المحاكمة
وقف أوباس هناك وقفة قاض وليس وقفة متهم، وقف وهو ينظر إلى من حوله نظره إلى أناس ضعفاء، ولم يهمه عددهم ولا ما في أيديهم من السلطة والنفوذ، وخصوصا الملك؛ لأن أوباس كان يعده غلاما غرا، وزاد احتقارا له بعد ما شهد من أمره مع فلورندا. والرجل الحر يقدر الناس بفضائلهم لا بمناصبهم وإن كان الناس قد تعودوا احترام أهل المناصب والغنى والنفوذ، ولكنهم لا يزالون في أعماق نفوسهم يفضلون رجال الفضيلة ولا يعدون احترامهم لغيرهم إلا خوفا من الظلم أو التماسا للنفع. على أن منهم من يبالغ في إطراء أهل النفوذ حتى ينخدعوا عن أنفسهم ويزداد ضررهم، فإذا كثر أولئك المتملقون في بلاط ملك ضعيف اغتر بنفسه وانقاد لأهوائه وعمل بمشورتهم - والمتملقون لا يصلحون للشورى - فتسوء الأحوال، ويسود أهل الفساد، وتئول البلاد إلى الدمار والعياذ بالله.
وكان أوباس ممن لا يذعنون إلا للحقيقة ولا يخيفه إلا الخروج عن جادة الحرية، ولم يكن يشعر أنه حي لنفسه رغبة في الحياة الدنيا أو طمعا في مناصبها أو ملاذها، ولكنه كان يرى نفسه - منذ أن اعتزل العالم في سلك الكهنة - أنه إنما يعيش عبدا لمبدأ يراه مجسما في مخيلته، ويستغرب تغافل الناس عنه، كان يرى نفسه أسيرا للحق عبدا للحقيقة وحرية الفكر، لا يعرف المداهنة والمراوغة، فلا تعجب إذا رأيته واقفا في ذلك المجلس لا يهاب أحدا منهم؛ إذ كان يرى الحق أعظم منهم وأشد هيبة.
فلما وقف أوباس وقف الكاتب ووجه خطابه نحوه قائلا: «أبلغ سيادتكم أننا استقدمناكم إلى هذا المجمع يا حضرة الميتروبوليت لتهمة موجهة إليكم، وكل واحد منا يتمنى أن تكون باطلة وتبرأ ساحتكم. إنكم متهمون بالمؤامرة على خلع جلالة الملك ... ولا يخفى على سيادتكم أن مثل هذه التهمة لا تمس جلالة الملك فقط، بل هي تتناول هذا المجلس كله؛ لأنه هو الذي انتخبه وأقره ...»
وكان الأب مرتين في أثناء كلام الكاتب شاخصا بعينيه متطاولا بعنقه، فلما سمعه يقول ذلك أشار بإطباق جفنيه وهز رأسه أن: «أحسنت»؛ لأنه حسب أن ذلك يزيد نقمة الأساقفة وسائر أعضاء المجمع عليه.
أما أوباس فلم يكن يعبأ بما يبدو من أحد، فلما فرغ الكاتب من كلامه استولى السكوت على الجلسة وتطاولت الأعناق لسماع ما يقوله أوباس، فإذا هو يقول بصوت هادئ: «سمعت كلامك وما تقوله من أمر اتهامي، ولكني لا أجيب عليه قبل أن أعرف الرجل الذي اتهمني.»
فالتفت الكاتب نحو الملك وحنى رأسه كأنه يقول: «جلالة الملك نفسه.»
فقال أوباس: «وما هي أدلته على هذه التهمة؟» فأراد الأب مرتين أن يقلد أوباس في رباطة جأشه وتأنيه، فظل جالسا والتفت إلى الأساقفة لفتة الاستخفاف والتهكم وأخرج شفتيه من غورهما وزمهما، وأصعد حاجبيه وهز رأسه كأنه يقول لهم: «اسمعوا قول هذا الغبي كيف يطلب من الملك شاهدا على قوله.»
أما الكاتب فلم يسعه إلا أن يلتفت إلى رودريك كأنه ينتظر جوابه على قول أوباس، فأشار الملك إلى الأب مرتين أن يجيبه فوقف مرتين وقد نسي التأني ورباطة الجأش وعاد إلى فطرته العجولة، فلما رآه الأساقفة يهم بالكلام أصاخوا بسمعهم لما يقوله لئلا تفوتهم ألفاظه بالتمتمة فلا يفهمون ما يريد - وهم سيبنون حكمهم على جوابه - أما هو فقال: «أتطلب الأدلة على ثبوت التهمة عليك وكل القرائن تؤيدها؟ يكفي أنكم منذ كان الملك السابق حيا لا تزالون تسعون في خلع طاعة الكنيسة الكاثوليكية والرجوع إلى الآريوسية، وقد كان تنصيب جلالة الملك ضربة كبيرة عليكم جميعا، فأخذتم تبذلون كل رخيص وغال في مقاومته ولكنه مؤيد من الله والكنيسة. ومن عجيب أمرك أن تطلب الشهادة على صدق قول جلالته.» ولم يبلغ إلى هنا حتى تعبت آذان الحاضرين من كلامه المتقطع، فالتفت أوباس إلى الحضور وهو يبتسم وقال: «بل من الغرائب استغراب طلب الدليل على تهمة موجهة نحو أسقف له مكانته الدينية بين الناس، تهمة أقل ما يقال فيها أنها مختلقة، نعم مختلقة ولو قالها جلالة الملك؛ لأن الحق فوق الملوك والأساقفة. ثم لا أدري ما الذي يسوغ هذه التهمة، كيف يقال إني تآمرت على خلع هذا الملك؟ ومع من تآمرت؟ وأين؟ وكيف؟ وهل تكون المؤامرة أو التواطؤ إلا بين جماعة؟ فمن هم شركائي في التهمة؟ إنه قول غير معقول، لا أقول ذلك فرارا من العقاب؛ لأن العقاب لا يهمني.»
التصريح
অজানা পৃষ্ঠা