4
فلما فتحوا الحصن وأزمع عمرو السير إلى الإسكندرية أمر بنزع هذا الفسطاط، فإذا فيه يمام قد فرخ، فقال: لقد تحرم بنا! ثم أمر بإبقاء الفسطاط حين يطير الفراخ، وأوصى به صاحب القصر، فلما عاد من الإسكندرية أمر جنده أن ينزلوا عند الفسطاط، وأن يختطوا دورهم حوله، وكذلك اختطت البلدة، وقسمت بين أحياء العرب وبناها لهم القبط، وبنى عمرو مكان الفسطاط وما حوله مسجدا بين حدائق وأعناب، وظل قائما مع أصحابه حتى حرروا قبلته، ثم إنه اتخذ في المسجد منبرا يخطب الناس من فوقه، فلما عرف عمر صنيعه ذاك كتب إليه يقول: «أما بعد، فإنه قد بلغني أنك اتخذت منبرا ترقى به فوق رقاب المسلمين، أما حسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك! فعزمت عليك إلا ما كسرته!» فكسره عمرو وأزاله.
وبنى عمرو دارا لعمر بن الخطاب وكتب إليه: إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع، فأجابه عمر: أنى لرجل بالحجاز أن تكون له دار بمصر! وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين، فنفذ عمرو أمره.
وإنما تخير عمرو هذا الفضاء فأقام به فسطاط مصر حتى لا يخرج المسلمون أهل مصر من ديارهم ليحلوا محلهم، وليتجنب بذلك كل ما يوجب شكوى المصريين أو تذمرهم، ولعله أراد كذلك أن ينشئ مدينة إسلامية يرابط بها جند المسلمين، وتقيم فيها أسرهم لتكون بيئة يعيشون فيها مألوف عيشهم، على نحو ما فعل سعد بن أبي وقاص حين مصر الكوفة والبصرة، على أن اتخاذ ابن العاص، وهو والي مصر هذا البلد مقرا لحكمه أسرع به إلى العمران، وأدى بطائفة كبيرة من المصريين إلى الانتقال إليه والبناء فيه، فلما اتسعت رقعة المدينة أنشأ المسلمون بظاهرها ضاحية أطلقوا عليها اسم العسكر، ونقلوا إليها قاعدة الحكم، بذلك صارت فسطاط مصر عاصمة البلاد كلها، تشد إليها الأنظار من الصعيد ومن مصر السفلى ومن ثغور البحرين الأبيض والأحمر، مما أدى بها إلى أن تزداد على الأيام سعة وعمرانا، وقد ترتب على ازدياد عمرانها أن انتقلت إليها التجارة، وأن ازدهرت فيها الحياة، فنزح إليها كثيرون من أعيان الإسكندرية ومن أعيان منف، وكان ذلك مقدمة للقضاء على منف وأن تصبح قرية أثرية لا تذكر عظمتها إلا إذا قرنت إلى عظمة الفراعنة الذين اتخذوها مدى آلاف السنين عاصمتهم، كما جنى على الإسكندرية فلم تبق المدينة العظيمة ذات الجلال الباهر، والثغر المضيء بجلاله كل ما حوله من أرجاء العالم.
أقام عمرو بفسطاط مصر يفكر في تدبير سياستها، وقد رأيت أنه جعل حرية العقيدة من أسس هذه السياسة، فلما عرف رهبان القبط هذا الأمر وتيقنوه خرج عدد عظيم منهم من الأديار التي كانوا قد اعتصموا بها من الاضطهاد، وساروا إلى عمرو يعلنون له الطاعة، وكان عمرو حريصا على أن يعود البطريق بنيامين إلى رياسته الدينية لما عرفه من محبة القبط له وتعلقهم به، ومن ازدياد هذه المحبة في نفوسهم بعد فرار بنيامين إلى أقصى الصعيد واعتصامه من الروم بالصحراء، لذا كتب للقبط جميعا أمانا خص فيه بنيامين بقوله: «فليأت البطريق الشيخ آمنا على نفسه وعلى الذين بأرض مصر والذين في سواها، لا ينالهم أذى ولا تخفر لهم ذمة.» وعرف بنيامين عهد الفاتح العربي، فخرج من مخبئه بالصحراء وسار إلى الإسكندرية، فدخلها دخول الظافر في مظاهر من ابتهاج القبط لا يساورها خوف ولا يشوب صفوها كدر.
ولما استقر ببنيامين المقام بين أتباعه، دعاه عمرو إليه وقابله بالترحيب والتكريم، وتحدث بنيامين إليه، وكان عذب المنطق، في تؤدة ورزانة، فأعجب الفاتح بحديثه، وجعل له ولاية الدين على القبط يسوسهم في أموره بما يشاء، وخرج البطريق القبطي من حضرة الفاتح الإسلامي ممتلئ النفس غبطة وابتهاجا، وعاد إلى الإسكندرية يلهج بحمده والثناء عليه ويقول لأتباعه: «عدت إلى بلدي الإسكندرية، فوجدت بها أمنا من الخوف، واطمئنانا بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة وبأسهم.»
ولم تكن الأيام لتزيده إلا ثناء وحمدا؛ فقد اجتمع القبط من حوله أحرارا في إقامة شعائرهم، فأصلح لهم كنائسهم وذهب إلى أديارهم، فكانوا يقابلونه في مواكب يحملون فيها بين يديه المباخر وسعف النخيل.
وقد بلغ من ابتهاج القبط بعود الحرية إليهم مبلغا يعبر عنه ساويرس بقوله: «إنهم فرحوا كما تفرح الأسخال إذا حلت قيودها وأطلقت لترتشف من لبان أمهاتها.» ومع ما عرف من بغض حنا النقيوسي للمسلمين وتسقطه خطآتهم لقد كتب عن عمرو يقول: «لقد تشدد في جباية الضرائب التي وقع الاتفاق عليها، لكنه لم يضع يده على شيء من ملك الكنائس؛ ولم يرتكب شيئا من النهب أو الغصب، بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته.» ونقل حنا عن المصريين أنهم كانوا يقولون: «ما خرج الروم من الأرض وانتصر عليهم المسلمون إلا لما ارتكبه هرقل من الكبائر، وما أنزله بالقبط وملتهم على يد قيرس، لقد كان هذا سبب ضياع أمر الروم وفتح المسلمين لبلاد مصر.»
لم يكن الملكانيون، من المصريين ومن الروم الذين أقاموا بمصر، أقل تمتعا بحريتهم الدينية من القبط، بل أظلتهم حماية عمرو كما أظلت المونوفيسيين، صحيح أن الملكانيين كانوا قلة إلى جانب المونوفيسيين، وأن عددا كبيرا من القبط الذين انتقلوا أيام الإرهاب إلى المذهب الملكاني لم يلبثوا حين عادت لهم حريتهم الدينية أن رجعوا إلى مذهبهم الأول والتفوا حول راعيهم القديم، ونالوا على يده «تاج الاعتراف» كتعبير ساويرس، لكن آخرين من القبط الذين انتقلوا إلى المذهب الملكاني أصروا عليه فلم يسمح الحكم الإسلامي بحملهم قهرا على تغييره، لذلك بقي بمصر عدد كبير من الملكانيين إلى ما بعد الفتح بخمسين عاما، وإنما تناقصوا من بعد؛ لأن المصريين منهم شعروا بأن صلاتهم الاجتماعية تقتضيهم الدخول في مذهب جماعتهم، ولأن من بقي من الروم بمصر آثر أن يندمج مع أهلها فدان بدين الكثرة أو بدين الحاكمين.
كان من أثر هذه الحرية الدينية أن أقبل كثيرون من عقلاء الروم والمصريين على النظر في المذاهب المختلفة، ثم انتهى أكثر هؤلاء إلى قبول الإسلام والدخول فيه، فقد رأوا في تنازع المذاهب المسيحية واضطهاد أصحابها بعضهم لبعض ما زهدهم فيها، وجعلهم يلتمسون عن طريق الحرية العقلية سبيلا إلى عقيدة يؤمنون بها مختارين، وكان الإسلام في هذا العهد الأول يدعو إلى النظر في الكون نظرا حرا مطلقا من كل قيد، فلم تكن قد نشأت فيه المذاهب والشيع، ولم يكن أهله قد عرفوا التعصب الذميم لمذهب على مذهب، بل كان باب الاجتهاد مفتوحا لكل ذي عقل وبصيرة، وكان ما ورد في القرآن الكريم من المبادئ البالغة غاية السمو يدعو إلى الإقبال عليه والاطمئنان إليه، وإذا صح ما يقال أحيانا من أن المصريين الذين دانوا بالإسلام في ذلك العهد إنما دانوا له ليتساووا بالفاتحين، فلن يصدق ذلك إلا على الأقلين منهم؛ أما كثرتهم فقد دانت به عن بينة وإيمان، ولا عجب في ذلك وفطرة المحافظة على العقيدة الدينية أقوى في النفس من أن يزلزلها مثل هذا الاعتبار، يقول بتلر في هذا الصدد: «ليس من العدل أن يقال إن كل من أسلم من القبط إنما يقصد الدنيا وزينتها، وإذا كان منهم من أسلم طمعا في أن يتساوى بالمسلمين الفاتحين حتى يكون لهم ما لهم وينجو من دفع الجزية، فإن هذه المطامع ما كانت لتدفع إلا من كانت عقيدتهم غير راسية، أما الحقيقة المرة فهي أن كثيرين من أهل الرأي والحصافة قد كرهوا المسيحية لما كان من عصيان لصاحبها، إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء في الله، ونسيت ذلك في ثوراتها وحروبها التي كانت تنشب بين شيعها وأحزابها، ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجئوا إلى الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته.»
অজানা পৃষ্ঠা