فقال حماد: «وهل عرفته قداستكم معرفة شخصية.» قال: «إني أحد تلامذته وقد تتلمذ له كثيرون غيري من جملتهم سلمان الفارسي أما أنا فقد رافقته من أول ظهوره إلى أواخر أيامه.»
فازداد حماد ميلا إلى معرفة حقيقة بحيراء فقال: «وما هي حكايته فقد شوقتني إلى معرفتها.»
فقال: «اعلم يا ولدي أن المرحوم يوحنا بحيراء كان راهبا نسطوريا على مذهب آريوس ونسطور ولا أظنك تجهل هذا المذهب وإن يكن أتباعه قليلين لمخالفته مذهب القياصرة.»
قال حماد: «نعم أعرف كل شيء عنه وقد اطلعت على دقائقه في المدرسة على أحسن عارفيه.»
فقال الراهب: «فلا حاجة بنا إلى شرحه إذا فأنت تعلم أن أساس هذا المذهب إنكار إلوهية السيد المسيح وإن تسميته إلها غير جائزة وأنهم انتحلوا له اسما فقالوا يجب أن يسمى كلمة الله وإن والدته مريم يجب أن تدعى مظهر الناسوت لا والدة الله قلت لك أني تلميذ بحيراء وأعترف لك أني تلميذه في كل شيء ما خلا هذا المذهب فقد قضيت أكثر أيام صحبتي له وأنا في جدال دائم معه فلم يقنع أحدنا الآخر أما في العلوم الأخرى فله علي الفضل الأكبر فقد أخذت عنه علم الفلك والحساب وعلم الطوالع وسائر علوم هذه الأيام وكان لفراسته وحسن نظره يظنه الناس ساحرا. وكان يقيم أولا بدير في ما بين النهرين بالعراق وكنت أختلف إليه هناك أتلقى بعض العلوم ولم أكن أعرف ما يذهب إليه. فلما أطلع رئيس الدير على انتحاله الاريوسية غضب عليه وأخرجه من الدير فسار قاصدا دير طور سيناء في العقبة على حدود مصر فسرت أنا معه للانتفاع بعلمه وحبا في خيره لعلي أقنعه وأرده إلى مذهب الكنيسة فرحب بنا رهبان طور سيناء وأعجبوا بعلمه وفضله فأقمنا هناك مدة ثم ورد كتاب من ديره الأول إلى رئيس دير طور سيناء أن يخرجه من ديره فأمر بذلك أو يتحول عن مذهبه فخرج وخرجت أنا معه وأتينا هذا الدير وأقمنا في هذه الصومعة معا إلى أمد غير بعيد فانه ذهب إلى مكان في جزيرة العرب لم يسمه ولم أعد أراه من ذلك الحين ثم علمت أن بعض اليهود قتلوه غيلة.»
فقال حماد: «ألا تعلم اسم المكان الذي ذهب إليه.»
قال: «كلا ولكنني ظننته سار إلى الحجاز لحادثة جرت معه على مشهد مني منذ نيف وأربعين سنة.»
قال حماد: «وما هي.»
قال: «جرت عادة القوافل القادمة من بلاد العرب أو غيرها أن تقف هنا للاستراحة من حر الصحراء والاستقاء فيجلس بحيراء بينهم وخصوصا إذا كانوا من الوثنيين أو المجوس وقد أجلس أنا معه أيضا فيأخذ في تعليمهم عبادة الله ولا يريد بهم إلا خيرا وكان يعتقد أن الله ظهر له في الرؤيا وأنبأه أنه سيكون واسطة لهداية بني إسماعيل سكان جزيرة العرب لأن هؤلاء العرب كانوا يعبدون الكواكب أو الأوثان إلا جماعة منهم كانوا نصارى أو يهودا وجماعة أخرى كانت تقر بالخالق وتصدق بالبعث والنشور والثواب والعقاب وفئة قليلة كانت تقر بالخالق وتنكر البعث فكان بحيرا يفكر ليلا ونهارا في مصير تلك الجزيرة وأهلها فرأى مرة رؤيا قصها علينا قال: «رأيت فتى جميل المنظر شهما مولده ببرج الثور والزهرة مع قران المشترى وزحل علمت أنه هو الذي سيهدي أبناء جلدته بني إسماعيل إلى معرفة الله وإن به يقوى أمرهم ويشتد أزرهم وتجتمع كلمتهم فيذللون أبناء عمهم بني إسحاق ويتسلطون عليهم مدة توافق ما أشار إليه دانيال في نبوته وأنه يخرج من العرب اثنتا عشرة دولة.»
فاتفق منذ نيف وأربعين سنة أي في نحو سنة 480 بصروية أن قافلة من قوافل الحجاز وصلت هذه الساحة وفيها جماعة كبيرة من عرب قريش الذين يقيمون في مكة وعندهم مقام شهير يأمه الناس من سائر أنحاء جزيرة العرب وغيرها يسمى الكعبة وعرب قريش هؤلاء كانوا حجاب الكعبة ولهم نسب وشرف يتصل بإسماعيل فنزلت القافلة تحت تلك الشجرة الكبيرة التي تراها شرقي هذه الصومعة فظللتهم جميعا وعقلوا جمالهم وربطوا حميرهم وأنزلوا الأحمال إلتماسا للراحة ثم قدموا للاستقاء فخرج بحيرا لمخاطبتهم وتعليمهم فشاهد بينهم غلاما جميلا تلوح عليه ملامح المهابة والنجابة والذكاء فحالما رآه بغت وإلتفت فقال لي: «أنظر إلى هذا الغلام فانه مولود في البرج الذي قلت لكم عنه وهو الذي سيهدي بني إسماعيل.» ثم سأل كبير التجار عنه فتقدم رجل كهل تتجلى في وجهه دلائل الجلال والوقار فخاطبه بشأنه فقال: «من يكون هذا الغلام» فقال: «هو ابن أخي» فأنبأه بحيراء بمستقبله وقال له: «احذر عليه من اليهود فإنهم إذا عرفوه كادوا له كيدا.» وسأله عن اسمه فقال: «اسمه محمد واسم عمه أبو طالب.» وأقام أولئك الركب عندنا مدة وقد آنست ببحيرا إكراما لهم وترحابا بهم لم أعهده به مع غيرهم ثم ساروا إلى بصرى فالشام وعادوا بعد ذلك إلى مكة ثم كانوا كلما مروا بنا أقاموا عندنا كالعادة.»
অজানা পৃষ্ঠা