إنه أسلم، فيجب أن يعرف الناس جميعا أنه أسلم: ليغضب منه من شاء أن يغضب، وليحاربه منهم من شاء أن يحاربه، وليتألب عليه من اجتمعوا في أنديتهم حول الكعبة وليناضلوه، وليبلغ ذلك منه حتى يناله الإعياء، فلن يصرفه ذلك عن تحديهم ومصارحتهم بأنه محاربهم، وبأن المسلمين متى بلغوا ثلاثمائة رجل فستكون الحرب حتى يجلي المسلمون المشركين عن مكة، أو يجليهم المشركون عنها، ولن يرده ما يعرفه من حدة أبي جهل وبأسه عن أن يذهب إليه في داره فيضرب عليه بابه ليقول له إنه أسلم، هو قوي مؤمن بالقوة، وهو شاب أشد بالقوة إيمانا، وهو جريء صريح لا يهاب الأقران ولا يخشى أحدا؛ لذلك لم يستخف كما استخفى غيره من المسلمين، بل أقسم ليصلين مع المسلمين عند الكعبة، وذلك بعد أن كانوا يصلون مستخفين في شعب من شعاب الجبل المحيط بمكة.
ولقد برت يمينه، كان عبد الله بن مسعود يقول: «كان إسلام عمر فتحا، كانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا فصلينا.» وكان يقول: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.» وروي عن صهيب بن سنان أنه قال: «لما أسلم عمر أظهر الإسلام ودعا إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.»
والحق أن عمر لم تطب نفسه إلا أن جاهد قريشا، ليكون له ولإخوانه المسلمين ما لغيرهم من حق في بيت الله والصلاة لله حوله، وهو ما لبث حين جاهدها أن رأى معه حمزة بن عبد المطلب يجاهد جهاده، ويخرج وإياه مع المسلمين إلى موقف إيجابي لم يقفوه من قبل، موقف النضال ليكون لهم من الحقوق ما لغيرهم من قريش، وليكون لهم من حرية الدعوة إلى دينهم، ما لا سبيل لقريش أو لغير قريش أن تقف دونه.
وكان لهذا الموقف الإيجابي أثره في قبائل قريش جميعا، كان فيها كثيرون تهوي قلوبهم إلى الإسلام، ثم يمنعهم الخوف من أذى قريش أن يدينوا به، فلما رأوا عمر أسلم وقاتل قريشا وصلى عند الكعبة وصلى المسلمون جميعا عندها، دخلوا في دين الله وظنوا أنهم أصبحوا بمنجاة من الأذى ومن العذاب، عند ذلك قالت قريش بعضها لبعض: «إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها.» وجعلوا يفكرون في هذا الموقف الجديد كيف يواجهونه.
وانتشر النبأ بإقبال كثيرين من قريش على الإسلام، ثم انتقل هذا النبأ من الحجاز إلى الحبشة، وعرفه المسلمون الذين هاجروا إليها، فعادوا إلى وطنهم، فلما دنوا من مكة بلغهم أن ما تحدثوا به من إسلام أهلها لا يتفق والواقع، ذلك أن قريشا ما لبثت حين رأت كثيرين من أبنائها يقتفون أثر عمر ويتبعون محمدا، أن تعاهدت قبائلها فيما بينهم فكتبوا صحيفة تعاقدوا فيها على بني هاشم وبني المطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم، ورأى الذين هوت أنفسهم إلى الإسلام ولما يسلموا ما صنعت قريش، فترددوا، فوقفوا دون اتباع رسول الله، بذلك عادت الحرب العوان بين قريش والمسلمين، وعرف المسلمون الذين عادوا من الحبشة ما كان من ذلك، فلم يدخل أحد منهم البلد الحرام إلا بجوار أو مستخفيا، ورجع منهم إلى الحبشة كثيرون.
عادت الحرب العوان بين قريش والمسلمين، وصار عمر يتعرض لما يتعرض له أصحاب رسول الله، ويصيبه ما يصيبهم، ويتبع الوحي الذي ينزل من عند الله ثم يزداد بقوة إيمانه ودقة نظامه وحسن رأيه قربا من النبي وحظوة عنده، ليكون له من بعد في صحبة رسول الله، وفي عهد أبي بكر، وفي حياة الإسلام ذلك الأثر البالغ الذي جعل اسمه علما على القوة والعدل والرحمة والبر مجتمعة، وجعل عهده من أعظم العهود في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية، بل في تاريخ الحضارة الإنسانية.
هوامش
الفصل الثالث
في صحبة النبي
دخل عمر في دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها، فما لبث حين أسلم أن حرص على أن يذيع في قريش كلها إسلامه. كان المسلمون لا يستطيعون أن يصلوا بالبيت العتيق، فقاتل عمر قريشا حتى تركوهم فصلوا، وكانت الدعوة إلى الإسلام تجري خفية، حتى إذا أسلم عمر دعي إليه علانية، وجلس المسلمون حول البيت وطافوا به وانتصفوا ممن غلظ عليهم؛ لذلك فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فأقبل كثيرون من أبنائها على الإسلام، هنالك ائتمرت قريش، فتعاهدت قبائلها فكتبوا بينهم صحيفة علقوها في جوف الكعبة وتعاقدوا فيها على ألا تكون بينهم وبين محمد وبني هاشم وبني المطلب تجارة أو صلة، بذلك ازدادت الحرب شدة بين قريش والمسلمين.
অজানা পৃষ্ঠা