122

وعاد عمر بالناس إلى المدينة، وعاد أمراء الأجناد ومن معهم إلى أعمالهم، وجعل عمر يفكر في أمر المسلمين بالشام وفيما دهاهم من فتك الطاعون، فأخذته الشفقة بأبي عبيدة أن يصاب به وأن يتوفى منه وكان عمر يرجو أن يطول بأبي عبيدة العمر ليخلفه على إمارة المؤمنين، أليس أبو بكر قد دعا الناس لمبايعة أحد الرجلين: أبي عبيدة أو عمر، فبايع الناس أبا بكر، ثم بايعوا عمرا؛ فجدير به أن يستخلف أبا عبيدة وأن يدعو الناس لمبايعته؛ فإذا توفي في الطاعون فمن ذا ترى عمر يستخلف؟ هذا إلى أن عمر كان يحب أبا عبيدة أصدق الحب، ويضعه في أسمى مكان من نفسه، ولذا فكر في إبعاده عن الشام لاستخراجه من الوباء، لكنه كان يعرف ما انطوت عليه نفس صاحبه من صدق الإيمان بالله وبفكرة الواجب، وأنه لن يدع رجاله بالشام فرارا بنفسه من قدر الله، فكتب إليه فلم يشر إلى شيء مما دار بنفسه، بل قال له: «أما بعد، فإني قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها فعزمت عليك، إذ نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي.» وقرأ أبو عبيدة الكتاب فأدرك مراد عمر، وأنه إنما حرص على أن يستخرجه من الوباء، فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين! ثم كتب إليه: «إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين ودعني في جندي.» وقرأ عمر هذا الكتاب فبكى، فسأله من حوله: أمات أبو عبيدة؟ فأجاب ولا يزال الدمع آخذا بخناقه: «لا! وكأن قد.»

وددت لو أني وقفت عند كلمة عمر حين اعترض أبو عبيدة عوده إلى المدينة بقوله: أفرارا من قدر الله، وأود لو أقف الآن عند هذين الكتابين اللذين تبادلهما عمر وأبو عبيدة، ففي كلمة عمر وفي الكتابين ما يجلو لنا صفحة من حياة ذلك العصر فيها عناصر قوته وأسباب انفساح الإمبراطورية الإسلامية فيه، لكني أوثر أن أقص ما حدث إلى أن رفع الله البلاء وإلى أن عادت الحياة في الشام سيرتها الطبيعية، فذلك يزيد هذه الصفحة جلاء، ويكشف عن تفكير المسلمين الأولين من أصحاب رسول الله وعن حريتهم في هذا التفكير وعدم تقيدهم إلا بالحق يملك عليهم بصائرهم ويهديهم الله إليه على علم.

قرأ عمر كتاب أبي عبيدة فبكى، وأخذ يفكر في الوسيلة لإنقاذ أهل الشام مما نزل بهم، وشاور أهل الرأي، ثم كتب إلى أبي عبيدة يقول: «إنك أنزلت الناس أرضا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.» وإن أبا عبيدة ليفكر في تنفيذ هذا الأمر إذ طعن فمات، فخلفه معاذ بن جبل، فطعن هو وماتا جميعا، واستخلف معاذ عمرو بن العاص فخطب الناس فقال: إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار فتحصنوا منه في الجبال، ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا في المرتفعات، فأذهب ذلك شدة الوباء وانتهى بزواله، وبلغت عمر مقاله ابن العاص فلم يكرهها، بل رأى فيها تنفيذا للأمر الذي بعث به إلى أبي عبيدة.

ما علة هذا الوباء؟ وإلى أي سبب يرجع؟ ليس فيما لدينا من الروايات ما يجلو لنا هذه العلة، ويكشف لنا عن سبب نطمئن إليه ونقتنع به، وإن بعض المتأخرين ليذهبون إلى أن طاعون عمواس نجم عن كثرة القتلى في الميادين كثرة تعذر معها دفن أكثرهم، فأثار ذلك في الجو من الميكروبات ما كان سبب الوباء، أما المتقدمون من المؤرخين فيردون سببه إلى غضب من الله استنزله أبو عبيدة على أهل الشام لشرب جماعة من المسلمين فيه الخمر، فقد كتب إلى عمر: «إن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، فسألناهم فتأولوا وقالوا: خيرنا فاخترنا، قال:

فهل أنتم منتهون ، ولم يعزم علينا.» ولم يكن القرآن قد نص على حد للخمر، ولم يحد رسول الله ولا حد أبو بكر شاربا لها، لذلك جمع عمر أصحاب الرأي بالمدينة، وقص عليهم ما جاء في كتاب أبي عبيدة، فرأوا أن عبارة القرآن:

فهل أنتم منتهون ، تعني الأمر؛ أي فانتهوا، وأجمعوا على أن يضرب الذين شربوها ثمانين جلدة وأن يفسقوا،

3

وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعهم، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين، ودعاهم أبو عبيدة وسألهم على رءوس الناس، فقالوا: إن الخمر حرام، فجلدهم ثمانين وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حادث، فكان الطاعون.

وأحسب الأكثرين اليوم يؤثرون رأي المتأخرين أو ما يماثله، ولا يرون دعاء أبي عبيدة على أهل الشام سبب الوباء، وقد سقت الكلمة التي نسبت إلى أبي عبيدة وإنني لفي ريب من صدورها عنه، فما كان له أن يرجو هذا البلاء الماحق لأهل الشام جميعا لغير شيء إلا أن بعضهم شرب الخمر، فما أكثر ما يرتكب الناس من آثام أعظم من أم الكبائر ثم لا يرسل الله عليهم البلاء حاصدا يصيب المذنب والبريء! وأبو عبيدة رجل رقيق الطبع شديد الإيمان، أبر بمن يسوسهم من أن تصدر عنه هذه الكلمة، ما بالك وفيمن يسوسهم من الجند من رأيت من وفائه لهم ما يشهد به كتابه لعمر حين دعاه إلى المدينة ليستخرجه من الطاعون! على أن ريبنا في صدور هذه الكلمة من أبي عبيدة لا ينفي أن قوما شربوا الخمر، فلما سألهم تأولوا قوله تعالى:

فهل أنتم منتهون ، وأنه رفع أمرهم إلى عمر ثم أوقع عليهم الحد تنفيذا لأمر الخليفة، فتواتر الرواية بهذا الحادث وتنفيذ الحد في عهد عمر ومن بعده يقطع بصحتها، وهي تتفق وما حدث في حياة النبي حين دعا عمر الله أن يبين لهم في الخمر، وأن يبين لهم فيها بيانا شافيا؛ لأنها تذهب العقل والمال، لا عجب وذلك شأنه أن يقسو على شاربيها وأن يضع لها الحد وأن يقيمه في خلافته، فيقام من بعده على أنه من حدود الله.

অজানা পৃষ্ঠা