فقالت العجوز: «ما لي أراك تحسبين الشقاء محيطا بك من كل ناحية، وأنت من أسعد خلق الله؟! كيف تقولين إن ألفونس من أسباب شقائك وهو خطيبك، ويتفانى في سبيل رضاك؟»
قالت فلورندا: «أعلم ذلك وهو الذي يزيد قلقي. أحبه ويحبني، ولكن ما الفائدة من هذا الحب؟ إن الذنب ذنبك يا خالة، أنت علقت قلبي به، وكنت خالية البال لا أعرف القلق. سامحك الله!»
قالت العجوز: «لم أندم - أبدا - على ما بذلته من الجهد في تقريب قلبيكما لأنكما متفقان خلقا وخلقا، وأنتما من عائلة واحدة، ولما سعيت في تقريبكما كان هو ولي عهد هذه المملكة الواسعة. ولما وفقت إلى ارتباطكما برباط الخطبة حسبت أنني بلغت بك أوج السعادة؛ لأن ألفونس كان على وشك أن يصير ملكا على إسبانيا كلها، فتكونين أنت ملكة القوط. ولم يخطر لي على بال أن يحدث ما حدث من الانقلاب، فيسعى أهل المطامع والأغراض في قتل أبيه ونزع الملك منه ليكون لأحد قواده.» ولما قالت ذلك خفضت من صوتها والتفتت إلى ما حولها مخافة أن يسمعها أحد، ثم عادت إلى إتمام حديثها، فقالت: «فإذا كنت تعتبرين ضياع الملك من بين يديه شقاء، فلا ألومك.»
فقطعت فلورندا كلام خالتها، وقالت: «لا، لا، ليس ذلك سبب شقائي، وإنما هو انقطاع ألفونس عن المجيء إلي، ها قد مضت أشهر ولم أشاهده، وأظنني لن أشاهده بعد أعوام وبخاصة بعد انتقالي إلى هذا القصر. أعوذ بالله من هذا الانتقال! إن قلبي يحدثني بسوء سيصيبني منه؛ ولذا ترينني منذ انتقلت إليه وأنا منحرفة الصحة لا يهنأ لي عيش.»
فقالت العجوز: «أراك واهمة يا حبيبتي، فما في هذا القصر إلا ما يدعو للانشراح. وأما سبب انقباضك فهو شوقك لألفونس، وهذا لا ألومك عليه، وإن يكن معذورا في تغيبه؛ لأن الملك يراقب حركاته وسكناته خوفا منه لعلمه بما اختلسه من قبضة يده.»
وكان القارب الذي وقع نظر فلورندا عليه في أعلى النهر قد توارى بين بعض الصخور، ثم ظهر من بينها - مرة أخرى - على مقربة من حديقة القصر. ولما وقع نظر فلورندا عليه خفق قلبها لأنها رأت فيه ألفونس واثنين من رجاله، فلم تعد تعلم ماذا تقول، واكتفت بالإشارة إليه، ثم اقترب القارب من الضفة ونزل ألفونس إلى البر، وأشار إلى الرجلين فنزل أحدهما ومشى في جهة أخرى، وظل الثاني في القارب. وأما ألفونس فحين وقع نظره على فلورندا أسرع إليها وعليه لباس القواد الرسمي، وهو عبارة عن: سراويل منتفخة قصيرة مبطنة بالفرو إلى الركبة، وحول صدره درع مقفل من الأمام وفوقه قباء قصير أرجواني اللون، وحول خصره منطقة من جلد عريضة، وعلى رأسه قبعة صغيرة لها جناحان من ريش الطير، ومن تحت القبعة شعره الأسود يسترسل على كتفيه. وكان ألفونس في العشرين من عمره، ولم يستطل شعر عارضيه وشاربه بعد. وكان أبيض الوجه، أسود العينين، إذا حدقت في عينيه تبينت فيهما الحب والوداعة مع النباهة، ولم تر فيهما شيئا من المكر. وكان قد تعلق بحب فلورندا منذ أن كان أبوه على عرش إسبانيا، وهو يومئذ ولي عهد المملكة لأنه أكبر إخوته. وكانت فلورندا تستبعد أن يكون لها يومئذ، ولكن خالتها العجوز سعت لدى الملكة والدة ألفونس قبل وفاتها بما لها من الدالة عليها، فنجحت فيما سعت إليه، وتعلق ألفونس بفلورندا تعلقا شديدا، وكان يتردد عليها كثيرا ويجالسها كل يوم تقريبا، ثم انشغل عنها بعد وفاة والده بما انتابه من ضياع الآمال. وأصبح رودريك الملك الجديد، وقد وضع عليه العيون والأرصاد، فخشي ألفونس أن يجيء إليها، ولكنه كان يترقب الفرص لرؤيتها والسؤال عن أحوالها، حتى سمع بانتقالها من القصر القديم إلى القصر الملاصق لقصر الملك، وأنها تقيم فيه وحدها؛ فهاجت فيه عوامل الغيرة، ولم يعد يستطيع صبرا عن مقابلتها للتمتع برؤيتها واستطلاع رأيها، فإذا رآها لا تزال على عهدها أسرع في عقد القران؛ لأنه كان يظنها قد زهدت فيه بعد خروج الملك من بين يديه. واتفق احتفال أهل طليطلة بعيد الميلاد في تلك الأثناء، وقد خرج الملك في موكبه إلى الكنيسة الكبرى، وألفونس في جملة الحاشية وعليه اللباس الرسمي، فخطر له - وهو في الطريق - أن يتخلف عن الموكب خلسة ويمضي إلى فلورندا لأنه كان قد بلغه انحراف صحتها، فرجح أنها لن تخرج إلى الصلاة في ذلك اليوم، ورأى أن يستقل القارب لئلا يراه أحد في أسواق المدينة، وجاء معه في القارب اثنان من خاصته، فلما نزل إلى البر أرسل أحدهما لاستقدام فرسه حتى يعود عليه راكبا إلى الموكب قبيل خروج الملك من الصلاة، واستبقى الآخر في القارب لحين الحاجة. أمر خادمه بذلك والتفت، فوقع بصره على فلورندا، فاندفع يسرع نحوها وهو يثب وثبا، والمسافة بينه وبينها نحو مائة متر.
لغة الحب
أما فلورندا فقد اندهشت حين رأت ألفونس قادما، وظهرت البغتة في عينيها، وأسرعت دقات قلبها، وارتعدت ركبتاها وأرادت أن تقف لتلقاه فلم تستطع من شدة التأثر، وامتقع لونها، وشخصت ببصرها إليه وهي لا تصدق أنها تراه. أما هو فلما دنا منها ولم تقف له ولا رحبت به، ثبت لديه ما كان يظنه من زهدها فيه. وبعد أن كان مسرعا بلهفة المشتاق، تباطأ وندم على مجيئه وتطفله. ثم ما لبث أن رأى العجوز تهرول إليه وهي تتعثر بطرف ثوبها حتى كادت تقع وهي تقول: «أهلا وسهلا بحبيب القلب ألفونس.»
فاطمأن قلبه ولكنه ظل خائفا، فمشى حتى اقترب من فلورندا فإذا هي لا تزال جالسة، وقد التفت بالرداء ويداها مختبئتان فيه، حتى إذا وقف بين يديها رفعت بصرها إليه ونظرت إليه نظرة خرقت أحشاءه، وقرأ في عينيها من تلك النظرة ما لو كتب على الورق لملأ عدة صفحات؛ قرأ فيهما العتاب والتعنيف، قرأ الشوق والوجد، قرأ فيهما الحب والغرام والاستعطاف والاستفهام ... فلم يستطع جوابا على تلك المعاني إلا بأن يخر راكعا على ذلك البساط الأخضر وهو يقول بنغمة المحب الولهان: «السلام يا فلورندا، السلام!» ومد يده وأحنى رأسه كأنه يسألها إحسانا، فظلت هي شاخصة فيه ويداها لا تزالان مختبئتين في ذلك الرداء، ولبث الاثنان شاخصين برهة وعيونهما تتخاطب وتتفاهم حتى غلب الدمع على فلورندا فغشى عينيها، فحجب عنهما وجه ألفونس؛ فأخرجت يدها من الرداء لتمسح عينيها، فسبقها ألفونس إلى إخراج منديله هو ومسحهما به، ثم مسح به وجهه وتنشق رائحته وتنهد تنهدا شديدا، وأعاد يده فمدها إلى فلورندا فلم تمد يدها إليه؛ ففهم أنها تتعمد ذلك دلالا وعتبا، فلم ينتظرها فمد يده وقبض على يدها قبضة ارتعدت لها فرائص الاثنين كأنهما أمسكا بتيار كهربائي قوي.
ومضت فترة وهما يتخاطبان بالنظرات، ولهما من قراءة الأفكار ما يغنيهما عن الألفاظ. وكانت العجوز تتشاغل عنهما بقطف بعض الأزهار والتواري بين الأغصان، رفقا بعواطفهما وإغضاء عما قد يبدو منهما في مثل هذه الحال. وظل ألفونس ساكتا وقد عول على الصبر حتى تكون فلورندا البادئة بالكلام، فقضيا برهة واليد باليد، والعين على العين، والقلبان يتسارعان كأنهما يتفاهمان بالخفقان، وقد غشى الأعين ماء لامع هو من أسمى علامات الهيام.
অজানা পৃষ্ঠা