الفصل الخامس عشر
التحميس
وكانت لمياء تسمع وتعجب ولم تستطع صبرا على السكوت فقالت: «أراك يا عماه قد بالغت في التقريع ولا أرى حاجة إلى ذلك ... إن المعز لدين الله لم يبلغ ما بلغ إليه من سعة الملك إلا لأنه أحق بهذا الأمر بما له من النسب الشريف؛ إنه من أبناء بنت الرسول وقد حاربنا وحاربناه ولو كان الحق في جانبنا لظفرنا به. كنت في مقدمة المحاربين المدافعين ولا أزال أحب الاستقلال، ولكنني لا أجد إليه سبيلا. وهذا أمير المؤمنين قد أكرم وفادتنا وأحسن الظن بنا وأخلصنا النية، فلا ينبغي أن نخونه.»
فضحك ثم قطع ضحكته فجأة وقال: «لم أستغرب من قولك إلا اعتقادك صحة النسب الذي يدعيه هؤلاء لأنفسهم ... أنا أعلم الناس بأنسابهم ولكن الإنسان إذا تغلب انتحل النسب الذي يريده. أما قولك إنهم تغلبوا وإن ذلك دليل على حقهم في الخلافة فهو منقوض؛ لأنهم لم ينالوا هذا الأمر ببطشهم وأنت تعلمين أن أبا عبد الله الشيعي هو الذي سلم إليهم هذا السلطان وأنصاره هم أهل هذه البلاد. ثم كافأه هؤلاء الخلفاء بالقتل ... أليس كذلك؟ وتقولين مع هذا إنهم أكرموا وفادتنا وأحسنوا الظن بنا؟ ما الذي أكرموكم به وقد سلبوكم سلطانكم واغتنموا أموالكم ونهبوا منازلكم يكفي ما أخذوه من قصرك من التحف والأثاث والرياش، أين جوادك بل أين مرآتك الذهبية التي كانت في غرفتك؟ أين حاضنتك التي كانت تعتني بلبسك وتدبير شئونك أين ماشطتك ومربيتك ألم يكن الخدم عشرات في منزلك وإذا ركبت وقفوا وإذا مشيت تطامنوا وإذا أمرت أطاعوا. وكنت الملكة الآمرة الناهية لا يسمع في القصر غير أمرك ونهيك؟ نسيت كل ذلك وأعجبك أن تكوني رهنا عند هذا الرجل وتقولين إنه أكرمك وأحسن وفادتك؟ إنهم لم يكرموا أحدا مثل إكرامهم أبا عبد الله المأسوف عليه ثم قتلوه غدرا ...» قال ذلك وغص بريقه وكاد يشرق بدموعه.
فتأثرت لمياء من خطابه وكانت تعلم غدر الفاطميين بأبي عبد الله لكن تعلقها بطهارة نسبهم كان يحببهم إليها مع اعتقادها عجز والدها عن التغلب وخصوصا بعد ما شاهدته من لطف المعز وامرأته وقائده وسائر أهل ذلك القصر. على أنها لما سمعت تذكار سابق عزها ومجدها وشرف أسرتها وفخامة ملكهم تنبهت فيها شهوة الملك ونعرة السيادة فخفت لهجتها في المقاومة وأرادت أن تباحث أبا حامد في الأمر وهي لا ترى بأسا من ذلك فقالت: «إن ما قلته صحيح لا شك فيه لكن ما الفائدة منه ونحن لا حول لنا ولا طول و...»
فقطع كلامها قائلا: «هذا شيء آخر سنبحث فيه وقد سرني أنك رجعت إلى ما هو جدير بك من المحافظة على شرف أبيك وعز الملك. أنتم آل مدرار توارثتم السيادة كابرا عن كابر. وأحرزتم الملك بحد السيف لا بالحيلة وادعاء النسب الشريف.»
فتحيرت لمياء لما سمعته من التناقض فقالت: «إذا كان الأمر كذلك فما بالكم ترغبونني في ابن ذلك القائد وهو مولى بن مولى وعنفتموني على ترددي في أمره؟!»
فابتسم وقال: «إن شعرة من رأسك تساوي ملك هذا الخليفة وكل قواده ... إن ذلك الطالب لا يساوي قلامة من ظفرك ...»
فاستغربت قوله وظنته يمزح فقالت: «لم أفهم مرادك يا سيدي.»
فقال: «مرادي؟ ألم تفهمي مرادي؟ وعهدي بك الذكاء أو لعلك تتجاهلين ... أتظنين سالما يرضى أن يحظى بك أحد من العالمين وهو حي؟»
অজানা পৃষ্ঠা