بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إِنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ.
أما بعد،،،
فإن العبادة والزهد وترقيق القلوب وتزكية النفوس وتطهيرها من الأمراض ومعالجتها من الأهواء: يجب فيها اتباع الصحابة ﵃، فهم أعرف الناس وأفقههم بالقرآن والسنة، فقد زكّاهم الله ﷿ في القرآن العظيم وعلى لسان رسوله الكريم ﷺ بأفضل التزكيات، فلا توجد هذه التزكيات في أحد ممن جاء بعدهم، ونحن مأمورون باقتفاء آثارهم والاقتداء بهديهم والتمسك بسننهم، فهديهم هو الفارق بين السنة والبدعة، فكان الصحابة ﵃ يستدلون على ضلال أهل البدع بمفارقتهم للصحابة ﵃، كما قال عبد الله بن مسعود ﵁ لأهل الحلق إنكارًا عليهم: لقد فضلتم أصحاب محمد علما (١).
_________
(١) رواه الدارمي (٢١٠) وابن وضاح في البدع والنهي عنها (٩) واللفظ له.
1 / 4
وكما قال ابن عباس للخوارج الذين خرجوا على علي ﵁: أتيتكم من عند أصحاب النبي ﷺ المهاجرين، والأنصار، ومن عند ابن عم النبي ﷺ وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد (١).
فعلامة الإحداث في العبادات: حينما لا ترى الصحابة ﵃ يتعبدون بها، فالشيطان يزيّن العبادة ويُبهرجها في نظر العابد من حيث الذوق والوجد لا من حيث الوحي، فينبغي الحذر من إحداث منسك يُتنسك به مبني على ما تهواه النفس، قال حذيفة ﵁: كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله، فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالًا؛ فاتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من كان قبلكم (٢).
فلو كان خيرًا لكانوا أسبق الناس إليه، فما تركوا من خير إلا ودلّونا عليه، فإنه ما حدثت البدع ولا ظهرت الأهواء إلا لما اتخذ الناس مسلكًا وطريقًا غير طريق الصحابة ﵃.
_________
(١) رواه النسائي في السنن الكبرى (٨٥٢٢).
(٢) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص: ٧٧).
1 / 5
وقد تنوعت تصانيف أئمة السلف في الزهد ورقائق القلوب مثل كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهم، فكانوا يحرصون أشد الحرص على ذكر آثار الصحابة والتابعين وضمّها مع أحاديث المرفوعة إلى النبي ﷺ لعلمهم أن العبادات لا تقبل إلا ما جاء عنهم.
بخلاف المتنسكين بالتزهد البدعي فإنهم يعظّمون شيوخهم ويتبعونهم ويُعرضون عن آثار الصحابة والتابعين، ويرققون قلوبهم بالمحدثات من العبادات كالأذكار المحدثة والسماع البدعي الذي يسمونه بالأناشيد، فأصبحت تلك شعارات الجماعات الحركية والطوائف البدعية كالتبليغية الصوفية وغيرهم.
وتلك الجماعات الحركية السياسية يجمعون بين التظاهر في التدين والحث على العبادات وبين الخروج على الحكام والأمراء وتكفيرهم، وهذا الذي أخبر به النبي ﷺ في هيئة الخوارج وأنهم لهم من النسك والعبادات مما يُغتر بهم، فقال: «يخرج فيكم، أو يكون فيكم، قوم يتعبدون ويتدينون، حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١).
_________
(١) رواه ابن أبي عاصم في السنة (٢/ ٤٦١) وصححه الألباني.
1 / 6
وفي رواية: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١).
فإخلاص العبادة لله تعالى وخشيته واتباع سنن النبي ﷺ على فهم الصحابة الأخيار هو من أعظم ما تتزكى به النفس، ولذا خاف النبي ﷺ على أمته من الرياء فقال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: «الرياء» (٢).
فيُبتلى العابد بشيء من الرياء فيحب أن يختص بعبادة ويتميز بها عن الناس، وهذا حال بعض السالكين والمتنسكين لا يطلبون التقرب الى الله بل مطلوبهم نوع من العلو على الخلق (٣) فكم من مذنب عاصي يكون محبًا لله ورسوله ﷺ، كما قال النبي ﷺ في شارب الخمر الذي أمر بجلده: «إنه يحب الله
_________
(١) رواه البخاري (٥٠٥٨) ومسلم (١٠٦٤).
(٢) رواه أحمد (٣٩/ ٣٩) وابن أبي شيبة (٨٤٠٣) وابن خزيمة (٩٣٧) وغيرهم من حديث محمود بن لبيد ﵁ وحسنه ابن حجر في البلوغ (١٤٨٤) وجوده الألباني في الصحيحة (٩٥١).
(٣) انظر الرد على الشاذلي (ص ٢٤).
1 / 7
ورسوله» (١)، وكم من عابد زاهد قد يكون في قلبه من البدعة والكبر ما يكون منحرفًا عن السنة، فالبدعة أشد من الكبائر كما قال سفيان الثوري: «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها» (٢).
فنسأل الله تعالى أن يهدينا ويثبتنا على دينه وسنة نبيه ﷺ ويجعلنا لآثار أصحابه ﵃ مقتدين متمسكين بهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصف الرسالة:
هذا الفصل جزء منه مطبوع من ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ ويقع في المجلد (١٠/ ٦٢٥)، والجزء الآخر قد سقط منه قرابة النصف الثاني من الرسالة، وزاد الاهتمام بها حيث قد حصل سقط من الكلمات والجُمل
_________
(١) رواه البخاري (٦٧٨٠).
(٢) رواه ابن الجعد في مسنده (١٨٠٩) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنا لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه. أو بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله. فما دام يرى فعله حسنا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب. ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى ﷾ من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال. مجموع الفتاوى (١٠/ ٩).
1 / 8
الكثيرة تصل إلى عدة أسطر مما يخلّ في فهم كلام شيخ الإسلام ﵀ كما سيجده القارئ.
والمخطوط من ضمن مخطوطات تركيا، في مكتبة عاشر أفندي تحت رقم (١١٥٤) وهناك تصحيح لرقم المخطوط قد شُطب عليه وكتب (١١٥٣) كما في بداية المخطوط، وهو مجموع من رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، كلها مطبوعة، قد استخرج بعضها الشيخ محمد رشاد سالم ﵀، وذكر وصف المخطوط في مقدمة جامع الرسائل، وقد نسخت بعض الرسائل في سنة (٧٣٥ هـ)، وتقع رسالتنا في ورقة (١٩٠ - ١٩٨).
وربما فاتت هذه الرسالة على البعض بسبب أن الباحث ينظر في بداية المخطوط، فيجدها قد طُبعت، ولا يتنبه إلى وسط المخطوط أو آخره، حيث لا يجده مطبوعًا.
والمطبوع من الرسالة فيها زيادات ما لا يوجد في المخطوط فأثبت الزيادات منها.
1 / 9
[صورة الصفحة الأولى من المخطوط]
1 / 10
[صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط]
1 / 11
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين وسلم تسليمًا.
فصل
في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات
قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى • وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: ١٤ - ١٥]. وقال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا • وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: ٩ - ١٠].
قال سفيان بن عيينة وقتادة وغيرهما: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال (١).
وقال أبو الفرج: (معنى زكّاها: طهّرها من الذنوب وأصلحها بالطاعة) (٢). وقيل: قد أفلحت نفس زكاها الله وقد خابت نفس دساها الله. وهذا قول الفراء والزجاج (٣).
_________
(١) رواه عبد الرزاق في تفسيره (٣/ ٤٣١) وابن جرير في تفسيره (٢٤/ ٤٤٤).
(٢) سقط من المطبوع، وانظر: زاد المسير (٤/ ٤٥١).
(٣) معاني القرآن للفراء (٣/ ٢٦٧) ومعاني القرآن للزجاج (٥/ ٣٣٢).
1 / 12
وكذلك ذكره الوالي عن ابن عباس وهو منقطع (لا يثبت) (١).
وليس هذا مراد الآية؛ بل المراد بها هو الأول قطعا لفظا ومعنى. أما «اللفظ» فقوله: من زكاها اسم موصول فلا بد فيه من عائد على «مَنْ».
فإذا قيل: قد أفلح الشخص الذي زكاها كان ضمير (الفاعل) (٢) في زكاها يعود على «مَنْ».
وهذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال: قد أفلح من اتقى الله ربّه، وقد أفلح من أطاع ربه، (وقد أفلح من خاف منه) (٣).
وأما إذا كان المعنى: قد أفلح من زكاه الله لم يبق في الجملة ضمير يعود على «مَنْ». فإن الضمير على هذا (المعنى) (٤) يعود على الله (على هذا القول) (٥). وليس هو «مَنْ». وضمير المفعول يعود
_________
(١) سقط من المطبوع، وانظر تفسير البغوي (٨/ ٤٠٢).
(٢) في المطبوع: الشخص.
(٣) سقط من المطبوع.
(٤) سقط من المطبوع.
(٥) سقط من المطبوع.
1 / 13
على النفس المتقدمة فلا يعود على «مَنْ»، لا ضمير الفاعل ولا ضمير المفعول. فتخلو الصلة عن عائد وهذا لا يجوز.
نعم لو قيل: قد أفلح من زكاها الله نفسه أو من زكاها الله له ونحو ذلك صح الكلام.
وخفاء (مثل) (١) هذا على من قال بهذا من النحاة عجب. وهو لم يقل: قد أفلحت نفس زكاها. فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس لا صلة؛ بل قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ ... فالجملة (صفة) (٢) لمَنْ لا صفة لها. ولا قال أيضا: قد أفلحت النفس التي زكاها؛ فإنه لو قيل ذلك وجعل في زكاها ضمير يعود على اسم الله صح، (وإنما قال قد أفلح من زكاها) (٣) فإذا (تكلف أهل هذا القول) (٤) وقال: التقدير ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ ... أي النفس التي زكاها. وقالوا: في زكيّ ضمير والمفعول يعود على «مَنْ»، (وقالوا: «مَنْ») (٥) تصلح للمذكر والمؤنث والواحد والعدد فالضمير عائد على معناها المؤنث وتأنيثها غير حقيقي، فلهذا قيل:
_________
(١) سقط من المطبوع.
(٢) في المطبوع: صلة.
(٣) سقط من المطبوع.
(٤) سقط من المطبوع.
(٥) سقط من المطبوع.
1 / 14
﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ ... ولم يقل قد أفلحت.
قيل لهم: هذا مع أنه خروج عن اللغة الفصيحة فإنما يصح إذا دلّ الكلام على ذلك في مثل قوله: (﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا﴾ [الأحزاب: ٣١] فإن قوله: منكن دلّ) (١) على أن المراد النساء فقيل: تعمل.
وكذلك قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس: ٤٢] ونحو ذلك. وأما هنا فليس في لفظ «مَن» وما بعدها ما يدل على أن المراد بهذا النفس المؤنثة (فإنه لم يقل: قد أفلحت. ولا قال: قد أفلح من النفوس من زكاها. وقد تقدمها قوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا • فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٧، ٨] ثم قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا • وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ فتقدم ما يصح عود ضمير المؤنث إليه، ولم يتقدم دليل على عوده إلى غير ذلك) (٢).
فلا يجوز أن يراد بالكلام ما ليس فيه دليل على إرادته؛ فإن مثل هذ (تلبيس) (٣) يصان كلام الله ﷿ عنه، فلو
_________
(١) سقط من المطبوع.
(٢) سقط من المطبوع.
(٣) سقط من المطبوع.
1 / 15
قدر احتمال عود ضمير «زكاها» إلى «نفس» وإلى «منْ» مع أن لفظ «منْ» لا دليل يوجب عوده إليه لكان إعادته إلى المؤنث (المعلوم تأنيثه) (١) أولى من إعادته إلى ما يحتمل التذكير والتأنيث، وهو في التذكير أظهر لعدم دلالته على التأنيث، فإن الكلام (إذا) (٢) احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما (الذي يدل على الكلام ولا يجوز حمله على الآخر بلا دليل إرادته) (٣) ومن تكّلف غير ذلك فقد خرج عن كلام العرب المعروف، والقرآن منزّه عن ذلك والعدول عما يدل عليه ظاهر الكلام إلى ما لا يدل عليه بلا دليل لا يجوز البتة، فكيف إذا كان نصًّا من جهة المعنى فقد أخبر الله أنه يلهم التقوى والفجور. ولبسط هذا موضع آخر.
والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم (والتحذير من) (٤) (تدسيسها) (٥) (كما قال في السورة الأخرى) (٦): ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
_________
(١) سقط من المطبوع.
(٢) زيادة من المطبوع.
(٣) سقط من المطبوع.
(٤) زيادة من المطبوع.
(٥) في المطبوع: تدسيتها.
(٦) سقط من المطبوع.
1 / 16
تَزَكَّى﴾ فلو قُدّر أن المعنى: أفلح من زكى الله نفسه: لم يكن في هذا أمر لهم ولا نهي؛ ولا ترغيب ولا ترهيب. والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول: من جعله الله مؤمنًا. بل يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ • الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ و﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى • وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ إذ ذكر مجرد القدر (في الأمر والنهي والترغيب والترهيب) (١) يناقض المقصود، ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلًا، فكيف بكلام الله تعالى ألا ترى أنه في مقام الأمر والنهي والترغيب والترهيب يذكر ما يناسب ذلك من الوعد والوعيد والمدح والذم (والتحضيض والترهيب) (٢)، وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم: إما بما ليس من أفعالهم، وإما بإنعامه بالإيمان والعمل الصالح، ويذكره في سياق قدرته ومشيئته، وأما في معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم.
كقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: ٢١] فهذا هناك مناسب. وقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ معنى آخر، وهذه الآية من جنس الثانية لا
_________
(١) سقط من المطبوع.
(٢) سقط من المطبوع.
1 / 17
(من جنس) (١) الأولى. والمقصود ذكر التزكية، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ الآية [النور: ٣٠]. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ [النور: ٢٨]. وقال تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ • الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت: ٦، ٧]. وقال تعالى: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ (وقال موسى لفرعون ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى • وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: ١٨، ١٩]، وقال تعالى: ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ [طه: ٧٦]) (٢).
وأصل الزكاة الزيادة في الخير. ومنه يقال: زكا الزرع (وزكا المال) (٣) إذا نما. ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، كالزرع الذي لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكوا (حتى يزال عنها ما يناقضها) (٤)، ولا يكون الرجل متزكيا قد زُكّي إلا مع ترك الشر؛ (ومن لم يترك الشر لا يكون زاكيًا البته فإن الشر) (٥) يدنّس النفس ويدسيها.
_________
(١) سقط من المطبوع.
(٢) ساقط من المطبوع.
(٣) ساقط من المطبوع.
(٤) زيادة من المطبوع.
(٥) ساقط من المطبوع.
1 / 18
قال الزجاج: معنى دساها جعلها ذليلة (حقيرة) (١) خسيسة (٢).
وقال الفراء: دسسها؛ لأن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله (٣).
قال ابن قتيبة: أي أخفاها بالفجور والمعصية (٤).
فالفاجر (بارتكاب الفواحش) (٥) دس نفسه؛ أي قمعها (وخباها) (٦)، وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها.
وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبا (٧) تشتهر (بذلك) (٨) أنفسها، واللئام تنزل الأطراف (والوديان) (٩).
فالبر والتقوى يبسط النفس ويشرح الصدر بحيث يجد الإنسان في نفسه أنه (اتسع وعظم) (١٠) عما كان عليه قبل
_________
(١) زيادة من المطبوع، والذي في طبعة معاني القرآن للزجاج: قليلة.
(٢) معاني القرآن للزجاج (٥/ ٣٣٢).
(٣) معاني القرآن للفراء (٣/ ٢٦٧).
(٤) غريب القرآن (٥٣٠).
(٥) سقط من المطبوع.
(٦) زيادة من المطبوع.
(٧) مأخوذ من الربوة وهو ما ارتفع من الأرض. النهاية في غريب الحديث (٢/ ١٩٢)
(٨) سقط من المطبوع.
(٩) زيادة من المطبوع. وانظر تأويل مشكل القرآن (٣٤٥).
(١٠) في المطبوع: اتساعا وبسطًا.
1 / 19
ذلك؛ (فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه الله وشرح صدره) (١)، والفجور والبخل يقمع النفس (ويصغرها) (٢) ويهينها بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق. وقد بين النبي ﷺ ذلك في الحديث الصحيح فقال: «مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما، فجعل المتصدق كلما (تصدق) (٣) بصدقة (اتسعت) (٤) وانبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همّ بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها وأنا رأيت رسول الله ﷺ يقول بإصبعه في جيبه فلو رأيتها يوسعها فلا تتسع». أخرجاه (٥)، (وهذا لفظ مسلم) (٦).
وإخفاء المنزل وإظهاره تبعا لذلك، قال الله تعالى: ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ [النحل: ٥٩]. فهكذا النفس البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في البدن وبعضها في
_________
(١) زيادة من المطبوع.
(٢) في المطبوع: ويضعها.
(٣) في المطبوع: همّ.
(٤) زيادة من المطبوع.
(٥) رواه البخاري كتاب اللباس باب جيب القميص من عند الصدر وغيره (٥٧٧٩)، ومسلم كتاب الزكاة (١١٢١) من حديث أبي هريرة ﵁.
(٦) سقط من المطبوع.
1 / 20
بعض، ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من الصوف المبتل، والنفس البرة النقية التقية (التي) (١) قد زكاها صاحبها فارتفعت واتسعت ومجدت ونبلت فوقت الموت تخرج من البدن (تسيل كالقطرة من فَيّ السقاء) (٢) وكالشعرة من العجين.
قال ابن عباس: «إن للحسنة لنورًا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لظلمة في القلب وسوادًا في الوجه ووهنا في البدن وضيقًا في الرزق وبغضًا في قلوب الخلق» (٣).
وقد قال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف: ٥٨]. وهذا مثل البخيل والمنفق. وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ١٢٥].
_________
(١) زيادة من المطبوع.
(٢) زيادة من المطبوع.
(٣) لم أجده من قول ابن عباس ﵄، ولكن للحسن البصري كلام نحوه فقال: العمل بالحسنة نور في القلب وقوة في البدن، والعمل بالسيئة ظلمة في القلب، ووهن في البدن. رواه ابن أبي الدنيا في التوبة (١٩٣) (١٩٧).
1 / 21
وقال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] الآية ونحوها. وقوله تعالى في سياق ذكر الرمي بالفاحشة وذم (المظهر لها) (١) والمتكلم بما لا يعلم: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: ٢١]. بيّن أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة، ولهذا قال: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ [النور: ٣٠].
وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال (النفس) (٢) فإنه (يؤمن) (٣) أن السيئات مذمومة ويكره فعلها ويجاهد نفسه إذا دعته إليها (إن كان مصدقا لكتاب ربه مؤمنًا بما جاء عن نبيه ﷺ (٤)، وهذا التصديق (والإيمان) (٥) والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة فتزكو (النفس) (٦) بذلك أيضا؛ بخلاف ما إذا عملت السيئات فإنها (تتدنس) (٧) وتندس وتنقمع كالزرع إذا نبت معه الدغل. والثواب إنما يكون على
_________
(١) في المطبوع: من أحب إظهارها في المؤمنين.
(٢) أشار في حاشية المخطوط: الإنسان.
(٣) في المطبوع: تعلم.
(٤) زيادة من المطبوع.
(٥) زيادة من المطبوع.
(٦) سقط من المطبوع.
(٧) زيادة من المطبوع.
1 / 22
عمل موجود، (والعقاب إنما يكون على عمل موجود) (١). فأما العدم المحض فلا ثواب فيه ولا عقاب لكن فيه عدم الثواب والعقاب.
والله ﵎ (٢) أمر (الناس) (٣) بالخير ونهاهم عن الشر، وقد اتفق الناس على أن المطلوب بالأمر فعل موجود، واختلفوا في (المطلوب) (٤) بالنهي وهو الترك: هل (هو) (٥) أمر وجودي أم أمر عدمي؟ فقيل: (المطلوب أمر) (٦) وجودي وهو الترك وهذا قول الأكثرين. وقيل: المطلوب عدم الشر وهو أن لا يفعله. (ومن قال هذا قال: لو لم يخطر النهي عنه بباله بحال لكان ممتثلًا) (٧).
والتحقيق (الأمر) (٨) أن المؤمن إذا نهى عن المنكر (فلا بد أن يقر بهذا النهي) (٩) ويعزم على ترك (المنهي عنه) (١٠)،
_________
(١) سقط من المطبوع، وفي المطبوع: وكذلك العقاب.
(٢) في المطبوع: سبحانه.
(٣) سقط من المطبوع.
(٤) زيادة من حاشية المخطوط.
(٥) في المطبوع: المطلوب.
(٦) سقط من المطبوع.
(٧) سقط من المطبوع.
(٨) سقط من المطبوع.
(٩) في المطبوع: فلا بد ان لا يقربه.
(١٠) سقط من المطبوع.
1 / 23