فعلم رودريك أنه يشير إلى أوباس ويود إبعاده، فقال: «إن إبقاء رأس الحية بين أيدينا أسلم عاقبة لنا، ولا سيما إذا كان الذنب بعيدا» ففهم مرتين إشارته وسكت.
فنهض الملك للحال وكتب ذلك الكتاب، وبعث به إلى ألفونس كما تقدم وصبر حتى أنبئوه بنفاذ أمره، وأن ألفونس جاء إلى المعسكر وتهيأ للسفر. وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وأقبل الظلام وكأن إقباله زاد الملك تعاميا عن فظاعة ما نواه ولم يعد يستطيع صبرا إلى اليوم التالي، فتناول طعام المساء مع زوجته وأكثر من تعاطي الخمر على تلك المائدة ليداري ما ثار في نفسه من النيران الشيطانية.
نهض رودريك عن المائدة وقد امتلأ جوفه، ودارت الخمر في رأسه، وتحول توا إلى غرفته، والقس لا يزال على المائدة مع زوجته. وعندما دخل رودريك الغرفة أغلق الباب وراءه، وفتح الباب الآخر وسار في الدهليز نحو غرفة فلورندا.
أما فلورندا فكانت بعد إعمال الفكرة قد كتبت ذلك الكتاب إلى ألفونس ودفعته إلى العجوز، فأرسلته مع خادم تعتقد في إخلاصه، وعادت ولبثت تنتظر الجواب، فشغلها الانتظار عن كل تفكير، فقضت في الانتظار ساعة ظنتها شهرا أو سنة، فكانت تارة تطل من الباب، وأخرى من النافذة المشرفة على النهر، وآونة تدعو خالتها وتستفتيها في سبب التأخير، وهي تهون عليها، حتى عاد الرسول بذلك الجواب فخفق قلبها سرورا، وأول شيء فعلته أنها قبلت الأيقونة وشكرتها على إجابة صلواتها، وأخذت تجمع ما خف حمله من الحلي ونحوها والعجوز تساعدها حتى غابت الشمس. وعند ذلك تركت فلورندا كل شيء وتحولت إلى النافذة وجلست إليها، وأرسلت بصرها إلى مجرى النهر تنتظر ظهور النور المثلث مع علمها أن الموعد المحدد لا يزال بعيدا، ولكن القلق أوهمها أنه قريب. وكان الطقس قد برد وتلبدت الغيوم فأغبرت السماء وعصفت الرياح وأومض البرق وقصف الرعد، ولم يمض قليل حتى تساقطت الأمطار، ولكن ذلك كله لم يشغلها عن التفرس في النهر وركبتاها ترتعدان أملا وفرحا. وكانت كلما لاح برق ظنته مشعال حبيبها، وقد تنفرج الغيوم فيقع بعض ظل الكواكب في مجرى النهر فتحسبها نورا مثلثا، وربما كانت عشرين كوكبا فتظن تعددها ناتجا عن تكسر سطح النهر بالأمواج، أو تتوهم أن السبب في ذلك هو اعتراض بعض أغصان الحديقة بينها وبين النهر، وبخاصة الأغصان الضخمة القائمة تجاه النافذة.
تجربة أخرى
وفيما هي تعلل نفسها بقرب الفرج، وقد وجهت كل حواسها وعواطفها إلى ما هو خارج تلك النافذة نحو النهر، انتبهت بغتة فسمعت وقع أقدام رودريك في الدهليز، فخارت قواها وتسارعت ضربات قلبها حتى كاد يغشى عليها، وأحست على الفور بما يحدق بها وكانت في غفلة عنه، فجلست على البساط وجعلت تتضرع إلى الله أن يساعدها وينقذها هذه المرة، ولم تجد إلا خالتها فقالت لها: «أليست هذه هي خطوات الملك؟» ولم تتم كلامها حتى خرجت العجوز ثم عادت وهي تقول: «الملك يدعوك إلى تلك الغرفة.»
فصاحت فلورندا: «ويلاه! ما هذا المصاب؟ يا إلهي.» ولطمت وجهها وأخذت في البكاء.
فتقدمت العجوز إليها وجعلت تخفف عنها وهي لا تدري بماذا تعزيها هذه المرة، على أنها لم تر خيرا من الرجوع إلى العزاء الأكبر - وهو الدين - فقالت: «توكلي على الله، فهو الذي أنقذك في المرة الماضية وسوف ينقذك الآن، وما ذلك على الله بعسير.»
وكانت فلورندا من أهل الإيمان الوطيد، فتضرعت إلى الله أن يعينها هذه المرة أيضا، والتفتت إلى خالتها وقالت لها: «أتوسل إليك يا خالة أن تصلي من أجلي وتطلبي إلى الله أن ينقذني من هذه التجربة.»
فقالت: «سأظل هنا جاثية أمام هذه الأيقونة إلى حين رجوعك؛ لأني لو صحبتك ما نفعتك، ولا يساعدنا على هذا العدو غير الله وحده.»
অজানা পৃষ্ঠা