ويقول على لسان بني إسرائيل:
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ، ويذكر في غير موضع صروح مصر وآثارها ويشير إلى تاريخها وعبادات أهلها، وهذه الآيات ومثلها مما ورد في وصف مصر إنما ورد حين قص القرآن حديث إبراهيم ويوسف وموسى والأنبياء، فأثار في نفوس المسلمين صورة مصر الطبيعية، كما أثار في نفوسهم صورة من تاريخها منذ أقدم العهود إلى عهدهم.
أعاد حديث موسى إلى ذاكرتهم صورة من حياة ابن عمران منذ مولده، وبعد أن أمر فرعون بقتل كل مولود ذكر في مملكته استجابة لمن فسروا له أضغاث أحلامه، فقد ألقت أم موسى رضيعها في النيل، فالتقطه آل فرعون وعنوا به، فلما شب موسى نصر رجلا من قومه بني إسرائيل على مصري، فوكز المصري فقضى عليه، فقتل نفسا بغير حق، وفر موسى مخافة المصريين ونزل مدين فتزوج ابنة شيخها وآجره عشرة حجج عاد بعدها من طريق الطور يريد مصر، فناداه ربه من جانب الوادي الأيمن وألقى عليه رسالته، وذهب موسى وأخوه هارون إلى فرعون وملئه يدعوانهم إلى الله، فاستكبر فرعون ونادى في قومه:
أنا ربكم الأعلى ، وقال لوزيره:
يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ، وأظهر موسى معجزاته، فدعا فرعون السحرة، فلما رأوا عصا موسى تلقف ما صنعوا آمنوا به، واتبع بنو إسرائيل موسى، فرأى فرعون في بقائهم إثارة للفساد في الأرض، فأراد القضاء عليهم، وفر موسى وبنو إسرائيل يريدون أرض المعاد، فأتبعهم فرعون وجنوده فأغرقه الله في اليم، فهلك تاركا وراءه جنات وعيونا وزروعا ومقاما كريما ونعمة كان هو وقومه فيها فاكهين.
وذكر العرب بحديث يوسف بما بمصر من نعمة وترف كان لحكامها منهما الحظ الأوفى، فقد ابتاع عزيز مصر يوسف، فأنزلته امرأته منزلة الكرامة عسى أن ينفعهم أو يتخذوه ولدا، فلما ترعرع وبدت فتنة جماله جنت به امرأة العزيز غراما،
وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ، وأصر يوسف على إبائه فسجن، فلم ير النسوة اللاتي قطعن أيديهن ما يدفعهن إلى لوم المرأة المفتونة به على ما فعلت، ولبث في السجن بضع سنين، ثم خرج بعد أن فسر رؤيا الملك: سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، فقال:
تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ، وجعله الملك على خزائن الأرض، فأحسن تدبيرها حتى عاد إليها النماء والخصب كأحسن ما كانت، وحتى عادت جنة ناضرة تنبت أرضها من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ما شاء الله أن تنبت.
في هذا الحديث عن يوسف وعن موسى صورة من طبيعة مصر وثروتها، ومن عبادات أهلها وعقائدهم، ومن عاداتهم وأخلاقهم، ومن تاريخهم وصورة الحكم فيهم في العصور الأولى، وإنما أوجزنا فيما تقدم بعض ما ذكره القرآن عن مصر، وطبيعي أن يتتبع المسلمون الأولون كل ما جاء فيه عنها، وأن يثير تتبعه في نفوسهم كل ما يذكرونه من أمرها، وكان اليهود والنصارى يجادلونهم في أمر موسى وعيسى والأنبياء وما ورد في القرآن عنهم، فيزيدهم الجدال علما، ويزيد علمهم بمصر فسحة وعمقا.
ولم تكن معرفة المسلمين مصر مقصورة على ما كان من أمرها في العصور الأولى، بل كانوا يعرفون من أمرها في زمانهم أكثر مما يعرفونه من تاريخها، ذلك أن العرب كانوا يتابعون ما يجري بين فارس والروم بعناية بالغة، حتى لقد انقسموا في ذلك أحزابا يتشيع فريق منهم لفارس وفريق للروم، فلما كان العقد الثاني من القرن السابع وانتصر الفرس على الروم وفتحوا مصر والشام، كان رسول الله
অজানা পৃষ্ঠা