بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ، أما بعد:
فإن من أعظم نعم الله عليّ - وهي كثيرة - بعد نعمة الإسلام أن يسر لي طلب العلم، ومن جميل فضله ﷾ أن وفقني للتخصص في قسم السنة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية - حرسها الله -.
وقد كان عملي في رسالة الماجستير هو تحقيق ودراسة كتاب السابق واللاحق للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، وكنت أثناء تحقيق هذا الكتاب ازداد كل يوم إعجابًا بالمؤلف ﵀ وبشخصيته الناقدة الفذة، وكنت كل لحظة ازداد يقينًا بقول الحافظ ابن نقطة ومن بعده الحافظ ابن حجر - في مقدمة النزهة -: " كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه في الحديث وعلومه ".
ولهذا كنت حريصًا كل الحرص على أن أستمر مع الخطيب البغدادي في مرحلة الدكتوراه فما إن انتهيت من الماجستير حتى بادرت بالبحث والتفتيش بين مؤلفات الخطيب لعلي أن أظفر بما يتناسب ومرحلة
1 / 7
الدكتوراه من حيث الحجم، ولم يطل بي البحث كثيرًا، فقد قدم فضيلة شيخي المشرف الدكتور/ أكرم العمري - جزاه الله خيرًا – خدمة جليلة لطلبة العلم، وذلك بما كتبه عن الخطيب ومصنفاته في مقدمة كتابه موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد.
وقد وقع اختياري على كتاب " الفصل للوصل المدرج في النقل " وذلك للأسباب التالية:
١ - مكانة المؤلف ﵀ العلمية.
٢ - الأهمية العلمية لهذا السفر العظيم لما يتضمنه من المعلومات الغزيرة في فنه.
٣ - ولأنه الكتاب الوحيد في فنه فيما أعلم باستثناء كتاب الحافظ ابن حجر «تقريب المنهج» وهو مفقود، وكتاب السيوطي وهو مختصر جدا.
لهذا الأسباب كلها وقع اختياري على هذا الكتاب لهذا العالم الجهبذ، وقد بذلت جهدي في خدمة هذا الكتاب تحقيقًا ودراسة، وإنني لأرجو أن أكون قد وفيت أو قاربت بالصورة التي يجب أن يكون إخراجه عليها.
هذا وقد قدمت لهذا الكتاب بمقدمة اشتملت على قسمين:
الأول: عن المدرج وأنواعه وحكمه ومهدت لذلك بدعوة إلى إحياء المنهج النقدي عند المحدثين.
الثاني: تضمن ترجمة موجزة جدا عن المؤلف، ودراسة عن الكتاب وموضوعه، ثم أعقبت ذلك ببيان منهجي في
1 / 8
وفي الختام أتقدم بخالص الشكر والتقدير لشيخي وأستاذي الجليل الدكتور/ أكرم ضياء العُمَري – حفظه الله ووفقه – فقد كان مربيًا وموجهًا منذ عرفته في السنة المنهجية في الماجستير، ثم إشرافه عليّ في الماجستير والدكتوراه، فجزاه الله عني خير الجزاء.
كما أتقدم بالشكر والدعاء لكل من ساعدني أو قدم لي خدمة في أثناء عملي في هذا الكتاب وعلى رأس هؤلاء فضيلة شيخنا الجليل أبي عبد الباري حماد بن محمد الأنصاري – حفظه الله -.
والحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 9
دعوة إلى إحياء المنهج النقدي عند المحدثين
قد ختم الله رسله وأنبياءه بمحمد رسول الله ﷺ كما ختم برسالته جميع الرسالات السماوية، وأنزل عليه القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وجعله منهج حياة ومشعل هدى للناس منذ أُنزِل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. كما أتاه مع القرآن مثله من السنة المطهرة التي هي المبينة للقرآن والمفصلة لما أجمل فيه.
وقد تكفل الله تعالى بحفظ كتابه فقال ﷿: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
كما وفق بمنه وفضله أئمة الهدى وقدوة الأنام من الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان ممن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة لخدمة السنة النبوية الشريفة وذب الكذب عنها، فبذلوا جهدهم وكل ما في وسعهم لذب الكذب عن رسول الله ﷺ وبيان الصحيح من السقيم مما ينسب إليه من الأحاديث.
وقعدوا لذلك قواعد لنقد الأسانيد والمتون وفق منهج علمي دقيق لا مثيل له عند الأمم الأخرى.
إن هذا المنهج المتفرد الذي لم يكن لأمة من الأمم قبل أمة محمد ﷺ
1 / 10
صار ميزة لها بين الأمم كما مُيّزت من قبل بعقيدة وشريعة لم تكن في كمالها وصفائها وسماحتها لأمة من الأمم.
هذا المنهج العلمي الدقيق قد شرق به أعداء هذه الأمة من اليهود والنصارى والمجوس كما شرقوا من قبل بعقيدتها وشريعتها.
فذهبوا يطعنون على هذه الأمة في دينها وفي عقيدتها وأخيرا في منهج خير القرون في تلقي السنة النبوية المطهرة قاصدين بذلك النيل من هذا الدين. فقالوا: "إن المحدثين صبوا جُلَّ اهتمامهم في النقد الخارجي للحديث – يعني الأسانيد – وهذا أمر شكلي "، وقالوا: " إن المحدثين لم يكن لهم منهج محدد دقيق في نقد متون الحديث إذ نجدهم يروون أحاديث في كتبهم ويتناقلونها فيما بينهم وهي إما تتعارض مع الواقع وتتعارض مع العقل أو تتعارض مع نصوص أخرى … إلى غير ذلك من الاعتراضات التي سودوا بها كتبهم …
وهذه المقالة التي رددها في هذا العصر المستشرقون من اليهود والنصارى وعلى رأسهم شيخهم وإمامهم جولد تسهير المستشرق المجري اليهودي.
وقلدهم في ذلك أذنابهم من أبناء جلدتنا الذين تربوا في أحضان أولئك المستشرقين ثم جاءوا إلينا ليدسوا السم في العسل، فيطعنوا في عقيدتنا ويطعنوا في منهج خير القرون.
وعلى رأس هؤلاء: طه حسين، وأحمد أمين، ومحمود أبو رية (^١)
_________
(^١). انظر ما سطره طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي، وأحمد أمين في فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وأبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية.
1 / 11
وغيرهم من أضرابهم.
وهذه المقولة ليست وليدة فكر جولد تسهير وأمثاله من المستشرقين بل هي دسيسة يهودية قديمة قدم الصراع بين هذه الرسالة الخاتمة وأعدائها من اليهود والنصارى والمجوس، فاليهود حملوا راية العداء لهذا الدين منذ فجره الأول فشككوا في رسالة محمد ﷺ وأثاروا الشبه الباطلة حول رسالته.
ولما انتشر الإسلام وتوسعت الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين شرق اليهود والمجوس بهذه الانتصارات العظيمة التي حققها هذا الدين الحنيف فأخذوا يحيكون الدسائس والفتن للإسلام وأهله وعلى أيديهم نشأت الرافضة والخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرهم من الفرق الكلامية.
فالروافض والخوارج من نتاج فتنة ابن سبأ اليهودي إذ هو مؤسس مذهب الرفض وكانت فتنته سبب في ظهور الخوارج المعارضين له ولأتباعه، والجهمية والمعتزلة وغيرهم من الفرق الكلامية وليدة سلسلة التعطيل الجهم بن صفوان عن الجعد بن درهم عن طالوت اليهودي عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي السامري.
فهذه الفرق يجمعها قاسم مشترك ألا وهو تحكيم عقولهم في دين الله وعبادتها من دون الله ﷿.
حكموا عقولهم في تلقي السنة المطهرة، فردوا نصوصا صحيحة كثيرة بدعوى تعارضها مع عقولهم والحقيقة تعارضها مع أهوائهم.
1 / 12
هؤلاء حكموا عقولهم في دين الله فضلوا وأضلوا، وعين ما فعله أولئك فعله المستشرقون وأذنابهم من فلول المعتزلة المعاصرين.
ومنهج خير القرون في النقد – سندا ومتنا – مرتبط ارتباطا وثيقا بمنهجهم في العقيدة.
ومن أصول منهجهم في العقيدة الإيمان بأن القرآن كلام الله – ﷿ – نزل به الروح الأمين على رسول الله محمد ﷺ.
ومن أصولهم الاعتقاد بأن رسول الله ﷺ معصوم في أقواله وأفعاله، لأنه لا ينطق عن الهوى، وتجب طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر.
ويعتقدون أن الله قد أجرى على يدي نبيه ﷺ بعض المعجزات وخوارق العادات، بل ومن أصول اعتقاد خير القرون أن العقل ليس له الوصاية على شرع الله بل هو تبع للشرع خاضع له.
ولا يمكن أن يعارض الشرع الصحيح الثابت عن الله ورسوله العقل السليم (^١) من الهوى والزيغ.
أما المستشرقون من اليهود والنصارى فهم ابتداءًا ينكرون نبوة محمد ﷺ وبالتالي ينكرون كل ما يترتب على ذلك من وحي ومعجزات.
ومن هنا جاء نقد المستشرقين لمناهج أئمة الحديث، وقولهم لقد توسع علماء الحديث في نقد أسانيد الأحاديث وأهملوا متونها.
ومن ثم جاء اعتقاد المستشرقين بأن كل حديث يخالف عقولهم غير
_________
(^١). انظر ما كتبه ابن تيمية – ﵀ – في كتابه درء تعارض العقل والنقل.
1 / 13
صحيح، مع أن عقولهم ليست عقلا واحدا فيحتكم إليه بل إنها متناقضة ولا يضبطها ضابط والغريب أن هؤلاء المستشرقين – يهود ونصارى – يؤمنون بخرافات وأوهام لا يقبلها دين ولا عقل.
وليس هذا مجال الحديث عن تناقضات المستشرقين، فقد كفانا في ذلك وفصله جيدًا الدكتور مصطفى السباعي في كتابه السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي وكتاب الاستشراق والمستشرقون، وكذلك الدكتور مصطفى الأعظمي في كتابه، دراسات في الحديث النبوي، وكتاب منهج النقد عند المحدثين، وغير ذلك من الكتب التي كتبت في هذا المجال.
ومن هذا أيضا انطلق فلول المعتزلة وتلامذة المستشرقين يرددون قولهم، يجب تقديم العقل على النقل – أي الحديث النبوي الذي ثبتت صحته – عند التعارض وبشكل أكثر وضوحا، يجب تقديم أهوائهم وبدعهم على ما صح من حديث رسول الله ﷺ.
والقضية من أساسها ليست قضية توسع في نقد أسانيد الأحاديث وإهمال لنقد متونها.
وإنما هي قضية العقيدة الإسلامية التي شرق بها أعداؤها من يهود ونصارى ومجوس ومن أستن بسنتهم من أبناء جلدتنا.
القضية تكمن في تقديس المستشرقين وفلول المعتزلة المعاصرين للعقل وعبادتهم له من دون الله، وتقديمه على وحي الله إلى رسوله.
أما خير القرون من أهل السنة والجماعة فلم يجعلوا لعقولهم الوصاية على وحي الله بل عرفوا للعقل حقه ومهمته التي خلقه الله لها. فاعملوه
1 / 14
في مهمته تلك ولم يهملوه وبلغوه كما فعلت الصوفية، ولم يقدسوه كما فعل أهل الكلام من جهمية ومعتزلة وغيرهم.
منهج النقد عند المحدثين:
لقد توسع علماء الحديث في نقد الأسانيد حقًا، وهذه مفخرة من مفاخر ديننا، وميزة امتاز بها المسلمون عن غيرهم من الأمم حتى شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء، ولكن دعوى تقصيرهم في نقد المتون أو عدم التوسع فيها، هذه دعوى يعوزها الدليل، ولعلي آتي بعد قليل على ذكر إشارات ونمازج لجهود المحدثين وغيرهم في هذا المجال على قدر ما يسمح به المجال في هذه العجالة، وإلا فالموضوع أوسع من ذلك (^١).
وقد كتب في منهج نقد المتون عند المحدثين كل من:
١. الدكتور نور الدين عتر في كتابه «منهج النقد في علوم الحديث».
٢. الدكتور مصطفى الأعظمي في كتابه «منهج النقد عند المحدثين».
٣. الدكتور مسفر غرام الله الدميني في كتابه «مقاييس نقد متون السنة».
٤. الدكتور محمود الطحان في رسالة صغيرة بعنوان «عناية المحدثين بمتن الحديث كعنايتهم بإسناده».
_________
(^١). انظر ما كتبه الدكتور أكرم العمري في مقدمة كتابه المجتمع المدني – الجهاد ضد المشركين – ص ٩ - ١٢ – ففيه أمثلة لعناية المحدثين بنقد المتون.
1 / 15
وغيرهم كتب في هذا الموضوع، ولم يتيسر لي الإطلاع عليه.
وليس هذا مجال عرض ما كتب في هذه الكتب لبيان إيجابيات أو سلبيات كل كتاب منها لكنني لاحظت أمورا مشتركة عند هؤلاء المؤلفين، قد تكون عند بعضهم أوضح منها عند البعض الآخر ومن هذه الأمور.
أولا: عدم ربط هذا النقد الموجه إلى منهج المحدثين بدافعه الحقيقي عند هؤلاء المنتقدين، وهو الطعن على عقيدة خير القرون – أهل السنة والجماعة – والمراد من ذلك الطعن في هذا الدين الذي اختاره الله أن يكون دين البشرية إلى يوم الدين.
فالقضية ليست في قصور المنهج العلمي عند المحدثين أو عدم وضوحه ومعرفة هذا الدافع لا يكلف اكتشافه أكثر من الإطلاع على ما كتبوه في هذا المجال أو غيره، وخصوصا كتابتهم في السيرة والتاريخ الإسلامي وعلى وجه أخص تاريخ الفرق والطوائف.
ثانيا: عدم ربط هذا النقد بجذوره التاريخية، فهذه الشبه التي يثيرها المستشرقون وغيرهم ليست جديدة، وليسوا هم أول من اتخذها مطية للطعن في عقيدة المسلمين ومن أراد الإطلاع على هذه الجذور التاريخية فعليه بالإطلاع على كتاب «الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم» لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة ٨٤٠ هـ، بل عليه بالإطلاع على أصله الكبير «العواصم والقواصم» وكذلك كتابه «إيثار الحق على الخلق».
فما أثاره المستشرقون وأتباعهم من فلول المعتزلة المعاصرين حول روايات
1 / 16
الزهري وأبي هريرة وعائشة وسائر الصحابة وما قيل في ذلك، كل ذلك قد أثاره من قبل، الروافض والمعتزلة والجهمية والزنادقة وغيرهم، وقد رد عليهم علماء أهل السنة والجماعة في ذلك الوقت ومن هؤلاء العلماء «ابن الوزير».
وكذلك ما قاله هؤلاء المنتقدون حديثا من انتقاد المحدثين في إهمال العقل في نقل الروايات، وغفلتهم وجمودهم على الظاهر، وانشغالهم بالأسانيد عن إمعان النظر في المتون، كل هذه الطعون وغيرها قد وجدت قديما، وقد ردّ عليها في حينها، ومن أعظم هذه الردود ما ذكره «ابن الوزير» في كتبه الآنفة الذكر.
بل قد سبقه علماء في ذلك منهم ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتابه وفتاواه، منها درء تعارض العقل والنقل، ومنهاج السنة وغيرها، إذًا القضية جديدة قديمة لها جذورها التاريخية والعقدية.
وما اعتناء المستشرقين ومقلديهم من فلول المعتزلة بطبع كتب الفرق والطوائف المنحرفة كالمعتزلة، والصوفية وسائر الفرق الباطنية المنحرفة عن عقيدة أهل السنة والجماعة إلا دليل على هذه الجذور التاريخية التي تربطها جميعا.
ثالثا: إن جميع ما كتبه هؤلاء الأساتذة الكرام وغيرهم في هذا الموضوع بل وفي كثير من المواضيع المماثلة له، اتخذوها فيه موقف الدفاع، وهذا موقف ضعيف وخصوصا أمام عدو كاسر له جذوره التاريخية في العداء لهذا الدين.
1 / 17
إن هؤلاء المنتقدين لمنهج المحدثين ليس هدفهم الحقيقي البحث العلمي بل وليس غايتهم نقد المنهج المحدثين في نقد المتون كما هو ظاهر كلامهم، إنما ذلك وسيلة إلى الغاية الحقيقية وهي الطعن على الدين الإسلامي الحنيف، وبالتالي أشغالنا بالردود، والأخذ والرد معهم، لننشغل بالمعارك الجانبية عن مهمتنا الأساسية وهي حمل رسالة الإسلام إلى البشرية جمعاء والتي أصبحت تتخبط اليوم تبحث عن منقذ ولا منقذ لها سوى الإسلام، فإذا انشغلنا بالمعارك الجانبية – وهذا ما يريده أعداؤنا – فمن يبلغ رسالة الإسلام إلى الناس ويجاهد في سبيل تبليغها؟
ما مدى صحة دعوى تقصير المحدثين في نقد المتون؟
هذا السؤال لا يكفي في الإجابة عليه ما سأشير إليه هنا من الأمثلة والأدلة على بطلان هذه الدعوى، وبيان ضخامة جهود علماء المسلمين في هذا الميدان.
إن ما كتبه علماء الحديث في كتب المصطلح وبينوا فيه الأنواع المتعلقة بالإسناد والاتصال والانقطاع وضبط الراوي وعدالته ونحو ذلك، والأنواع المتعلقة بالمتن كالناسخ والمنسوخ ومشكل الحديث ومحكمه والمعلل وغير ذلك، وكذلك الأنواع المشتركة بين السند والمتن كالإدراج والاضطراب والشذوذ والنكارة وغيرها، وكذلك ما كتبه هؤلاء في كتب العلل ومعرفة الرجال، وكتب الموضوعات، وشروح الحديث وغيرها، كل ذلك دليل على تكامل مناهج المحدثين في نقدهم للروايات سندا ومتنا.
كذلك لا ينسى في هذا المجال ما سطره علماء الفقه وأصول الفقه، فكتب الفقه قد ركزت على المتون تفسيرا وإعرابا وتوضيحا واستنباطا، وفق
1 / 18
قواعد علمية.
" وتتضح في كتب أصول الفقه المحاكمات الدقيقة للمتون التي تكشف عن عقلية نقدية فذة " (^١)
وجهود علماء المسلمين يكمل بعضها بعضا ما قصر فيه هذا يكمله ذاك، ومن هنا رأينا تكامل أعمال المحدثين والفقهاء في عنايتهم بالسنة النبوية.
هذه إشارات قصيرة لتلك الجهود الضخمة التي بذلها علماء الإسلام – محدثين وفقهاء – في العناية بالسنة المطهرة سندا ومتنا.
وبعد:
فليس معنى رفضي للانشغال بالرد على مثيري الشكوك والشبهات حول منهج المحدثين، أنني أرفض الكتابة في مجال بيان مناهج المحدثين.
بل أرفض فقط أن يكون دافعنا في الكتابة في هذه الموضوعات هو «رد الفعل» إذ يجب أن يكون دافعنا في ذلك هو إحياء المنهج العلمي الإسلامي عند المسلمين – محدثين وفقهاء ومفسرين ومؤرخين وغيرهم – كما يجب أن ننتبه إلى أن المنهج العلمي عند المسلمين يحكمه عقيدة تقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالغيب، والإيمان برسول الله ﷺ، وبما جاء به من كتاب الله والسنة المطهرة بما في ذلك المعجزات التي جاءت بها السنة الصحيحة، وأن هذه العقيدة تقوم على التوازن في حياة الإنسان بين روحه وعقله وعواطفه وتفكيره وما فطره الله عليه.
_________
(^١). الدكتور أكرم العمري: المجتمع المدني – الجهاد ضد المشركين ص ١١.
1 / 19
هذا ويجب أن تتسم كتابتنا في هذا الموضوع بالإبداع والتجديد وخصوصا في مناهج التفكير التي اتسمت في العصور المتأخرة بالجمود والتقليد والتعصب إلا من النزر اليسير من العلماء الأفذاذ المبدعين الذين كانوا في أوقات متفاوتة من هذه العصور كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه ابن القيم والمزي والذهبي وابن كثير ثم تلاهم الحافظ ابن حجر ثم خلت الساحة حتى جاء شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀ ورحم هؤلاء الأئمة جميعًا.
وعلوم الحديث من العلوم التي قد نضجت كثيرا والإضافات تكون فيها قليلة جدا إلا ممن يسلك مسلك التجديد والإبداع والدقة في الاستنباط ولا أنسى هنا أن أنوه بما كتبه الحافظان الجليلان الإمام ابن القيم، والحافظ ابن رجب في كتابيهما «المنار المنيف وشرح علل الترمذي». إذ أضافا في هذين الكتابين إضافة قيمة وجددا نوعا ما في طريقة تنازل علوم الحديث ولم يكونا ناقلين مقلدين لمن سبقهما بل كانا ناقدين مبدعين كما يبرز أيضا من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني – ﵀ – في كتابه «التنكيل» وخاصة ما سطره في طليعته.
هذا وقد كنت أريد أن يكون جزءًا من مقدمة بحثي هذا عن مناهج المحدثين في نقد المتون ولكن لم يتيسر لي جمع المادة الكافية في الموضوع، وأهم من ذلك أن هذا الموضوع أوسع من أن يكتب فيه فصلًا من مقدمة، ولعل الله أن يعينني على تحقيق طموحي في المستقبل القريب إن شاء الله.
وسأقتصر في هذه المقدمة على دراسة المدرج وأنواعه لأنه موضوع الكتاب الذي أقدم له، ثم دراسة عن الكتاب نفسه.
1 / 20
المدرج وأنواعه
تعريفه:
لغة: بضم الميم وفتح الراء اسم مفعول فعله أدرج، تقول: أدرجتُ الكتاب إذا طويتَه، وتقول: أدرجتُ الميتَ في القبر إذا أدخلتَه فيه، وأدرجتُ الشيء في الشيء إذا أدخلتَه فيه وضمنته إياه. (^١)
واصطلاحا: الحديث المدرج ما كان فيه زيادة ليست منه في الإسناد أو المتون.
أنواع المدرج: المدرج نوعان:
١. مدرج في المتن. (^٢). مدرج في الإسناد (^٢).
ولكل نوع منهما أقسام.
أولا مدرج المتن:
وهو أن يدرج الراوي في حديث النبي ﷺ شيئا من كلام غيره مع
_________
(^١). انظر تاج العروس ٢/ ٣٩ - ٤١ مادة درج - بمهملتين وجيم. وتوضيح الأفكار للصنعاني ٢/ ٥٠.
(^٢). النكت لابن حجر ٢/ ٨١١.
1 / 22
مع إيهام كونه من كلامه ﷺ وهو ثلاث مراتب: (^١)
مراتب الإدراج في المتن:
الأول: أن يكون ذلك في أول المتن وهو نادر جدا:
ومثاله حديث أبي هريرة: " أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار " (^٢)
فقد رواه شبابة بن سوار وأبو قطن عمرو بن الهيثم عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة مرفوعا كامل المتن، وإنما المرفوع منه قوله: " ويل للأعقاب من النار " حسب، وأما قوله: " أسبغوا الوضوء " فهو من قول أبي هريرة (^٣) كما فصله جمهور الرواة عن شعبة. (٢)
قال الحافظ ابن حجر: " وهذا النوع نادر جدا، لم أجد له مثالا غير حديث أبي هريرة هذا ". (^٤)
الثاني: أن يكون في الوسط – وسط المتن – وهو قليل:
مثاله حديث بسرة بنت صفوان: " من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليتوضأ " رواه عبد الحميد بن جعفر عن هشام ابن عروة عن أبيه عن بسرة مرفوعا، وكذلك رواه أبو كامل الجحدري عن يزيد بن زريع عن أيوب عن هشام … به …
_________
(^١). المصدر نفسه.
(^٢). انظر تخريج طرقه في الحديث الثامن من الفصل للوصل المدرج في النقل للخطيب.
(^٣). هذه الجملة من الحديث وإن كانت هنا من قول أبي هريرة إلا أنها قد جاءت مرفوعة صحيحة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم وغيره.
(^٤). النكت (٢/ ٨٤٤).
1 / 23
والمرفوع قوله: " من مس ذكره فليتوضأ " وذكر الأنثيين والرفغ إنما هو من قول عروة بن الزبير بيّن ذلك جمهور الرواة عن هشام (^١).
الثالث: أن يكون الإدراج في آخر المتن وهو الأكثر:
مثاله حديث ابن مسعود في التشهد: " أخذ رسول الله ﷺ بيدي وعلمني التشهد، التحيات لله .. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد " (^٢) فقد رواه زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعا كله.
وقوله: " فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك .. إلخ " ليس من كلام النبي ﷺ بل هو قول ابن مسعود أدرجه بعض الرواة، وقد رواه الجمهور على الفصل والتمييز بين المرفوع منه والموقوف، ورواه أكثر من راوٍ على الاقتصار على المرفوع (^٣).
وهذا النوع من الإدراج – مرج المتن – قسمه الخطيب ثلاثة أقسام:
الأول: ما كان من قول الصحابي ووصل بحديث رسول الله ﷺ (^٤).
الثاني: ما كان من قول التابعي ووصل بحديث رسول الله صلى الله عليه سلم (^٥).
_________
(^١). انظر تخريج طرقه كلها في كتاب الفصل للوصول للخطيب حديث رقم (٣٢).
(^٢). انظر طرقه وتخريجها في الحديث الأول من كتاب الخطيب الذي تقدم له بهذه المقدمة.
(^٣). راجع روايات هؤلاء في كتاب الخطيب الحديث الأول.
وسنن الدار قطني ١/ ٣٥٠ - ٣٥٣.
(^٤). انظر أمثلة في الباب الأول من كتاب الخطيب ق ٢/أ وما بعدها.
(^٥). راجع أمثلة في (ق ٢٤/أ) وما بعدها.
1 / 24
والثالث: ما كان من قول من بعد التابعين ووصل بحديث رسول الله ﷺ وقد ساق لكل قسم عدة أمثلة.
وحديث أبي هريرة وابن مسعود المذكوران آنفًا من أمثلة القسم الأول.
وحديث بسرة بنت صفوان من أمثلة القسم الثاني وراجع أمثلة القسم الثالث في كتاب الخطيب (ق ٨٩/ب) وما بعدها.
ثانيا مدرج الإسناد:
اختلف المؤلفون في علوم الحديث في عدد أقسام هذا النوع، فالخطيب البغدادي – ﵀ – أول من حرر مسائل المدرج – بل أبواب المصطلح كلها – جعل هذا النوع أربعة أقسام (^١) ووافقه ابن الصلاح (^٢) ثم الحافظ ابن حجر على ثلاثة أقسام، وتفرد الخطيب بالقسم الرابع كما أضاف الحافظ ابن حجر على الخطيب وابن صلاح قسمين (^٣):
وفيما يلي سرد تلك الأقوال:
القسم الأول: (^٤)
ما كان متن الحديث عند راويه بإسناد غير لفظة أو ألفاظ فإنها عنده بإسناد آخر فلم يبين ذلك بل أدرج الحديث وجعل جميعه بإسناد واحد.
_________
(^١). انظر مقدمة الفصل للوصل المدرج في النقل (ق/٢ أ).
(^٢). علوم الحديث لابن الصلاح ٨٧ – ٨٨.
(^٣). انظر النكت على ابن الصلاح (٢/ ٨٢٣ – ٨٣٧، نزهة النظر/ ٤٦).
(^٤). جعلت الأساس هنا هو تقسيم الخطيب كما أني اكتفيت بمقارنته مع ابن الصلاح، والحافظ ابن حجر، لأنني لم أجد عند غيرهما إضافات فيما وقفت عليه من كتب المصطلح، بل إن ابن الصلاح حقيقة لم يكن له إضافة على الخطيب.
1 / 25
وهذا هو القسم الأول عند ابن الصلاح والثاني عند الحافظ ابن حجر.
القسم القاني:
ما ألحق بمتنه لفظة أو ألفاظ ليست منه وإنما هي من متن آخر.
زاد الحافظ ابن حجر: " ولا تكون تلك الألفاظ من رواية ذلك الراوي، ومن هذه الحيثية فارق القسم الذي قبله " أ. هـ.
وهذا هو القسم الثاني أيضا عند ابن الصلاح والثالث عند ابن حجر.
القسم الثالث:
ما كان يرويه المحدث عن جماعة اشتركوا في روايته، فاتفقوا غير واحد منهم خالفهم في إسناده فأدرج الإسناد وحمل على الاتفاق.
وهذا هو القسم الثالث عند ابن الصلاح، والأول عند ابن حجر في النكت.
القسم الرابع:
ما كان بعض الصحابة يروي متنه عن صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصل بمتن يرويه الصحابي الأول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا القسم لم يذكره أحد غير الخطيب، وانظر أمثلته عنده في الفصل للوصل (ق ١٢٢/أ) وما بعدها.
القسم الخامس:
أن لا يذكر المحدث متن الحديث بل يسوق إسناده فقط، ثم يقطعه قاطع، فيذكر كلاما، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك
1 / 26
الإسناد (^١).
مثاله حديث: رواه ثابت بن موسى الزاهد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي ﷺ قال: " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ".
وهذا قول شريك قاله في عقب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد " فأدرجه ثابت في الخبر وجعل قول شريك من كلام النبي ﷺ ثم شرق هذا جماعة من الضعفاء من ثابت وحدثوا به عن شريك (^٢).
القسم السادس:
أن يكون المتن عند الراوي إلا طرفا منه، فإنه لم يسمعه من شيخه فيه، وإنما سمعه من واسطة بينه وبين شيخه، فيدرجه بعض الرواة عنه بلا تفصيل (^٣).
ومثاله حديث إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس في قصة العرنيين وأن الرسول ﷺ قال: " لو خرجتم إلى إبلنا فشربتم من ألبانها
_________
(^١). هذا القسم من زيادات الحافظ ابن حجر على من قبله، وهذا سماه الحافظ ابن الصلاح شبه الوضع وذكره في الموضوع ومثل له بالحديث المذكور هنا. انظر (علوم الحديث له / ٩٠).
(^٢). نقلت الحديث بهذا الإسناد والسياق من كتاب المجروحين لابن حبان (١/ ٢٠٧) ترجمة ثابت، والحديث رواه ابن ماجة (١/ ٤٢٢ ح ١٣٣٣) كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في قيام الليل.
(^٣). هذا مما زاده ابن حجر على ابن صلاح، ذكره في النكت وقال بعده: " وهذا مما يشترك فيه الإدراج والتدليس.
1 / 27