لعلك تذكر أن أبا بكر لما عزم فتح الشام واستمد العرب جميعا لغزوه وجه أربعة ألوية إلى أرضه، جعل على أحدها أبا عبيدة بن الجراح، وعلى الثاني عكرمة بن أبي جهل، وعلى الثالث يزيد بن أبي سفيان، وعلى الرابع عمرو بن العاص، وأنه اختص كل لواء بمنطقة في الشام يغزوها، فإذا اجتمعت هذه الجيوش فالأمير عليها أبو عبيدة، وقد لقيت هذه الجيوش من مقاومة الروم وبأسهم ما اضطرها إلى الاجتماع في صعيد واحد على ضفة اليرموك، ولم تدعها جند هرقل تتقدم، بل وقفت إزاءها على ضفة النهر الأخرى، وضاق أبو بكر ذرعا بجمود جنوده، فكتب إلى خالد بن الوليد بالعراق ليسير إلى الشام أميرا على جيوشه كلها، وبلغ خالد الشام، وأقام شهرا آخر على ضفة اليرموك دون أن يواجه الروم، وقبض أبو بكر وتولى عمر إمارة المؤمنين والموقف لا يزال على جموده، فكان من أول ما استفتح به عهده أن حمل محمية بن زنيم وشداد بن أوس كتابا إلى أبي عبيدة بعزل خالد عن إمارة الجيش وبردها إليه كما كانت قبل أن يفصل خالد من العراق إلى الشام.
1
بينا محمية بن زنيم وشداد بن أوس في طريقهما إلى الشام يحملان رسالة عمر بعزل خالد، كان خالد يدبر للقاء الروم والقضاء عليهم، ولقد عرف أن الروم يتجهزون للقائه، فعبأ جيوشه كراديس على نحو لم يألفه العرب من قبل؛ وذلك لأنه ليس أكثر في رأي العين من الكراديس، ثم حمل بهم غداة ذلك اليوم فالتقى هو وجيش الروم فحطمه، وقضى على كل أمل للروم في استبقاء الشام.
2
تجري طائفة من الروايات بأن رسولي عمر بعزل خالد وصلا إلى الشام صبح اليوم الذي وقعت فيه هذه المعركة الفاصلة، وأنهما رفعا رسالة أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة فلم يذع ما فيها حتى انتهت المعركة، فلما تم فيها النصر للمسلمين أنبأ خالدا بها وأذاع في الجيش أمرها، وتولى القيادة مكان خالد، وتذهب روايات أخرى إلى أن أبا عبيدة لم يذع ما في الرسالة إثر الموقعة، بل أخفاه وسار تحت إمرة خالد إلى دمشق، حتى إذا فتحت وتم الصلح مع أهلها أذاع أمر أمير المؤمنين، وتسوق بعض الروايات الحوادث غير هذا المساق، وتذكر أن عمر أمر بعزل خالد عن كل عمله في الجيش وبمحاكمته في أمور نسبها إليه وطلب سؤاله عنها.
والراجح عندي أن أبا عبيدة لم يذع النبأ بعزل خالد أول ما بلغه، سواء كان قد بلغه صبح يوم اليرموك أو بعد انتصار خالد فيها، وأنه كتم هذا النبأ أياما حار في أثنائها ما يصنع به وكيف يذيعه، وفي هذه الأثناء عرف الناس أن أبا بكر قبض وأن عمر تولى مكانه، فاختلفوا رأيا، وبرم بعضهم بولاية عمر كما برم بها قوم من أهل المدينة، ثم هدأت ثائرتهم ورضوا الواقع، حين علموا أنه تم بوصية أبي بكر، وقدر خالد أن عمر لن يرضاه أميرا على جيوش المسلمين بالشام، وأنه لا بد أن سيعزله، وتحدث بذلك إلى بعض المقربين منه، ولعله تحدث به إلى أبي عبيدة، عند ذلك أنبأه أبو عبيدة برسالة عمر فلم يغضب ولم يثر، ورضي طائعا أن يتولى قيادة لوائه بإمرة ابن الجراح، كما قبل ابن الجراح من قبل أن يكون تحت لوائه طوعا لأمر أبي بكر حين بعث خالدا من العراق إلى الشام،
3
ولم يثر الناس بأمر عمر وعزله خالدا؛ لأنهم كانوا يعرفون ما بين الرجلين منذ حادث مالك بن نويرة، وكذلك تم هذا التبديل في إمارة الجيش إثر موقعة انتصر فيها خالد نصرا حاسما، فلم يترك في نظام المسلمين وجندهم أي أثر تخشى مغبته.
هذا ما أرجحه، وهو ما يستخلص من مختلف الروايات، وقد كتب به أبو عبيدة إلى عمر وأنبأه بما تم من نصر على الروم في اليرموك، وبعث إليه بخمس الفيء، وذكر له أنه خلف بشير بن سعد بن أبي الحميري على اليرموك ليحمي ظهره، وخرج إلى مرج الصفر يتعقب فلول المنهزمين الذين تجمعوا بفحل، وأنه أتاه الخبر بأن هرقل أمد دمشق بقوات من حمص، وكان هرقل يقيم بها، فهو لا يدري أيبدأ بدمشق أم بفحل من بلاد الأردن.
وتناول عمر كتاب أبي عبيدة، فلم يلبث حين قرأه أن كتب إلى أبي عبيدة:
অজানা পৃষ্ঠা