وكان النظام الاجتماعي الذي سنه الإسلام بسيطا كالنظام الروحي، فكان له مثل أثره في توحيد الجماعة العربية، كانت المساواة أمام الله أساس التوحيد الإسلامي، والمساواة أمام القانون أساس النظام الاجتماعي، فقد كانت المرأة العربية تعامل قبل الإسلام معاملة غير كريمة، فرفعها الإسلام إلى مقام الكرامة، وجعلها مساوية للرجل أمام الله؛ وإنما فضل الرجل عليها بما أنفق من ماله وما عاملها بالمعروف وجعل صلته بها صلة مودة ورحمة، وكان الفقراء يسامون المهانة، فرفع مكانهم إذ جعل تفاضل الناس عند الله بالتقوى لا بالمال، هذه القواعد وما إليها مما نظم الوحي به شئون الجماعة العربية لعهد رسول الله، وما جعله نظاما للجماعة الإنسانية كلها، قد كان له من الأثر في توحيد العرب وتقوية روحهم المعنوية ما قامت الإمبراطورية الإسلامية على أساسه.
وقد بدت آثار ذلك في حياة الرسول، وبدت تباشير الإمبراطورية المقبلة من خلاله، ففي السنة السابعة من هجرته
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة بعث رسله إلى قيصر وإلى كسرى وإلى غيرهما من الملوك والأمراء يدعونهم إلى الإسلام، وقد أغلظ كسرى لرسوله في الجواب، وبعث إلى بازان عامله على اليمن ليجيئه برأس «هذا الرجل الذي بالحجاز»، لكن كسرى قتل قبل أن تصل رسالته إلى بازان، وشعر هذا الأمير الفارسي بقوة محمد وأصحابه، فخلع عن اليمن نير الأكاسرة، وانضم إلى رسول الله، فكان انضمامه الخطوة الأولى في تحرير البلاد العربية من ربقة النير الأجنبي.
وكان رسول الله لا يفتأ بعد ذلك يفكر في الروم ومناجزتهم، فلما كانت السنة التاسعة من الهجرة سار على رأس جيش العسرة إلى تبوك؛ وسمع الروم بمقدمه فخافوه وانسحبوا داخل حدود الشام ولم يلقوه، مع ذلك صالح يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة كما صالح أهل الجرباء وأذرح على الجزية، وأيلة والجرباء وأذرح من أعمال الشام الخاضعة لسلطان الروم، بذلك كانت تبوك قاضية على كل نفوذ للروم في شبه الجزيرة، وكانت أول إرهاص باتجاه الإمبراطورية الإسلامية إلى ناحية الشام.
اختار الله رسوله إليه، فبايع المسلمون أبا بكر بخلافته، وخيل إلى جماعة من العرب أنهم قادرون على الثورة بخليفة الرسول وبدينه، فكان انتصار أبي بكر في حروب الردة دليلا قاطعا على أن العرب أشربت نفوسهم مبادئ التوحيد؛ ولذلك لم يقل أحد من الذين ادعوا النبوة إنهم يدعون الناس إلى وثنيتهم وإلى جاهليتهم الأولى، كما دل على أن الذين امتثلوا هذه المبادئ من أصحاب رسول الله المهاجرين والأنصار قد وهبوا لها نفوسهم فلا غالب لهم، من ثم أسرعت وحدة العرب إلى التماسك والثبات، فلم يمض عام على خلافة أبي بكر حتى كان المسلمون يواجهون الفرس في دلتا الفرات فيقهرونهم، ولم ينقض العام الثاني حتى كانوا يواجهون الروم في الشام ويثبتون لهم، وكذلك مهد أبو بكر للفتح وللإمبراطورية بعد أن هيأ الدين الجديد لها القلوب والأفئدة، ثم تابعه عمر فدفع بالإمبراطورية إلى الحدود التي ذكرناها.
هذه اللمحة السريعة عن نشأة الإمبراطورية تشهد بأن الإسلام دفع إلى نفوس العرب قوة معنوية عظيمة حفزتهم لطرح نير الأجنبي عن كواهلهم، وللاندفاع إلى ما وراء تخومهم، ومواجهة الفرس والروم في أعقار دورهم، والقوة المعنوية أس الظفر في كل نضال، ذلك بأن صاحبها لا يعرف الهزيمة ولا يرضاها؛ فإذا ارتد يوما لم يوهن ذلك من عزمه، بل حفزه لمضاعفة الجهد، وجعله يستهين بكل صعب، ويستهين بالحياة نفسها في سبيل الظفر بالغاية التي يريد بلوغها، وتاريخ العالم من أقدم العصور إلى وقتنا الحاضر شهيد بأن الفوز في النضال قد كان دائما لصاحب العقيدة الثابتة والإيمان الراسخ؛ لأن هذا الإيمان وهذه العقيدة يورثان صاحبهما من القوة ما يجعل الجبل إذ يقول له انتقل من مكانك ينتقل.
أقامت العقيدة إذن بناء الإمبراطورية الإسلامية، ومن هنا كان الرسول بهذه العقيدة، محمد
صلى الله عليه وسلم ، هو الذي وضع الأساس الثابت لهذا البناء، ثم كان صفيه وخليله أبو بكر هو الذي مهد لقيامه بما قضى على الذين حاولوا مناوأة هذه العقيدة، وحين دفع العرب فتخطوا تخوم العراق وتخوم الشام، وجاء عمر من بعده فأتم هذا البناء وتركه متين الدعائم، فازدادت رقعته فسحة بقوته الذاتية المنبعثة من روح الإسلام، وظلت هذه الرقعة تنفسح ، حتى أصاب الفكرة الدافعة لإقامة الإمبراطورية ما أصابها؛ إذ غشت عليها أوهام، ما أشبهها بأوهام الجاهلية، أثارت التنازع والبغضاء بين المسلمين.
وقد روينا حديث التاريخ عن عهد رسول الله وعهد أبي بكر، فرأينا ما كان لهذه القوة المعنوية من أثر في نفوس المؤمنين بالعقيدة الباعثة لها، وفي هذا الكتاب من أعمال البطولة التي قام بها المؤمنون في عهد عمر ما يثبت إيمانك بأثر هذه القوة، وما يدحض قول الذين قالوا: إنما اندفع المسلمون لقتال الفرس والروم حبا للغزو وتهافتا على مغانمه، فكيف لأمة قليلة العدد والعدة أن تخاطر بغزو جيران يزيدون عليها في العدد والعدة أضعافا مضاعفة، لغير شيء إلا إرضاء هوى الغزو الكمين في طبعها! ومتى وهب الناس حياتهم راضين طمعا في مغنم قد تذهب حياتهم قبل أن يبلغوا منه قليلا أو كثيرا! ألا إنه الإيمان الصادق بالعقيدة السليمة هو الذي سما بنفوس هؤلاء المسلمين الأولين فخلدوا على التاريخ من صحف المجد ما قل في التاريخ نظيره، وليس هذا التقديم موضعا لسرد ما فعلوا، فسيجده القارئ مفصلا في خلال الكتاب، مقنعا كل منصف يريد الاقتناع بالحق بأن القوة التي بثها الإسلام في نفوس الذين أخذوا في ذلك العهد بمبادئه هي التي دفعتهم إلى ميادين المجد والشرف، وهي التي حببت إليهم الاستشهاد في سبيل الدعوة إلى الحق الذي أوحاه الله إلى رسوله، ومن أحب الاستشهاد في سبيل الله انتصر لا محالة.
অজানা পৃষ্ঠা