171

كانت كنيسة القديس مرقس تحتوي على جثمان ذلك الرسول موضوعا أمام المحراب في تابوت من المرمر، وكانت لهذا السبب ولفخامة بنائها موضع الإكبار والتقديس من جميع الناس، على أن كنيسة «القيصريون» القائمة في الحي نفسه عند ثنية المرفأ الأعظم كانت أعظم منها شأنا، وكادت لذلك أن تحل محلها، ولم تكن «القيصريون» كنيسة في أول تشييدها، بل كان معبدا وثنيا أقامته «كليوبترا» فوق نهد من الأرض مشرف على البحر ليراه كل قادم إلى الإسكندرية، فيرى العظمة والجلال والجمال مجتمعة، وقد شادت الملكة البارعة ابنة البطالسة الأعظمين هذا المعبد الفخم إعظاما ليليوس قيصر، ولذلك أطلق عليه اسم «القيصريون» فلما انتحرت وآل حكم مصر إلى الرومان أتم القيصر «أغسطس» بناء المعبد وزاد فيه وجعله من العظمة بما جعل «فيلو» يقول في وصفه: «... كان معبد قيصر أثرا لا مثيل له، وكان على ميناء فسيحة عظيمة البناء، عجيب الصناعة، عالي السمك يعده الناس علما من أعلام البحر؛ قد زانته أبدع الصور والتماثيل، تقدم إليه جليل الهدايا والقرابين؛ وكانت تجمله كله حلية من الذهب والفضة، فكان نموذجا في جمال تنسيقه، وإبداع أجزائه المؤلفة من متاحف ومكاتب وقباب وساحات وأبهاء ومماش وخمائل من أشجار ظاهرة، وقد وضع كل شيء في موضعه اللائق به، وأبدعت فيه يد الصناعة فأبرزته في حلة أنيقة من الرونق، بذل في سبيلها المال لم يدخر باذله ثمينا ولا غاليا، وكان إلى ذلك متعة لأهل الأسفار وجلاء لأعينهم إذا وقعت عليه في غدواتهم وروحاتهم.»

5

وكان في صدر «القيصريون» مسلتان أثارتا من العرب أشد العجب، فقد كانت من الجرانيت الأحمر، وكانتا مربعتين تقومان على قاعدتين كسيت إحداهما بغطاء من النحاس على شكل أربعة من الجعلان نقشت عليها نقوش قديمة، وكانت هذه الجعلان تفصل بين المسلة وبين القاعدة، ثم كانت القاعدة قطعة واحدة من الجرانيت تحتها ثلاث طبقات مدرجة من الحجر، أما القاعدة الثانية فكان يفصل بينها وبين المسلة أربعة تماثيل من حجر شفاف خاله العرب زجاجا، وكان على رأس كل من المسلتين غطاء من النحاس أو البرنز يرتكز عليه تمثال من هذا المعدن، ويمثل أحد التمثالين إلها لعله إله النصر، ويمثل الآخر إلهة لعلها من آلهة البحر، وكانت هذه المسلات بتماثيلها وقواعدها بارعة الجمال في دقة صناعتها، فكانت متاعا لعين الناظر إليها من البحر إذ تمر بها السفن داخله إلى المرفأ أو خارجة منه.

كانت هذه المجموعة البديعة: من قصور ومعابد وكنائس وتماثيل وعمد ومسلات، مشرفة على البحر عند نهاية أحد الطريقين الرئيسيين للمدينة، فكان العرب إذ يبلغونها يقفون عند كل واحد منها مسحورين تولاهم البهر، وما ندري لعل بهرهم بها أول دخولهم المدينة قد أتاح للروم الذين فروا في البحر فرصة الابتعاد بالسفن عن الشاطئ.

وفي حي آخر على مقربة من الباب الجنوبي للإسكندرية، كان يقوم عمود «دقلديوناس» الذي سماه العرب من بعد «عمود السواري.» وهذا العمود لا يزال قائما يشهد في صمته بما كان عليه معبد السرابيوم القائم حوله من جمال وجلال وعظمة، فما من شيء يرسم أمامنا صورة منه إلا أطلال الكرنك، لولا أن الكرنك مصري كل عمارته العظمة والجلال، وأن السرابيوم قد جمع بين الفنين المصري والإغريقي، فجمع إلى الجلال المصري دقة الفن الإغريقي وزينته.

فقد شيد هذا المعبد أول ما شيد في عهد البطالسة قدسا للإله «سيرابيس» ويذكرون أن بطليموس الذي شاده جاء بتمثال إله من جزيرة إغريقية، وأطلق عليه اسما مشتقا من الاسمين أوزوريس وأبيس، ليجمع حوله عبادة أهل الإسكندرية، من المصريين الأصليين، ومن اليونان الذين نزحوا إليها واستوطنوها، وشاد بطليموس قدس هذا الإله فوق ربوة يذهب بعضهم أنها ربوة طبيعية كربوة الأكروبوليس بأثينا، على حين يذهب آخرون إلى أنها من صنع الإنسان، وأيا ما يكن الواقع فقد كان هذا البناء قائما على نهد له نواة من الصخر الطبيعي، وكان مشرفا بارتفاعه على المدينة، وكان قاصده يصل لذلك إليه عن أحد الطريقين: أولهما سلم مائة درجة، والثاني سفح ممهد تسير عليه العجلات.

والظاهر من روايات المؤرخين أن بناء السرابيوم كان مستطيلا خمسمائة ذراع في مائتين وخمسين، وكان قدس سيرابيس يقوم في وسطه مشيدا داخله وخارجه من أثمن المرمر، وقد خلع على بنائه من الروعة غاية ما بلغه فن المعمار في مصر، وفي وسط هذا القدس كان يقوم تمثال عظيم لسيرابيس من الخشب الملبس بالذهب والعاج، له ذراعان ممدودتان، تكاد كل منهما تلمس الحائط الذي يليها، وكانت تزين القدس نقوش باهرة لا سبيل إلى تقويمها، وقد أحيط القدس بصف من العمد توازي العمد التي كانت تحيط بالفناء كله في أربعة صفوف متوازية، ولقد هدم المسيحيون هذا القدس الوثني قبل دخول العرب، فلم تصدهم عنه روعة عمارته، ولم تحملهم على الاكتفاء بإخراج التمثال الوثني منه والإبقاء على بنائه البارع البديع.

ولم يكن بناء السرابيوم فيما حول قدس سيرابيس دون هذا القدس جلالا، قال «أميانيوس» في وصفه: «إن الوصف ليعجز عن تصوير صورة حقيقية له، فقد كانت أبهاؤه ذات العماد، وتماثيله التي كأنها من الأحياء، وما كان به غير ذلك من آثار الفن، كل ذلك كان يميزه ويخلع عليه بهاء يجعله فذا في العالم، فلا شيء مما فيه يزيد عليه جمالا اللهم إلا بناء الكابتول، ذلك الفخر الخالد الذي تفخر به رومية العظيمة.»

وكان في بناء السرابيوم حجرات عظيمة شغلت بعضها مكتبة الإسكندرية وشغلت بعضها مشاهد لآلهة مصر القديمة، وكان فيه مسلتان قديمتان وحوض ماء عظيم من المرمر الفائق الجمال، وقد اتخذ المسيحيون بعض مبانيه كنائس بقي بعضها قائما إلى ما بعد الفتح العربي، وكان يلاصق مدخله بناء له قبة مذهبة عالية قائمة على دائرة مزدوجة من الأعمدة، وقد بقي هذا البناء، كما بقي كثير من عمد السرابيوم قائما إلى زمن طويل بعد الفتح، وكان بعض المؤرخين يذكرون هذا البناء، ويطلقون عليه اسم «مدرسة أرسطو» و«قبة أرسطو» و«بيت الحكمة».

وعلى مقربة من السرابيوم أقيم ميدان لسباق الخيل، قيل إنه كان يتسع لألف من النظارة، وإن بناءه كان يتيح لهذا العدد العظيم أن يروا ويسمعوا ما يجري فيه من غير مشقة، أما دار التمثيل فكانت في حي آخر استقلت فيه ببناء عظيم تلفت عظمته النظر ويسحر جماله الفؤاد.

অজানা পৃষ্ঠা