قال الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ١ وصف إبراهيم ﵇ بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد:
الأولى: أنه كان أمة; أي قدوة وإماما معلما للخير. وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين تنال بهما الإمامة في الدين.
الثانية: قوله: "قانتا" قال شيخ الإسلام: "القنوت دوام الطاعة، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت. قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ ٤ " اهـ ملخصا.
الثالثة: أنه كان حنيفا "قلت" قال العلامة ابن القيم: " "الحنيف" المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه". اهـ.
الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه، وبعده عن الشرك٣.
_________
١ سورة النحل آية: ١٢٠.
٢ سورة الزمر آية: ٩.
٣ قال العلامة ابن القيم ﵀ في مفتاح دار السعادة في الوجه ١٤٧ من فضل العلم: "إن الله أثنى على إبراهيم خليله بقوله: (إن إبراهيم كان أمة) الآية. فهذه أربعة أنواع من الثناء، افتتحها بأنه "أمة" وهو القدوة الذي يؤتم به. قال ابن مسعود: "الأمة: المعلم للخير" وهي فعلة- بضم الفاء- من الائتمام كالقدوة، وهو الذي يقتدى به. والفرق بين "الأمة" و"الإمام" من وجهين: أحدهما: أن الإمام كل ما يؤتم به، سواء كان بقصده وشعوره أو لا، ومنه سمي الطريق إماما. كقوله تعالى: (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) أي بطريق واضح لا يخفى على السالك. ولا يسمى الطريق أمة. الثاني: أي "الأمة" فيه زيادة معنى. وهو الذي جمع صفات الكمال في العلم والعمل، وهو الذي بقي فيها فردا وحده، فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره، فكأنه باين غيره باجتماعها فيه، وتفرقها أو عدمها في غيره. ولفظ "الأمة" يشعر بهذا المعنى، لما فيه من الميم المضعفة الدالة على الضم بمخرجها وتكريرها، وكذلك ضم أوله. فإن الضمة من الواو ومخرجها، فيضم عند النطق بها. وأتى بالتاء الدالة على الوحدة كالغرفة واللقمة. ومنه الحديث: "إن زيد بن عمرو بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده" فالضم والاجتماع لازم لمعنى الأمة. ومنه سميت الأمة التي هي آحاد الأمم، لأنهم الناس المجتمعون على دين واحد أو في عصر واحد. الثاني: قوله: "قانتا" قال ابن مسعود: "القانت": المطيع. والقنوت يفسر بأشياء كلها ترجع إلى دوام الطاعة. الثالث: قوله: "حنيفا" والحنيف: المقبل على الله. ويلزم من هذا المعنى ميله عما سواه، فالميل لازم معنى الحنيف، لا أنه موضوعه لغة. الرابع: قوله: "شاكرا لأنعمه" والشكر للنعم مبني على ثلاثة أركان: الإقرار بالنعمة، وإضافتها إلى المنعم بها، وصرفها في مرضاته والعمل فيها بما يجب. فلا يكون العبد شاكرا إلا بهذه الثلاثة. والمقصود: أنه سبحانه مدح خليله بأربع صفات كلها ترجع إلى العلم والعمل بموجبه وتعليمه ونشره، فعاد الكمال كله إلى العلم والعمل بموجبه ودعوة الخلق إليه". اهـ.
وقال في قرة العيون: قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: يمدح الله تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء: بتبرئته من المشركين ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية. و"الأمة" هو الإمام الذي يقتدى به. و"القانت" هو الخاشع المطيع، والحنيف: المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال: (ولم يك من المشركين) . وقال مجاهد: كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده، والناس كلهم إذ ذاك كفار. قلت: وكلا القولين حق. فقد كان الخليل ﵇ كذلك. وقول مجاهد - والله أعلم - لما كان الخليل كذلك في ابتداء دعوته ونبوته ورسالته ﵇، فمدحه الله تعالى بتبرئته من المشركين; كما قال تعالى: ٤١: ١٩، ٤٢ (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) الآيات (٤٣-٥٠) وقوله ٨٣: ٣٧، ٨٤ (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم) الآيات ٨٥-١١٣) فهذا - والله أعلم - كان في ابتداء دعوته ﵊ ولم يكن إذ ذاك على وجه الأرض مسلم غيره. وبذلك جاء الحديث. وقوله: (ولم يك من المشركين) فقد فارق المشركين بالقلب واللسان والأركان، وأنكر ما كانوا عليه من الشرك بالله في عبادته وكسر الأصنام، وصبر على ما أصابه في ذات الله. وهذا هو تحقيق التوحيد وهو أساس الدين ورأسه. كما قال تعالى: ١٣١: ١٢ (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) وأنت تجد أكثر من يقول "لا إله إلا الله" ويدعي الإسلام يفعل الشرك بالله في عبادته. بدعوة من لا يضر ولا ينفع من الأموات والغائبين والطواغيت والجن وغيرهم، ويحبهم ويواليهم، ويخافهم ويرجوهم، وينكر على من دعا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، ويزعم أن ذلك بدعة وضلالة، ويعادي من عمل به وأحبه وأنكر الشرك وأبغضه، وبعضهم لا يعد التوحيد علما ولا يلتفت إليه لجهله به وعدم محبته فالله المستعان.
1 / 58