمَعْنى قَوْله أَنِّي عَبدك الْتِزَام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة وامتثال أَمر سيّده وَاجْتنَاب نَهْيه ودوام الافتقار اليه واللجأ إِلَيْهِ والاستعانة بِهِ والتوكّل عَلَيْهِ وعياذ العَبْد بِهِ ولياذه بِهِ وَإِن لم لَا يتعلّق قلبه بِغَيْرِهِ محبّة وخوفا ورجاء وَفِيه أَيْضا أَنِّي عبد من جَمِيع الْوُجُوه صَغِيرا وكبيرا حيّا وميّتا ومطيعا وعاصيا معافى ومبتلى بِالروحِ وَالْقلب وَاللِّسَان والجوارح وَفِي أَيْضا أَن مَالِي وَنَفْسِي ملك لَك فَإِن العَبْد وَمَا
1 / 22