وأما رودريك فإنه رجع إلى قصر فلورندا وفؤاده يتقد حنقا وكيدا، ولا تسل عن حاله حينما لم يجد أحدا في كل ذلك القصر، ورأى حجرة فلورندا مشوشة بما حمل منها من الأدوات خفيفة الحمل غالية الثمن.
رجع رودريك إلى غرفته وهو يكاد يتميز غيظا، وبعث إلى قيم قصره في تلك الساعة فجاءه، فابتدره الملك بالسؤال عمن خرج من ذلك القصر في تلك الليلة، فاهتم القيم بالأمر وسأل الخدم، فقالوا إنهم يقيمون في الطبقة السفلى ولا يؤذن لهم بالصعود إلى فوق مطلقا، وهم على ثقة بأن باب القصر لم يفتح في تلك الليلة وإنهم لم يروا أحدا خارجا من مكان آخر؛ لأن الظلام كان مخيما، وقد منعهم سقوط المطر وهبوب العواصف من الانتباه لما يحدث في الخارج، فسألوا الحراس فكان عذرهم انشغالهم بالزوابع والعواصف عن كل شاغل. وأخيرا بحثوا في الطريقة التي يمكن الفرار بها، فإذا هي من النافذة المطلة على النهر، ورأوا على نواتئ الأغصان اليابسة نتفا من الفرو تناثر من أهداب قباء فلورندا.
فتحقق رودريك عندئذ أن أوباس ساعدها على ذلك الفرار فحمي غضبه عليه، وعزم على الإيقاع به، فعاد وقد أنهكه التعب وأثر الفشل في نفسه، فأحس كأنه أفاق من سكرة، وأحب الخلوة فآوى إلى فراشه ولكنه ظل يتقلب على مثل الجمر، ولم يستطع نوما وقلبه يتقد حنقا من أوباس، فلم ير ما يفرج كربته إلا باستدعاء مرتين، وهو مستودع أسراره، فنهض من الفراش حتى لقي أحد الحراس الواقفين ببابه فأمره أن يستقدم الأب مرتين على عجل ولو كان في فراشه.
فذهب الحارس إلى غرفة مرتين وطرق بابها، وكان قد خلع ثيابه وتدثر بقميص النوم وجلس في الفراش وبدأ بصلاة النوم، فوقف الرجل خارجا حتى فرغ الأب من الصلاة ثم دخل عليه وأبلغه أمر الملك باستقدامه؛ ففرح لعلمه أنه لم يدعه إلا للإيقاع بأوباس، فنهض في الحال وهو لا يزال بذلك اللباس، وتزمل فوقه برداء واسع من الفرو، ولم يضع القلنسوة على رأسه وكان شعره منفوشا أبيض كأنه كتلة من القطن فوق رأسه، ومشى حتى دخل على الملك، وكان رودريك أيضا في نحو ذلك من المظهر الغريب بعد أن تقلب في الفراش، وقد اختلطت ضفائر رأسه بشعر لحيته وشاربه، وأثر الغضب والفشل في سحنته. فلما دخل مرتين عليه شعر بارتياح لرؤيته فنهض لاستقباله، وقبل يده ودعاه للجلوس بجانبه فجلس وهو يقول: «أرجو أن يكون جلالة الملك قد دعاني لأمر يسره.»
فقال: «لا أظنك تجهل السبب الذي دعوتك من أجله، وقد كنت في هذا المساء ترى وتسمع ما كان من أوباس.»
فرأى مرتين أن يتملق الملك، فقطع كلامه قائلا: «إنها وقاحة غريبة وليس أغرب منها إلا صبر جلالة الملك عليها.»
فقال رودريك: «إنها في الحقيقة وقاحة لم أكن أتوقعها من قوم قد أذقناهم الذل وأخذنا الحكم من أيديهم. ألا يخاف أوباس من غضبي؟»
فقال مرتين: «أظن أن جلالة الملك لم ينتبه لفحوى أقواله، وأوباس مشهور بقلة الكلام وكثرة التفكير، وإذا قال كلمة يجب التمعن في فحواها لأنه لا يتكلم عن هوى ولا يلقي الكلام جزافا. ألم تسمع قوله لجلالتكم: «إذا كان لنا مطمع في الملك فإن قوات السماء تقدر على إخراجه من يدك»؟ إنها جسارة غريبة تدل على ما يعده من الشراك والمكايد. ولا أظنه إلا محاولا أن يعقد المجالس السرية ويتعاون مع الأعداء على خلع الملك، ولكنه سيبوء - ولا محالة - بالخيبة ...»
وأحس رودريك عند سماع هذا التعليل بارتياح لأنه اكتشف بابا لاتهام أوباس والقبض عليه وعلى من في منزله لعله يجد فلورندا بينهم، وقد غلب على خاطره أنها فرت إلى هناك؛ إذ ليس لها من الأقارب أحد، فقال: «ما الرأي يا حضرة الأب في هذا الخائن؟»
قال: «الرأي أن تقبض عليه حالا في هذه الساعة قبل أن يتأهب أو يدس الدسائس؛ لأنه خرج من قصرك وهو يهددك، فلا تكن هينا، والحلم في هذا المقام ضعف.»
অজানা পৃষ্ঠা