على أننا مع ذلك نستطيع أن نستنبط من سياق الحوادث أن موقف المصريين لم يكن له أثر يذكر في نتيجة المعركة؛ فهم كانوا يمقتون الروم في أعماق قلوبهم أشد المقت، فلم يكونوا يبذلون لهم أي عون إلا مكرهين، وهم كانوا مع ذلك في ريب من مقاصد المسلمين بإزائهم، وبخاصة أن هؤلاء المسلمين كانوا بحكم الحرب، يأخذون لأنفسهم من أموال المصريين كل ما يحتاجون إليه لميرتهم وذخيرتهم، وكانوا يعاملون من لا يذعنون لهم من أهل البلاد معاملة بطش وقسوة، هذا إلى أن أهل البلاد كانوا قبل مجيء العرب في ثورة دائمة بالروم، وكانوا يرجون أن تتيح لهم هزائم هرقل بالشام فرصة التخلص من حكمه وحكم عماله ليستقل المصريون بأمر بلادهم، فيرتفع الظلم والعسف عنهم وتخلص لهم خيرات أرضهم، أترى العرب إذا غلبوا الروم على مصر ألا يحلون محلهم فيها، ويستأثرون بالسلطان على أهلها، ويختصون أنفسهم بما كان الروم يختصون أنفسهم به من خيراتها! ألم يفرض هؤلاء المسلمون الجزية عليهم في صلح بابليون؟ والمسلمون يخالفونهم في الجنس واللغة والعقيدة والعادات؛ وقد يحاولون غدا أن يحملوهم على تغيير دينهم، كما حاول الروم أن يحملوهم على تغيير مذهبهم! لهذا كله كان المصريون يمقتون حكم الروم ويخافون حكم العرب، فلم يكونوا يعاونون هؤلاء إلا كارهين، أو يعانون أولئك إلا مكرهين، قوم ذلك شأنهم لا يخطئ من يستنبط أنهم لم يكن لهم أثر فيما أصاب العرب من نصر، وما أصاب الروم من هزيمة في موقعة كريون.
لا ينصرف هذا الرأي بطبيعة الحال إلى فئة قليلة من المصريين انضموا إلى الروم بدافع من مصلحتهم أو من حماستهم للمسيحية وخشيتهم أن يحملهم المسلمون على تغييرها، وهو لا ينصرف كذلك إلى فئة قليلة انضمت إلى المسلمين ودان بعض أفرادها بالإسلام بدافع من مصلحتهم كذلك، أو حقدا منهم على الروم بسبب عسفهم بالمصريين واضطهادهم لهم، فمثل هذه الفئات القليلة توجد في كل أمة وعصر، وإنما ينسحب هذا الرأي على كثرة المصريين في أداني البلاد وأقاصيها؛ فهذه الكثرة التي تصور اتجاه المجموع أصدق تصوير، كانت حانقة على الروم غير راغبة في العرب، وكان أكبر همها ألا يشارك أبناء مصر مشارك في حكمها وفيما تنتجه أذرع بنيها من ثمرات أرضها.
انتصر العرب على الروم بكريون وردوهم على أعقابهم، ولم يقم عمرو بكريون إلا ريثما جم جنده، ثم سار على رأس هذا الجند الباسل حتى بلغ الإسكندرية دون أن يلقى في طريقه ما يصده، فلما اقترب من أسوارها وقف الجند كله أمامها وقد أخذه البهر من كل مكان لمرآها، فأين منها دمشق! وأين منها بيت المقدس، بل أين منها أنطاكية! بل أين منها المدائن وفيها أبيض كسرى! فتح هؤلاء العرب أبناء البادية عيونهم واسعة على منظر رائع تسحر روعته العقول والقلوب، وظلوا وقوفا يجيلون أعينهم يمنة ويسرة فلا تقع إلا على ما يزيدهم سحرا وبهرا، فهم يرون من شرق المدينة العظيمة ومن غربها هذا البحر الأبيض يترامى أمام النظر إلى حدود الأفق، وقد كست السماء الصفو ماءه زرقة جعلت الماء في لون السماء وفي صفائها ورقتها، والماء مع ذلك دائم التقلب مع الموج المتدافع يأخذ بعضه برقاب بعض حتى يتفانى عند الشاطئ على رمال ناعمة ملساء، وترتد هذه الأعين من البحر إلى المدينة العظيمة، فما أسرع ما تنسى البحر وموجه فيما ترى من عجب دونه كل عجب! فهذه ضواحي المدينة أمامهم نثرت فيها الحدائق نثرا، وقامت فيها القصور والأديار خلال غابات من أشجار ضخمة، بعضها مثمر وبعضها لا ثمر له، ومن بعد الضواحي تقوم أسوار وحصون يصغر أمامها كل ما رأوا من أسوار وحصون، ولا يزيد حصن بابليون الذي وقفهم أمامه ما وقفهم على أنه واحد من هذه المجموعة الضخمة القائمة حول العاصمة الفاتنة تحدث عن مناعتها وقوة دفاعها، وتحمي هذه الأسوار والحصون بدائع من العمارة لا تشهد الأعين منها إلا أعاليها وقد زينت بقباب دقيقة النقش وعمد ترتفع فوقها بعض هذه القباب فتزيد الناظر إليها عجبا منها وإعجابا بها، وبين هذه القباب تندلع في الجو مسلات أكثر ارتفاعا مما رأوا في عين شمس، ولم يكونوا قد رأوا له في غير مصر نظيرا، ويقع النظر في أثناء ذلك على كنيسة سان مارك «القديس مرقس» القائمة بين هذه المسلات في حراسة الطلسمات المنقوشة على جوانبها الأربعة، فإذا الكنيسة درة في العمارة، صاغها البناء الصناع فلم يترك لونا من ألوان الجمال إلا أسبغه عليها، وينتقل النظر في الناحية الأخرى من المدينة، فإذا معبد السرابيوم بسقفه المذهب يأخذ وهجه باللب، وإذا عمود «دقلديانوس» الفارع يشرف على القلعة التي تحرس المعبد وما حوله، ويتخطى النظر متجها إلى ناحية البحر، فإذا منارة فاروس تنبعث خلال الجو معلنة للشاهدين أنها من عجائب الدنيا السبع، ويتردد نظر الجند بين هذه العجائب، من عمائر وتماثيل ومسلات وكنائس وحصون وأسوار، فلا يزدادون إلا سحرا وبهرا، ولا عجب، فقد كانت إسكندرية ذلك العهد أجمل مدائن العالم وأبهاها، أفيضن هذا الجيش الباسل ببذل في سبيل اقتحامها وفتحها؟! كلا! لقد عوده الله النصر، فلم تخذله أسوار ولا حصون أيا كانت قوتها ومناعتها.
ورأى عمرو فتنة الجند وحماستهم، فلم يتردد، مع ما اشتهر به من حرص وحذر، فأمرهم أول مقدمهم باقتحام أسوار المدينة وأبراجها، وكان تقديره أن هزيمة الروم بكريون لا بد أن تكون قد أدخلت الروع إلى نفوس المدافعين عن الإسكندرية، وأقنعتهم بأن مصيرهم لن يكون خيرا من مصير أصحابهم الذين ولوا مدبرين إليهم، ولم يخالج المسلمين ريب في أن المدينة البارعة ستفتح أبوابها لقاء هجمتهم، فاندفعوا ينفذون الأمر مهللين مكبرين، فلم يرعهم إلا الحجارة العظيمة تتساقط عليهم مقذوفة من المجانيق المنصوبة فوق أسوار المدينة، ذلك أن الروم أيقنوا حين انسحبوا من كريون أن العرب سيلحقون بهم، وأن نشوة الظفر ستنسيهم الحيطة، وستدفعهم إلى مهاجمة المدينة، ولذا أدخل تيودور الجيش في حصونها وأمر بإخلاء ضواحيها ، وأقام القاذفين بالمجانيق على أسوارها ليرموا الحجارة الضخمة منها في وجه العدو المقبل عليها، وأيقن عمرو حين رأى وابل القذائف أن الروم أعدوا واستعدوا، فعاده حذره، وأمر رجاله بالارتداء إلى ما وراء مرمى المجانيق، وهناك ضرب عسكره وأقام يدبر أمره.
عسكر عمرو شرق المدينة فيما بين الحلوة وقصر فاروس، وسرعان ما أدرك أن مهاجمة المدينة ليست بالأمر الميسور، فقد كان البحر يحميها من شمالها، وكان الروم وحدهم هم المتسلطين عليه، فلم يكن للعرب فيه شراع واحد، وكانت بحيرة مريوط تحميها من الجنوب، وكان اجتيازها عسيرا بل غير مستطاع، وكانت ترعة الثعبان تدور حولها من الغرب، بذلك لم يبق إليها طريق إلا من الشرق، وهو الطريق الجاري بينها وبين كريون، وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية بأسوارها وحصونها، كما كانت حصينة بهما من سائر نواحيها، وكان تموين الإسكندرية من البحر يسيرا، إذ كانت مدن الساحل المصري كلها في يد الروم، فكان في مقدورها أن تبعث السفن محملة بالميرة إلى سكان العاصمة وحماتها، وكان هؤلاء الحماة، ويبلغ عددهم خمسين ألفا، موقنين أنهم إن يهزموا لم يبق للروم في مصر دولة، بل لقد بلغتهم كلمة قيصر: «لئن ظفر العرب بالإسكندرية لقد هلك الروم وانقطع ملكهم، فليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية.» فزادتهم هذه الكلمة حماسة في الدفاع عن المدينة والاستماتة دونها، لا أمل إذن في مهاجمة المدينة ما دام حماتها متحصنين بأسوارها وبروجها ولا رجاء في مناجزة هؤلاء الحماة والظفر بهم إلا أن يخرجوا منها للقاء العرب في ميدان مكشوف! أتراهم يفعلون؟ فإن لم يفعلوا فماذا عسى أن يصنع القائد الداهية؟ أفقدر للإسكندرية وحدها أن تنقذ مصر كلها من يده؟
لم ييأس عمرو مع ذلك من التغلب على عدوه، وكان أول رأيه أن يقف حياله بعيدا عن مرمى مجانيقه، فإذا طال بالروم الحصار شعروا بما في ذلك من مذلة لهم، فغامروا بالخروج فتمكن المسلمون منهم؛ لذلك أقام بعسكره بين الحلوة وقصر فاروس شهرين كاملين، لم يخرج له الروم في أثنائها ولم يحاولوا مناجزته ، ونقل عمرو عسكره بعد ذلك إلى المقس، فخرجت عليه الجند من ناحية البحيرة مستترة بحصن هناك، فواقعوه فقتل من المسلمين بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلا، ثم ارتدت الروم إلى الحصون حين رأوا المسلمين يجتمعون ليلقوهم، ولم يغير ذلك من عزم عمرو المقام بإزاء المدينة، وإن دعاه لمضاعفة الحذر والحيطة، وكذلك بقي الروم محصورين قلما يخرجون، وبقي المسلمون قبالتهم تأتيهم أرزاقهم من البلاد المجاورة لهم، ولم يدر بخاطر عمرو أن يغامر بهم لمهاجمة حصون يعلم علم اليقين أنها لا تنال.
لكنه رأي بعد قليل من حصار المدينة أن بقاءه أمامها، يرصد خروج حاميتها من غير أن يقوم جيشه بعمل حربي يقوي به عزم جنده قمين أن يدفع إلى نفوس الجند السأم، وأن يشعرهم بالعجز عن مناجزة عدوهم؛ وفي ذلك ما يزعزع من ثقتهم بأنفسهم، وطمأنينتهم إلى غدهم، وقد هداه تفكيره إلى ما يحقق غرضين في وقت معا، فيزيل سأم جنده ويضعف من عزم الروم المحتمين بالعاصمة؛ فبعث كتائب تجوس خلال بلاد الدلتا تطارد الروم فيها، ثم أبقى معظم الجند على حصار الإسكندرية.
هل سار عمرو على رأس هذه الكتائب بنفسه أم جعل الإمارة عليها لغيره من أمراء جنده؟ تختلف الروايات في هذا الأمر، وتذهب طائفة منها إلى أن بعض هذه الكتائب كان يجوس خلال صعيد مصر حين كان بعضها الآخر يجوس خلال الدلتا، وأن عمرا بدأ ينفذ الخطة مذ كان محاصرا حصن بابليون وقبل أن يسير إلى الإسكندرية، والقارئ يذكر ما قدمنا من أنه بعث، وهو على حصار بابليون، كتائب استولت على أثريب ومنوف، كما استولت كتائب أخرى على إقليم الفيوم كله، أفظلت هذه الكتائب تتقدم في الدلتا وفي الصعيد حين كان عمرو يسير بمعظم الجيش إلى كريون وإلى الإسكندرية؟ أم جمع عمرو كل قواته حين أزمع السير إلى العاصمة الحصينة، فلم يتخلف منها عن السير معه إلا ما تركه في بابليون وفي البلاد التي تم فتحها لحفظ النظام، وللقضاء على كل سبب للانتقاض يمكن أن يظهر فيها؟
يذهب بتلر معتمدا على رواية حنا النقيوسي، إلى أن عمرا سار بنفسه، بعد ما رأى منعة الإسكندرية، على رأس كتائب فصلت من الإسكندرية إلى كريون فدمنهور ثم اتجه بها إلى الشرق حتى بلغ سخا من إقليم الغربية، فوقف دونه ما يحيط بها من أسوار وما يكتنفها من مياه؛ ولم يقدر عليها، ولذلك تركها وسار جنوبا إلى طوخ الواقعة على نحو ثلاثين ميلا منها فصده أهلها، فسار إلى دمسيس فعجز عن فتحها، ولم يكسب عمرو من مسيرته هذه، وقد استغرقت اثني عشر شهرا، إلا أن أشعر أهل الدلتا بشوكته، وأن أوقع بالبلاد غير المحصنة وغنم منها، ثم عاد إلى بابليون، ويضيف بتلر في موضع آخر من كتابه، مستندا دائما إلى رواية حنا النقيوسي، أن عمرا ذهب على رأس قوات إلى الصعيد، وأنه فتحها أو فتح على الأقل بلاد مصر الوسطى، ثم عاد بعد ذلك إلى بابليون فأقام بها وهناك جاء إليه المقوقس من الإسكندرية وصالحه.
ويروي البلاذري عن يزيد بن أبي حبيب عن الجيشاني أنه قال: «سمعت جماعة ممن شهدوا فتح مصر يخبرون أن عمرو بن العاص لما فتح الفسطاط وجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى عين شمس، فغلب على أرضها وصالح أهل قراها على مثل حكم الفسطاط، ووجه خارجة بن حذافة العدوي إلى الفيوم والأشمونين وإخميم والبشرودات وقرى الصعيد ففعل مثل ذلك، ووجه عمير بن وهب الجمحي إلى تنيس ودمياط وتونة ودميرة وشطا ودقهلة وبنا وبوصير ففعل مثل ذلك، ووجه عقبة بن عامر الجهني - ويقال وردان مولاه صاحب سوق وردان بمصر - إلى سائر قرى أسفل الأرض ففعل مثل ذلك، فاستجمع عمرو بن العاص فتح مصر فصارت أرضها أرض خراج.»
অজানা পৃষ্ঠা