كتاب
الفرق بين النصيحة والتعيير تصنيف
الإمام الحافظ زين الدين ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة (٧٩٥هـ)
অজানা পৃষ্ঠা
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة]
قال الإمام ﵀:
الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على إمام المتقين، وخاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فهذه كلمات مختصرة جامعة في الفرق بين النصيحة والتعيير - فإنهما يشتركان في أن كلًّا منهما: ذِكْرُ الإنسان بما يكره ذِكْرَه، وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس والله الموفق للصواب.
اعلم أن ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ والعيب والنقص.
فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين خاصة لبعضهم وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه.
وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه.
1 / 7
ولا فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّلَ شيئًا منها على غير تأويله وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا.
ولهذا نجد في كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية من التفسير وشروح الحديث والفقه واختلاف العلماء وغير ذلك ممتلئة بالمناظرات وردِّ أقوال من تُضَعَّفُ أقواله من أئمة السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم ولا ادعى فيه طعنًا على من ردَّ عليه قولَه ولا ذمًَّا ولا نقصًا اللهم إلا أن يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام ويُسيءُ الأدب في العبارة فيُنكَر عليه فحاشته وإساءته دون أصل ردِّه ومخالفته، إقامةً للحجج الشرعية والأدلة المعتبرة. وسبب ذلك أن علماء الدين كلُّهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله ﷺ ولأنْ يكون الدين كله لله وأن تكون كلمته هي العليا، وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيرًا ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم.
1 / 8
كما قال عمر ﵁ في مهور النساء وردَّت المرأة بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: ٢٠] (النساء: ٢٠)، فرجع عن قوله وقال: (أصابتِ امرأةٌ ورجلٌ أخطأ) وروي عنه أنه قال:
(كل أحد أفقه من عمر) .
وكان بعض المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول: (هذا رأينا فمن جاءنا برأي أحسنَ منه قبلناه) .
وكان الشافعي يبالغ في هذا المعنى ويوصي أصحابه باتباع الحق وقبول السنة إذا ظهرت لهم على خلاف قولهم وأن يضرب بقوله حينئذٍ الحائط، وكان يقول في كتبه: (لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب والسنة لأن الله تعالى يقول: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] (النساء: ٨٢) وأبلغ من هذا أنه قال: (ما ناظرني أحد فباليت أظهرت الحجة على لسانه أو على لساني) .
وهذا يدل على أنه لم يكن له قصد إلا في ظهور الحق ولو كان على لسان غيره ممن يناظره أو يخالفه.
ومن كانت هذه حاله فإنه لا يكره أن يُردَّ عليه قولُه ويتبين له مخالفته للسنة
1 / 9
لا في حياته ولا في مماته. وهذا هو الظن بغيره من أئمة الإسلام، الذابين عنه القائمين بنَصْرِه من السلف والخلف ولم يكونوا يكرهون مخالفة من خالفهم أيضًا بدليل عَرَضَ له ولو لم يكن ذلك الدليل قويًا عندهم بحيث يتمسكون به ويتركون دليلهم له.
ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يذكر إسحاق بن راهويه ويمدحه ويثني عليه ويقول: (وإن كان يخالف في أشياء فإن الناس لم يزل بعضهم يخالف بعضا) أو كما قال.
وكان كثيرًا يُعرضُ عليه كلام إسحاق وغيره من الأئمة، ومأخذهم في أقوالهم فلا يوافقهم في قولهم ولا يُنكِر عليهم أقوالهم ولا استدلالهم وإن لم يكن هو موافقًا على ذلك كله وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح وما ناظرك أحد إلا قطعته فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن إذا أخطأ وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه أو معنى هذا فقال أحمد: (ما أعقله من رجل) .
فحينئذٍ رد المقالات الضعيفة وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه.
فلا يكون داخلًا في الغيبة بالكلية فلو فرض أن أحدًا يكره إظهار خطئه المخالف للحق فلا عبرة بكراهته لذلك فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفًا
1 / 10
لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له سواءٌ كان ذلك في موافقته أو مخالفته.
وهذا من النصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمة المسلمين وعامتهم وذلك هو الدين كما أخبر به النبي ﷺ.
وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدب في الخطاب وأحسن في الرد والجواب فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه وإن صدر منه الاغترار بمقالته فلا حرج عليه وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله يقول: (كذب فلان) ومن هذا «قول النبي ﷺ: " كذب أبو السنابل " لما بلغه أنه أفتى أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا لا تحل بوضع الحمل حتى يمضى عليها أربعة أشهر وعشر» .
وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها ويبالغ في ردها عليهم هذا كله حكم الظاهر.
1 / 11
وأما في باطن الأمر: فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق ولئلا يغتر الناس بقالات من أخطأ في مقالاته فلا ريب أنه مثاب على قصده ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.
وسواء كان الذي بين الخطأ صغيرًا أو كبيرًا فله أسوة بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي يشذ بها وأُنكرت عليه من العماء مثل المتعة والصرف والعمرتين وغير ذلك.
ومن ردَّ على سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المطلقة ثلاثًا بمجرد العقد وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة، وعلى الحسن في قوله في ترك الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وعلى عطاء في إباحته إعادة الفروج، وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العلماء، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم.
ولم يعد أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعنًا في هؤلاء الأئمة ولا عيبًا لهم، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين هذه المقالات وما أشبهها مثل كتب الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات ما كان بمثابتها شيء كثير ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جدًا.
1 / 12
وأما إذا كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه وتنقصَه وتبيينَ جهله وقصوره في العلم ونحو ذلك كان محرمًا سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه أو في غيبته وسواء كان في حياته أو بعد موته وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز وداخل أيضًا في قول النبي ﷺ: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته» . وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم. وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم.
1 / 13
[فصل في أنواع النصيحة]
ومن عُرف منه أنه أراد بردِّه على العلماء النصيحة لله ورسوله فإنه يجب أن يُعامَل بالإكرام والاحترام والتعظيم كسائر أئمة المسلمين الذين سبق ذكرهم وأمثالهم ومن تبعهم بإحسان.
ومن عرف منه أنه أراد برده عليهم التنقص والذم وإظهار العيب فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة.
ويُعرف هذا القصد تارة بإقرار الرادِّ واعترافه، وتارة بقرائن تحيط بفعله وقوله، فمن عُرف منه العلم والدين وتوقير أئمة المسلمين واحترامهم لم يَذكر الردَّ وتبيين الخطأ إلا على الوجه الذي يراه غيره من أئمة العلماء.
وأما في التصانيف وفي البحث وجب حمل كلامه على الأول ومن حمل كلامه [على غير ذلك]- والحال على ما ذُكر - فهو ممن يَظن بالبريء الظن السوء وذلك من الظن الذي حرمه الله ورسوله وهو داخل في قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١١٢] (النساء: ١١٢)، فإن الظن السوء ممن لا تظهر منه أمارات السوء مما حرمه الله ورسوله فقد جمع هذا الظانّ بين اكتساب الخطيئة والإثم ورمي البريء بها.
1 / 14
ويقوي دخوله في هذا الوعيد إذا ظهرت منه - أعني هذا الظان - أمارات السوء مثل: كثرة البغي والعدوان وقلة الورع وإطلاق اللسان وكثرة الغيبة والبهتان والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله والامتنان وشدة الحرص على المزاحمة على الرئاسات قبل الأوان.
فمن عُرفت منه هذه الصفات التي لا يرضى بها أهل العلم والإيمان فإنه إنما يحمل تَزْمنة العلماء [وإذا كان] ردُّه عليهم على الوجه الثاني فيستحق حينئذٍ مقابلته بالهوان ومن لم تظهر منه أمارات بالكلية تدل على شيء فإنه يجب أن يحمل كلامه على أحسن مُحْمَلاتِهِ ولا يجوز حمله على أسوأ حالاته. وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: (لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا) .
1 / 15
[فصل في كيفية النصيحة]
ومن هذا الباب أن يقال للرجل في وجهه ما يكرهه فإن كان هذا على وجه النصح فهو حسن وقد قال بعض السلف لبعض إخوانه: (لا تنصحني حتى تقول في وجهي ما أكره) .
فإذا أخبر أحد أخاه بعيب ليجتنبه كان ذلك حسنًا لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن يعتذر منها إن كان له منها عذر وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب فهو قبح مذموم.
وقيل لبعض السلف: أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: (إن كان يريد أن يوبخني فلا) .
فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم وقد نهى النبي ﷺ أن تُثَرَّبَ الأمة الزانية مع أمره بجلدها فتجلد حدًا ولا تعير بالذنب ولا توبخ به.
وفي الترمذي وغيره مرفوعًا: «من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» .
1 / 16
وحُمل ذلك على الذنب الذي تاب منه صاحبه. قال الفضيل: (المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيِّر) .
فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير، وهو أن النصح يقترن به الستر والتعيير يقترن به الإعلان.
وكان يقال: (من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره) أو بهذا المعنى.
وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ويحبون أن يكون سرًا فيما بين الآمر والمأمور فإن هذا من علامات النصح فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها. وأما إشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله ورسوله قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: ١٩] (النور: ١٩) والأحاديث في فضل السر كثيرةٌ جدًَّا.
وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف: (واجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام أحقُّ شيء بالستر: العورة) .
فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير وهما من خصال الفجار لأن
1 / 17
الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن وهتك عرضه فهو يعيد ذلك ويبديه ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس ليُدخل عليه الضرر في الدنيا.
وأما الناصح فغرضُه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن واجتنابه له وبذلك وصف الله تعالى رسوله ﷺ فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] (التوبة: ١٢٨) ووصف بذلك أصحابه فقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ٢٩] (الفتح: ٢٩) .
ووصف المؤمنين بالصبر والتواصي بالمرحمة.
وأما الحامل للفاجر على إشاعة السوء وهتكه فهو القوة والغلظة ومحبته إيذاء أخيه المؤمن وإدخال الضرر عليه وهذه صفة الشيطان الذي يزيِّن لبني آدم الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران كما قال الله: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: ٦] (فاطر: ٦) .
وقال بعد أن قص علينا قصته مع نبي الله آدم ﵇ ومكرَه به حتى توصل إلى إخراجه من الجنة: ﴿يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ [الأعراف: ٢٧] (الأعراف: من الآية ٢٧) .
1 / 18
فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة.
1 / 19
[فصل في العقوبة]
من أشاع السوء على أخيه المؤمن وتتبع عيوبه وكَشَفَ عورته أن يتبع الله عورته ويفضحه ولو في جوف بيته كما رُوي ذلك عن النبي ﷺ من غير وجه وقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من وجوه متعددة.
وأخرج الترمذي من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي ﷺ قال: «لا تُظْهِر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك» . وقال: حسن غريب.
وخرَّج أيضًا من حديث معاذ مرفوعًا: «من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» وإسناده منقطع.
وقال الحسن: " كان يقال: من عيَّر أخاه بذنب تاب منه لم يمت حتى يبتليه الله به "
1 / 20
ويُروى من حديث ابن مسعود بإسناد فيه ضعف: «البلاء موكل بالمنطق فلو أن رجلًا عيَّر رجلًا برضاع كلبة لرضعها» .
وقد رُوي هذا المعنى عن جماعة من السلف.
ولما ركب ابن سيرين الدَّيْن وحبس به قال: (إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا عيَّرت رجلًا منذ أربعين سنة فقلت له: يا مفلس) .
1 / 21
[فصل في التعيير]
ومِن أظهرِ التعيير: إظهارُ السوء وإشاعتُه في قالب النصح وزعمُ أنه إنما يحمله على ذلك العيوب إما عامًا أو خاصًا وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه في مواضع فإن الله تعالى ذم من أظهر فعلًا أو قولًا حسنًا وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصده في الباطن وعدَّ ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: ١٠٧] (التوبة: ١٠٧) .
وقال تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ١٨٨] (آل عمران: ١٨٨)، وهذه الآية نزلت في اليهود لما سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك عليه وفرحوا بما أتوا من كتمانه وما سألهم عنه. كذلك قال ابن عباس ﵄ وحديثه بذلك مخرّج في الصحيحين وغيرهما.
1 / 22
وعن أبي سعيد الخدري: أن رجالًا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله ﷺ إلى الغزو تخلَّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ﷺ فإذا قدِم رسول الله اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية.
فهذه الخصال خصال اليهود والمنافقين وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولًا أو فعلًا وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن ومقصوده بذلك التوصل إلى غرض فاسد فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه ويفرح هو بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن وفي الباطن شيء وعلى توصله في الباطن إلى غرضه السيء فتتم له الفائدة وتُنَفَّذُ له الحيلة بهذا الخداع.
ومن كانت هذه همته فهو داخل في هذه الآية ولا بد فهو متوعد بالعذاب الأليم.
ومثال ذلك: أن يريد الإنسان ذمَّ رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه إما محبة لإيذائه [أو] لعداوته أو مخافة من مزاحمته على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني مثل: أن يكون قد ردَّ قولًا ضعيفًا من أقوال عالم مشهور فيشيع بين من يعظِّم ذلك العالم أن فلانًا يُبغِضُ هذا العالم ويذمُّه ويطعن عليه فيغرُّ بذلك كل
1 / 23
من يعظِّمه ويوهمهم أن بغض الراد وأذاه من أعمال العرب لأنه ذبٌّ عن ذلك العالم ورفع الأذى عنه وذلك قُربة إلى تعالى وطاعته. فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرَّمين: أحدهما: أن يحمل ردُّ العالم القول الآخر على البغض والطعن والهوى وقد يكون إنما أراد به النصح للمؤمنين وإظهار ما لا له كتمانه من العلم.
والثاني: أن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع وبمثل هذه المكيدة كان ظلم بني مروان وأتباعهم يستميلون الناس إليهم وينفِّرون قلوبهم عن علي بن أبي طالب والحسن والحسين وذريتهم ﵃ أجمعين.
وأنه لما قُتِل عثمان ﵁ لم ترَ الأمة أحق من علي ﵁ فبايعوه فتوصل من توصل إلى التنفير عنه بأن أظهر تعظيم قتل عثمان وقُبحه وهو في نفس الأمر كذلك ضُمَّ إلى ذلك أن المؤلَّب على قتله والساعي فيه علي ﵁ وهذا كان كذبًا وبهتًا. وكان علي ﵁ يحلف ويغلِّظ الحلف على نفي ذلك وهو الصادق البارُّ في يمينه ﵁ وبادروا إلى قتاله ديانةً وتقرُّبًا ثم إلى قتال أولاده رضوان الله عليهم واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته على المنابر في أيام الجُمَع وغيرها من المجامع العظيمة حتى استقر في قلوب أتباعهم أن الأمر على ما قالوه وأن بني مروان أحق بالأمر من علي وولده لقربهم من عثمان وأخذهم بثأره فتوصلوا بذلك إلى تأليف قلوب الناس عليهم وقتالهم لعلي وولده من بعده ويثبُت بذلك لهم الملك واستوثق لهم الأمر.
1 / 24
وكان بعضهم يقول في الخلوة لمن يثق إليه كلامًا ما معناه: (لم يكن أحد من الصحابة أكفأ عن عثمان من علي) فيقال له: لِمَ يسبُّونه إذًا؟ فيقول: (إن المُلك لا يقوم إلا بذلك) .
ومراده أنه لولا تنفير قلوب الناس على علي وولده ونسبتُهم إلى ظلم عثمان لما مالت قلوب الناس إليهم لما علموه من صفاتهم الجميلة وخصائصهم الجليلة فكانوا يسرعون إلى متابعتهم ومبايعتهم فيزول بذلك ملك أمية وينصرف الناس عن طاعتهم.
1 / 25