1 - الأونباشي فارس آغا
2 - داهية غير منتظرة
3 - مار قبريانوس ومار شليطا
4 - ملك العسل والدعاوى
5 - الشيطان لا يخرب وكره
6 - بين الطبيب والكاهن
7 - وأخيرا التقى البطلان
8 - أجمل الشهور
9 - خوري مسرح
10 - حفلة استقبال
11 - الأموال الأميرية
12 - توزيع الميرة
13 - تحصيل الميرة
14 - خوري الضيعة
15 - النهاية السوداء
1 - الأونباشي فارس آغا
2 - داهية غير منتظرة
3 - مار قبريانوس ومار شليطا
4 - ملك العسل والدعاوى
5 - الشيطان لا يخرب وكره
6 - بين الطبيب والكاهن
7 - وأخيرا التقى البطلان
8 - أجمل الشهور
9 - خوري مسرح
10 - حفلة استقبال
11 - الأموال الأميرية
12 - توزيع الميرة
13 - تحصيل الميرة
14 - خوري الضيعة
15 - النهاية السوداء
فارس آغا
فارس آغا
تأليف
مارون عبود
الفصل الأول
الأونباشي فارس آغا
كان «العسكري» في لبنان البروتوكول
1
مفزعة،
2
وكان لبنان حصن من تصيبهم القرعة العسكرية في «الولاية» أو تحدثهم النفس بإلقاء نيرها؛ لذلك قال جيراننا سكان الولاية العثمانية: هنيئا لمن له مرقد عنزة في جبل لبنان.
وكان للبنان جنود يعرفون «بالضابطية» أخذوا من الأهالي بمعدل سبعة أنفار من كل ألف متكلف، مهنتهم صون الأمن وإمضاء أوامر الحكومة. وإذا قصر هؤلاء النفر عن ذلك في الخطوب الكبيرة مثلا؛ فلمتصرف الجبل - المنتخب من الدول السبع - أن يستدعي عسكر «الدراغون» بعد استئذان مجلس الإدارة المؤلف من اثني عشر عضوا، ينتخبهم الشعب اللبناني.
كان محظورا على العسكري التركي أن يطأ أرض الجبل، أو يمر به، ما لم يأذن له بذلك هذا المجلس. ورب جندي لبناني - ضابطي - تصدى لطابور من العسكر الشاهاني؛
3
فلم تطأ رجله حدود الجبل. وكان الجاني البيروتي يقعد - على عينك يا تاجر - على ضفة نهر بيروت الشمالية فلا يستطيع عسكري الولاية القبض عليه. وأغرب من هذا عجز «ضابطي» قضاء كسروان من القبض على مجرم في قضاء البترون؛ فكأن كل قضاء من أقضية لبنان السبعة مستقل استقلالا ناجزا عن الآخر.
وكم مثلت هذه المهزلة عندنا - في عين كفاع
4 - إذ يقطع مجرم نهرنا، ويجلس على «شير بنور»
5
يدخن ناعم البال، قبالة ضابطي قضاء كسروان، ولسان حاله يقول له: «زرك عينك، طق وموت.» فيعود هذا أدراجه ليعرض الأمر لقائده، يوزباشي
6
جبيل، فيطلبه من قائد البترون. حتى إذا جد عسكري البترون في طلبه تخطى النهر صوبنا، وهيهات أن تحاصره القوتان، وحوله مغاور يضيع في جوفها الدهر.
هذه صفحة من «تاريخنا العسكري» تكاد تنسى. أحاول اليوم بعثها مع بعض الشئون الأخرى الميتة؛ لعل القارئ يجد فيها شيئا. •••
اخترت لقصتي هذه «بطلا» مات منذ سنين، وفي نيتي أن أنوب عن صاحبي هذا - الأونباشي
7
فارس آغا - في كتابة مذكراته، دون أن أتبع خطة المذكرات وأسلوبها. سأكون أمينا جدا، أرويها كما سمعتها وعاينتها. ففارس آغا أول عسكري عرفته، عرفته في بيتنا، وقريتنا، واسكلتنا
8 - جبيل - وعاصمة لبنان البروتوكول؛ بعبدا.
سأروي لك أحاديثه بأسلوب الضيعة اللبنانية وتعبيرها اللذين لا يقصران عن كلام فصحاء العرب إذا داورناهما. ولك أن تستعدي علي جميع المعاجم من تاج العروس إلى أقرب الموارد، فكل كلمة يقضي لك بها علي أؤدي لك عنها الضريبة التي يفرضها وجدانك الحي، وإن لم أكن من أصحاب أرباح الحرب.
سأصور لك شخصية كانت تحس أن في أعماقها عبقرية مطمورة، لم يتح لجذورها أن تتأصل، ولا لفروعها أن تمتد وترف، فمات الآغا غير شبعان من مجد كانت تتحلب
9
شفتاه عند ذكراه، ويسيل رياله كلما حدث الناس عنه.
مسكين صاحبنا فارس، مات آغا، صار أفندي شهرين زمان، ثم جرد من رتبته، وعاد آغا، بينما أناس غيره، لا يفكون الحرف ولا يعرفون الكوع من البوع،
10
صاروا بكوات، تزين أكتافهم الرمانات الذهبية، حياة! الدنيا حظ، كله قسمة ونصيب. هذا ما كان يقف عليه الآغا دائما في حديثه مع الناس. •••
كان فارس آغا ككل ضابط لبناني، يلبس بزة من الجوخ الرصاصي السميك. جاء الآغا بعد الزمن الذي كان يعرف به العسكري من نحاسة بيضاوية يحزم بها زنده، وقد كتب عليها: نفر ضابطية. أما تفاصيل البزة فهي: كبران
11
مزركش بشريط أحمر عرض الأصبع، رسمت عليه فوق الثديين زهرة كأنها ثلاث عرى مشتبكة تقوم على ساق يتلوى على الصدر. وتحت الكبران صديرية من جنسه فيها خط استواء عمودي من الشريط عينه. أما السروال فكثيرة طياته، لا هو بنطلون فرنجي ولا سروال إسكندراني، ولو لم يكن رحراحا وسيعا كسراويل زوجة بطل المقامة المضيرية، لقلت لك هو «الغولف»، فكأنهم استشاروا «ستي» حينما اختاروه، فهو أشبه بالسراويل التي يعف المتنبي عما فيها ... زناره من الشال الأحمر، والطربوش عزيزي، تتدلى من قمته شرابة سوداء تنماز من شرابات اليوم أنها تتعلق بخيط طويل، وهي قصيرة ضخمة، خيوطها غليظة.
كان سلاح العسكري اللبناني بندقية - مرتينة - تصلح جسرا في عهد الباطون المسلح، وسيفا - سنكة - يمسكه الصدأ، فيقبع في قرابه كأنه محكوم عليه بالسجن المؤبد.
أونباشينا يقرأ ويكتب، وليس أميا كأكثر الضابطية وبعض ضباط ذلك العهد؛ ولذلك كان دائما يشك في زناره دواة نحاسية من صنع بيت نفاع. في باقول
12
تلك الدواة الصفراء ليقة
13
تمنع الحبر من الانهراق، وقصبتها تسع عدة أقلام من الغزار، فهي «ستيلو» ذلك العهد، وكان حاملها أزهى من غراب. أما المرملة السعيدة الذكر - سلف الورق النشاف - فكان موضعها في خرج الآغا مع القرطاسية، التي تزوده بها الحكومة لتدوين دفاتر الوقائع التي كانت تعرف بالجرنال المحلي. •••
ممدوحي الآغا: رجل مدور سمين، عرفته حين خيط الشيب في رأسه، أما نفسه فكانت خضراء جدا. يكوكي
14
إذا مشى، مع أنه يحمل كرشا كبرميل متوسط الحجم. خوخي اللون، ولا أظلمه إن قلت لك: أسود مثل الزيز.
15
شفتاه غليظتان تتدفق الشهوة منهما تدفقا، وأنفه كصخر حطه السيل فتعلق هناك، شارباه كأنهما جناحا شحرور، وعيناه واسعتان، في بياضهما جذور حمراء نافرة، تخيفان الناظر إذا حدق إليه بهما. في جبهته شجة
16
يفتخر بها كأسمى وسام. إذا لفتت نظرك، وحدقت إليها بدون قصد؛ فالآغا يقول لك: سأريح بالك. هذا جرح أصبت به في معركة كذا - في كل محلة يذكر اسما؛ لأن ذاكرته لا تسعفه - حين كلفني سعادة الميرالاي ملحم بك بوشقرا مطاردة الأشقياء العاصين على حكومة أفندينا نعوم باشا فطوعتهم. قتلت منهم اثنين، وسقت البقية مثل المعزى إلى بتدين.
17
قتل من رجالي واحد. أخ! يا حسرتي على شبابه! أش شاب! مثل الرمح الرديني.
18
في ذقن الآغا نقرة كأنها صرة حبيبة سليمان، ولكنها مسيجة بالشوك لا السوسن. كثيرا ما يولج فيه أصبعه ليعزل ما فيها، ولكنه قلما يظفر بذلك، وفي ساعة رضا طلب منا متماجنا «قشق النارجيلة» لينظفها به.
وفي وجه الآغا نكتتان
19
كادتا تختفيان بين تجاعيد وجهه حين عرفته. كان يزعم حين شاخ أنهما طعنة سكين، حين اشتبك بالسلاح الأبيض مع العسكر التركي على الحدود.
إذا دخل الأونباشي قرية يمشي مترصنا كالجواد المقيد، ويتغربل كالديك الحبشي. يسأل الأرض أن تحس بفضله إذا مشى عليها؛ فالرجل يعتقد اعتقادا مكينا أنه عنترة زمانه، ولولاه ضاعت الأموال والأرواح. أما كيف عرفته فإليك الخبر: كنت في صغري ولدا ورشا، للشيطنة عندي مقام جليل جدا. وكانت المرحومة أمي تعجز عن إيقافي عند حد من الرصانة التي تتمناها لغزالها ... فأخذت تخوفني بالعسكري، ككل أم لبنانية بروتوكولية. إذا تجاوزت الحد في لعبي قالت: اهدأ يا مارون، أقول للعسكري يأخذك. وإن طلبت مني حاجة لم أقضها خوفتني بالعسكري، وإن اعتديت على أحد رفاقي أدبتني بقضيب دقيق، وقالت: الحبس قدامك، غدا يجيء العسكري.
كانت - رحمة الله عليها - تصور لي العسكري وحشا ضاريا يفعل بالناس الأفاعيل. هاجر رجل كنت أحبه وأستأنس بحديثه؛ لأنه كان ظريفا ضحوكا يداعب الصغار ويلاعبهم ويضحكهم، فسألت أمي عنه، فقالت بصوت منكسر: مسكين عمك جرجس، أخذه العسكري. اليوم هو بالحبس.
قلت: أيش عمل حتى حبسوه؟
قالت: أخذه العسكري - وأخرجت كلمة عسكري إخراجا فخما - لأنه ضرب قرياقوس في «كسارة العين».
20 - ولماذا ضربه؟ - اختلفوا على «الحد» على شبر أرض.
فوجمت ثم قلت: أية ساعة يرجع؟
فتضاحكت وقالت: قل أية سنة! يعلم الله. إياك ثم إياك أن تضرب أحدا!
كنت ككل صغير أحسب أن لا أحد يقدر على العم جرجس إلا والدي، فقلت لأمي: كيف غلب العسكري عمي جرجس؟
فضحكت ضحكة رزينة، وهزت رأسها هزات معناها: أنت صغير يا ابني، ليتك تعرف العسكري.
وخطر لي ذات يوم أن أقيم ورفاقي عرسا، فاجتمعنا جميعا. بدأنا بالحداء
21
والزجل.
22
صبيان «ترود»
23
وبنات تزغرد؛ فارتجت الضيعة، وحاول الشيوخ قمعنا فما قدروا، وفزعونا بالعسكري فلم نرتدع، بل تمادينا في صياحنا، وأخذنا نقيم كل يوم عرسا.
وأخيرا جاء العسكري حقا، فانفض الموكب، وعقب الغناء صراخ مزعج. أما أنا فكنت كمن أبصر في نومه أن ذئبا يعدو وراءه، انبطحت على الأرض، ونزل فارس آغا عن دابته، وعدا نحوي ليقيلني من عثرتي، فاشتد صراخي. وما امتدت يداه إلي حتى أخذت أفحص بيدي ورجلي كالأرنب، ولكنه لم يفلتني، وحملني إلى البيت مدمى. وأفقت بعد حين فرأيتني في الأرجوحة، ورأيت الآغا ووالدي جالسين إلى الطبلية
24
يتحدثان ويشربان ويأكلان، فتناومت. سمعت الآغا يقول: أمس كنا في قرية غرفين، فأخذنا جمهورا إلى الحبس، منهم مرأة كانت أصل الشر، فهدأت الضيعة.
فقال الوالد: الحكم ملح الأرض.
فتقنفش
25
الآغا، وقال: وأي ملح!
فقالت الوالدة في سرها: ملح جلدك.
وأتم الآغا حديثه فقال: الشدة لازمة يا خواجه حنا، وإلا أكلت الناس بعضها.
وكان في يد أمي غصن ازدرخت تكش به الذبان عن جرحي الطري. كانت منكسرة القلب، لا تتكلم رغم مطايبة الآغا لها، ومخاطبتها بيا ست أم مارون ... هذا التبجيل غير معروف في القرية، فأم مارون كفاية وزيادة.
ظننت أن العسكري ينتظر ليأخذني فتناومت. هزتني أمي فتماوت، فقالت لوالدي: حناه، ما قولتك، الصبي غائب عن الوعي؟
فهمهم والدي، وقال الآغا: لا تخافي يا ست أم مارون، الولد محروس. أمس، من جمعة تقريبا فزع منا ولد في شامات
26
فسقط عن السطح وكسر رأسه، وبعد كم يوم صح ورجع يفز في الضيعة مثل القرد.
فشهقت أمي وصاحت: بعيد الشر! ثم همست إلي بهذه الكلمة: تنكسر رقبته إنشالله.
فشاعت الابتسامة في وجهي، بيد أن كم الزهرة لم يتفتح، فهزتني أمي فقطبت وجهي؛ فاستراح بالها قليلا وقامت إلى عملها.
وتغدى الآغا وهم بالذهاب، فقال والدي: أيش عندنا اليوم؟
فأجاب الآغا: بقايا ميره.
27
فقال والدي: فإذن المدة طويلة عندنا، نتأمل أن تشرفنا كلما قدرت.
فأجاب فارس: لا غنى عن الفضل، إذا تيسرنا لا نبقى دقيقة. البقاء حسب الدفع، الأوامر تحرق العشب، لا يمكننا ترك الضيعة وعند أحد قرش واحد، أنت دفعت؟
لم تعجب هذه الكلمة والدي، وسمعت أمي تقول: أما وقاحة! ملحهم على ركابهم.
لكن الوالد قال: هذا سؤال يا آغا؟ طبعا دفعت، أنا أؤخر قرش الحكومي!
فقال الآغا: وجارك طنوس؟ أتقول إنه يدفع على الهينة، أم كالعادة لا بد له من القتلة؟ تحصيل مال الميرة متعب، ولكن فيه لذة.
فقال والدي: تلتذ بالضرب يا آغا؟
فقال الآغا: إذا لم نضرب لا نحصل، وأنا ابن «حكومي»، وحسب الأوامر أمشي.
وتبسط الآغا في تفصيل أوصاف وظيفة العسكري. وفيما هو يعج كالبحر، حضر نفر من الجند، فشققت عيني لأرى وجه القادم، فإذا بهم يقفون الوقفة المعلومة للتحية؛ فانتفضت وصرخت صرخة مفزعة حين سمعت طقطقة نعالهم، فركضت إلي أمي ولأسنانها صريف ناقة النابغة، وما كان أشد فرحها حين انصرف الآغا وجنوده لينتشروا في القرية الآمنة.
خرجوا من الباب فخار أحدهم كالثور: يا هو، يا أهل الضيعة، اليوم تسديد الميرة، الأونباشي حضر، لاقونا إلى بيت الشيخ. ••• - مارون! مارون! قم، راح العسكري.
ففتحت عيني، فرأيت والدتي تهز أرجوحتي ساهمة ساهية. - فزعت يا ابني؟ تقبر أمك.
فأجابها الوالد بلهجة وابتسامة كان يغلبني بهما طول حياته: كله منك. قلت لك يا شاطرة، لا تفزعي الصبي. هربت قلبه، صار يخاف من خياله. لا تخف يا صبي، أيش هو العسكري؟ كن مثل النمر.
فزاد حزنها حزنا، ولم تخرج من صمتها إلا حين سألتها، وكأنني نسيت كل أهوال الحادث: أمي! بحياتك، قولي لي: أيش هي الميري؟
فانبرى الوالد يشرح لي المعضلة، وأفهمني أن من لا يدفع الميرة يحبس في قبو البقر، ويأكل قتلا ويدفعها. وأنه - أي والدي - دائما أول من يدفعها؛ فيستريح من غلاظة العسكري والزيادة التي يغرم بها المتأخرون. وختم كلامه بقوله: إذا عشنا، السنة القادمة تتفرج على تحصيل الميري، أما كوماديا ...
ثم أفهمني أن الآغا صاحبه، ومتى قعدوا حول «السكلمة»
28
ودارت الكاس عمل «فتوتلو أفندم»
29
بأمر جناب الوالد، بل قل بأمر العرق الجيد، والنبيذ العتيق، اللذين يستخرجهما سماحة الوالد من عنب «شحواتا».
30 - مارون، لا تجبن. الذي يقول لك كلمة تمسك، اضربه ، ادعس رقبته. علي أنا بالعسكري. فهمت؟ قم العب.
الفصل الثاني
داهية غير منتظرة
كان ذلك سنة 1897 عندما رأيت الأونباشي فارس آغا ثاني مرة. حلت بالقرية نكبة مروعة، وأمسى الناس ليصبحوا وقد قضى أحد عشر نفرا منهم، وصاروا من سكان ديار البلى. وإليك الخبر.
كان الصيف يحتضر، وطرف أيلول بالشتاء مبلول - كما يقول المثل اللبناني - عندما رأيت المعاز إلياس الزغير، وعلى ظهره سل، وسرواله مدبج ببقع حمراء، يقف عند باب كل بيت مناديا على اللحم. وأقبل الناس على لحمه لسببين: السعر الرخيص، والشهوة لبعد العهد به، فقلما كانوا يأكلون اللحم في الصيف. خبرني جدي أنهم كانوا يودعون اللحم في المرفع
1
وداعا لا لقاء بعده قبل تشرين الأول، وكثيرا ما كانوا يجعلون جرن الكبة قاعدة يركزون فيها عمود الخيمة.
كان للضيعة مرفعان: مرفع شتوي في شباط، ومرفع يودعون به الصيف ويستقبلون الخريف. يقددون اللحم ويودعونه البراني والقطارميز؛ وهكذا يمسي لكل بيت ملحمة شتوية. ولكن الناس أقبلوا على لحم إلياس «مجابرة»، فكان يخرج من بيوت الجميع مجبور الخاطر، فنفق لحمه، إلا لدى جناب الوالد الذي لم يكن عند ظن إلياس به، فقابله بوجه حامض ولم يشتر منه درهما واحدا؛ ولذلك سبب أبوح به لك على شرط أن يبقى بيني وبينك.
كان والدي ووالدتي فرسي رهان في المشاكسة.
2
كانت المرحومة كمعاوية والمسلمين، إن شدوا أرخى وإن أرخوا شد، فما تنقطع الشعرة. أما الوالد فكان يقطع حبال المراكب ولا يبالي ... وكثيرا ما كان يحرد عن الطعام، فينغص عيشنا وعيش تلك المستورة.
وقف إلياس الزغير بالباب فملأه وأظلم البيت. وما حيا العم أبا مارون بلهجته الرخوة حتى مد القدر إصبعه المدبرة، واستبقت الوالدة الحديث، وأهلت بإلياس ورحبت ضاحكة قائلة: منذ زمان هذا القمر ما بان، أيش حامل على ظهرك يا إلياس؟ - لحم يا أم مارون، رخص مثل الخس، وأرخص من الفجل. الرطل بربع مجيدي يا أم مارون، عنزة مثل الخنزير تهورت
3
بالعاصي
4
والله العظيم، وحق القربان الطاهر، كانت تحلب الرطل مرتاحة. - يا حينها! يا خسارتها يا إلياس! الله يعوضك عليك، بالرزق ولا بصحابه يا بو ناصيف. خذ لك إقة يا حنا، اجبر عنه، مسكين إلياس، كان يترك عنزاته ترعى ويساعدنا في مشق ورق القز ...
أما الوالد فتجبر ولم يجبر عثرة جارنا الماعز، لا بخلا ولا شحا، ولكن ... بما أن الوالدة قالت: نعم، فعليه إذن أن يقول لا. تلك كانت خطته معها. فليس للمرأة أن تسبق الرجل إلى شيء.
وأخذت الوالدة تبربر،
5
وزعم الوالد أنه لا يدخل بيته لحم لا يعرف أصله وفصله. فتضاحكت الوالدة، وقالت: أهو من بيت شهاب! حرام اجبر عنه يجبر الله عنا وعن أولادنا.
فتمسك الوالد بنصائح فنديك، ويوحنا ورتبات.
6
وراحت الوالدة تسمع به، وتنسب إليه القسوة متسلحة برغبتنا في أكل اللحم.
فصاح الوالد: لا تطوليها ولا تقصريها. وحين حسم الوالد بعناده المشهور ما اشتهينا، انقبضت أنا تأييدا لوالدتي وإجابة لداعي بطني، وبكى إخوتي الصغار عندما سمعوا أوركسترا الكبة تعزف في بيوت الجيران. فقالت الوالدة: ما أهون كسر الخواطر عندك!
فهمر
7
الوالد وألقى موعظة في أضرار اللحم المجهول، دونها وعظة عبد الرحمن لولده يوم الرءوس،
8
ورأت الوالدة الشر في عينيه، فطبطبت وتوارت من وجه الجبار. وكان سكوت لا يشوبه إلا قرع المدقات من هنا وهناك، فقال الوالد: يا كاترينا، قومي اذبحي دجاجة.
فانتفضت كأنه قال لها: اذبحي ولدا من الأولاد، ثم قالت: كل دجاجاتنا تبيض، ذبحها كفر. فقال هازئا: لا يا مرة، توقي جهنم.
فقالت: في نفسنا شهوة كبة.
قال: اعمليها كبة، الدجاج أطيب. فأجابت: عال! عال! ما سمعنا بكبة الدجاج إلا منك. والتفتت إلينا قائلة: أبوكم معلم ماهر في الطبخ.
فصرف على أسنانه، وكاد يتناولها بضربة لو لم تتقيها بالابتسام، فاكتفى بقوله: يقصف عمرك، ما أبلدك!
كان موقف الوالد حرجا، فهو بين نارين: نار ينفخ بها حديث الوالدة وتقريعها له، ونار تضرمها ثورة المدقات. كان - رحمه الله - يحب الطيبات جميعها، ويتهافت عليها، ثم يحرم نفسه إذا اعترضت عناده وجبروته، فشك غير قليل، ثم قال: يا أولاد، بنفسكم أكل اللحم؟ وما أمهلنا حتى نجيب، فقال: على رأسي، الحقني يا صبي. وسرت خلفه على طريق القبو، فأخرج الثنية السكا
9
وذبحها. وما درت الوالدة بالكارثة حتى ولولت ودعت على أيدي الرجال بالكسر، من آدم حتى حنا.
المناحة قائمة، والوالد كما يقول المثل: يا جبل ما يهزك ريح، يسلخ ضحيته مستضحكا. تارة يصرخ بي: شد يا صبي. وطورا يقول نكاية بها على مسمع: تسلم يمينك يا أم مارون. هذا لحم يشبع ويلذ، لا أكل لحم عنزة مهورة، تقبر ذقن صاحبها.
تعجب الجيران، كيف ذبح أبو مارون السكا، ولكن العجب زال حين تذكروا أنها ثنية مدللة تحبها أم مارون ولا تردها عن شيء. فدى عيني السكا خلية البرغل والطحين ومعجن الخبز، وكل ما في البيت من زبيب وتين، وأبو مارون يرى ورقة التوت تسوي خروف البيعة، ناهيك أنه مشهور بالعناد والمشاكسة.
ولما سئل عن الجناية العظمى، أي ذبح السكاء، أجاب: حلفت بالله ألا أقتني معزى، ليس عند المرأة عقبة. إذا رعت عنزتها شارب زوجها كان ذلك على قلبها أحلى من العسل، ويا ليتها ترعى الشارب الثاني. وقد بر بيمينه، فما معت
10
إحدى بنات هذا الجنس عند بابه فيما بعد ...
أما نحن فغطسنا في لحم السكاء إلى الآذان، كأننا عذارى امرئ القيس بعد حمام دارة جلجل.
11
وشاركتنا الوالدة ودقت لنا كبة، ولكن على مضض؛ لأن حزنها على السكاء كان كحزن راحيل على بنيها.
وفي أول السهرة تعالى الصريخ المؤلم في الضيعة، هذا يشمر راكضا إلى الطبيب، وذاك إلى بيت الخوري. اللحم مسموم، وفي كل بيت، إلا من وقى الله، منازع أو مريض يشرف على القبر؛ مات عبود وماتت كنته العروس وابنته وبنت ابنته. وعبود هذا ابن عم والدنا لحا.
وهرول والدي ليرى ما حل بابن عمه، ولكنه عاد فوقف، بعد أن ابتعد عن البيت، ليقول لوالدتنا في تلك الأزمة: أم مارون، اشتري لأولادك لحما من إلياس الزغير إذا جاء صوبنا ... لم تجب تلك المسكينة إلا بالركوع أمام صورة العذراء، وقرع الصدر وذرف الدموع؛ وهكذا جبر الله خاطرها بعد انكساره بذبح السكاء العزيزة.
حقا إنه لمشهد يفزع البطل، فكيف بصبي مثلي. أربع جثث ممددة تحت سقف بيت واحد، كهل وعروس وبنت مراهقة إلى جانب أمها الشابة. أربعة توابيت مصطفة كأنها نواويس المومياءات؛ منظر اقشعر له بدني، وأخافني مع أنني كنت ابن عشر لا أحفل بالموت، ولا أحسب له حسابا.
وتجمع الناس فتشاوروا بالأمر، فقال شيخ القرية: لا بد من إشعار الحكومة بالمصيبة؛ وهكذا كان.
وعصر النهار أقبل فارس آغا ومعه فرقته، فألقى خطبة قصيرة فور وصوله، وتهدد المجرم وتوعده بالعقاب الشديد. وإذا لم يستطع القبض على الجاني، قبض على ضحاياه، وحال دون دفنها قبل أن يأتي المستنطق وطبيب القضاء جرجي مارون ليشرح الجثث، فعلا صراخ لا يوصف؛ لأن الناس في ذلك الزمان لم يتعودوا أن يشقوا بطن ميت.
وقرب المساء أطل موكب مدير الناحية على الضيعة، فتجمع الناس لاستقباله، واصطفت الفرقة وعلى رأسها الآغا؛ فما واجهها المدير - الشيخ طالب حبيش - حتى صرخ فارس آغا: سلام دور.
12
فمر المدير والمستنطق والطبيب. وصاح فارس: راحات دور.
13
فاختبأت خلف والدي، فأخذني بكتفي وقال: هذا سلام، لا تفزع. فتماسكت وأعجبني هذا السلام بالسلاح وإن أخافني، وأخذت عروقي تضرب، ثم هدأت بعد قليل.
وأقبل الناس على المدير مسلمين، هذا بيد وذاك بالثنتين، وكان الشيخ طالب يلهث ويسلم وعينه شائحة، وما وقف بباب بيت الضحايا حتى علت الصرخة؛ فطيب الخواطر وعزى المصابين، وأكد لهم أن العدل طويل الباع.
فقال له أحدهم، وهو أمير الكلام في المواقف الحرجة: يا سيدنا الشيخ، لا يضيع حق ووراءه طالب.
فأعجب المدير كلامه واستفزته التورية البديعة، فدعا الأونباشي، وقال له: ماذا عملت يا آغا؟
فتماسك الآغا وضب بردي كبرانه، وأحكم وقفته، وشرع يلقي خطبة كعادته. فقال المدير: لا تطولها يا آغا، اختصر، قل لي أيش عملت؟
فأجاب الآغا: الغريم يا افندم في بلاد البترون، والقانون يا افندم لا ...
فصرخ الشيخ كمن فقد صوابه: بلا قانون وبلا أكل حلاوة. توجه الآن إلى صغار،
14
ولا ترجع إلا والغريم معك. - أمركم أفندم، ولكن إذا هرب؟ - وأين يهرب الذئب من عين الشمس. اضرب، اذبح البقر، اقتل المعزى، اعمل البيوت مراح خيل، يجب أن تحضره الليلة.
فالتفت الآغا صوب الجنود وعج: سلاح أومزه.
فارتفعت البنادق إلى الأكتاف، فقال لهم: هجمة يا شباب، سمعتم بآذانكم، أوامر عزتلو أفندم تحرق العشب. شدوا ولا تتركوا
15
على بعضكم.
وما تحركت الفرقة ومشت بضع خطوات حتى عاد الآغا يقول للمدير: وإذا هرب إلياس إلى ضيعته عبدلي؟
16
فقال المدير: الحقه إلى القبر.
فقال الآغا: وإذا تخبا، من نحضر؟ - الموجود يا آغا؛ إخوته، أولاد عمه، أولاده، كل ما عنده. - نعم، نعم، فهمت.
فتنهد المدير وقال: نشكر الله، فهم الآغا أخيرا!
ولا تسل عن سروري إذ رأيت أن في الدنيا من هو أكبر من فارس آغا، بعدما قام في ذهني أن ليس لأحد عليه سلطان.
وسمعت الناس يقولون: بريال مجيدي
17
يبيع الآغا ألف دم. هم يعرفون أن الآغا يتبرطل وخصوصا إذا كان الوسيط امرأة، فإكراما لعينيها يبيع الدولة بزهراوي.
18
ثم أمر المدير بتشريح الجثث فاستنكر الناس ذلك، وكانت جلبة وضوضى، وتوسلوا إليه ألا يهين الموتى، فضرب صفحا عن ذلك وأمر بالدفن؛ فكان أفجع مأتم شهدته في حياتي.
وشق الفجر استيقظ الناس على مشهد مضحك، الأونباشي ورجاله يسوقون قطيعا من المعزى يبلغ المائة عدا، ومعه زوجة المعاز وطفل على زندها. فأخذ الشيخ يسب الدين.
وما اقترب منه موكب الآغا حتى استحال غضبه وسخطه هزءا وسخرا، فقال للمستنطق: يا أفندي، بحياتك أصدر مذكرة توقيف غير مؤقت للكراز
19
الأبرش، وخل سبيل الفحل الأبلق؛ فهيئته تدل على أنه رجل طيب، واسأل البلقا والكحلا والملحا
20
كيف وقع الحادث. يا فارس آغا، أنا راعي معزى يا حبيبي! أين الغريم؟
فأجابت امرأة المعاز: الله يطول عمرك سعادتك يا بيك، ابن عمي سلم نفسه اليوم في جبيل.
21
فقال المدير: كان جاء إلى هنا، عين كفاع أقرب من جبيل.
فقالت المرأة: خاف من الضيعة تتعدى عليه.
وتقدم الآغا ليلقي خطابا، وما كاد يقول عزتلو
22
أفندم، حتى صرخ به المدير: لا عزتلو ولا طظتلو.
ثم خلى سبيل المرأة وقطيعها وركب إلى جبيل، مركز مديريته. •••
وبعد أسبوعين سمع وقع سنابك
23
الآغا في عين كفاع، فاختبأ كالعادة من تطلبهم الحكومة بشيء، حتى إذا وضح الأمر ظهروا من المخابئ، وبعد قليل رفع الناطور عقيرته يدعو الناس إلى بيت الشيخ، فجاءوا جرد العصا،
24
فقال الشيخ: تفضل يا آغا، خبرهم عن مأموريتك.
فوقف الآغا، وقال: دولتلو أفندم حضرتلري أفندينا نعوم باشا، سمع بمصيبة عين كفاع فرق قلبه ...
فقال أكثر الجمهور: الله يطول عمره.
فقال الآغا: وأعماركم تطول. لا تقاطعونا، خلونا نكمل كلمتنا.
فقال واحد: اسمعوا يا ناس.
وقال ثان: اسكتوا يا بشر.
وقال كثيرون: هس. وقالت واحدة لا تعجب الآغا ولا يعجبها: بس يا هو.
فصرخ بها الآغا: اسكتي أنت، سدي بوزك، العمى في قلبك.
وسكت الناس، فأعاد الآغا كلمته الأولى بحروفها، فقال ابن المرأة: سمعناها يا آغا، هات غيرها إن كان عندك.
فاغتاظ الآغا وسكت الجميع، هم يريدون أن يعرفوا ماذا بعد رقة قلب أفندينا الباشا، وطال سكوت الآغا، كأنه نسي ما أعد من كلمات لهذا الموقف، فقال أخيرا: خبرني سعادة المدير أن الباشا بكى لهذه المصيبة الثخينة.
فقاطعه شيخ الضيعة قائلا: قل الكلام الجوهري يا آغا.
فقال الآغا: دولتلو أفندم حضرتلري الباشا ... يا جماعة، بعث مائة ريال مجيدي إعانة للموتى.
فضحك الناس، وانتهت الخطبة بلا تصفيق، بل بعمل القسمة، وأخذ كل من المنكوبين ما أصابه، ودعوا للباشا بالعمر الطويل.
وكان زعيم المعارضة في ذلك الزمان رجلا اسمه قرياقوس، هو أمي ولكنه ذكي الفطرة، أما هيكله فابن عم الجاموس؛ صدر كالنورج
25
لم يكن يستره قط فتخال أنه يرتدي جلد تيس. أما كفه فمثل المدرى، ورأسه كأنه يقطينة كبيرة، وإذا تكلم تخال عشر ضفادع تنق معا. هو مثال العامل اللبناني النشيط، قضى شبابه في حنوش،
26
وهي مزرعة قرب نفق المسيلحة،
27
وعاد إلى الضيعة بمعارف اكتسبها من الغربة.
قلنا إنه زعيم المعارضة، ولكن العم قرياقوس لا يتزعم غير نفسه والنحل الذي عنده، فقد كان ملك العسل في زمانه. رأى قرياقوس أن الإعانة لا تذكر فقال: إما أنه باشا خسيس، وإما أنهم «قرطوا» حصتهم من الإعانة.
فوسوست كلمته في صدور الناس، واستطار الشر في الضيعة، وكانت شكوى قرياقوس، وكان تحقيق؛ وتتالت الدعاوى في الضيعة، وإن النار بالعودين تذكى. وكان لنار الشقاق في عين كفاع عيدان، وعلى جانب الموقد قرمان
28
عنيدان؛ يدب لها بالحطب الخوري يوسف مسرح من عن يمين، وينفخها قرياقوس ضاهر من عن شمال. ومن لم تحرقهم نارها أعماهم دخانها ورمادها.
وظلت الضيعة تتخبط في الخصام، وتشغل دوائر الحكومة عشرات السنين، ومتى تنافرت القلوب يخطب الدبوس
29
في كل موقف، وتقدم العصا براهين ذات حدين ... لم نقل الخناجر؛ لأن أهل القرية غير قساة القلوب. يهرعون إلى الحكومة ولا يأخذون حقوقهم بأيديهم. فركبت الديون الأهالي وخربت بيوت كثيرة.
الفصل الثالث
مار قبريانوس ومار شليطا
تقع عين كفاع على رابية كأنها عقب البيضة. بيوتها كالمدرج تقوم على جانبي درب، يمتد من الوطا
1
إلى القرقفة،
2
مسافتها كيلومتر وأكثر. على هذه الطريق كانت تسير فرقتنا العسكرية وسيوفها من خشب، وبنادقها من قصب. بقينا أياما بعد تلك الفاجعة نقلد فارس آغا وفرقته حتى مللنا ومل الناس حركاتنا وأزعجتهم ضوضاؤنا. كنا نجعل منا شقيا تطارده الجنود، حتى إذا قبضنا عليه يأمر المدير بحبسه، فندخله قبوا يقف على بابه أحدنا خفيرا، ولم تسترح القرية من سماجتنا البريئة حتى كان ما يأتي:
سجنا أحدنا بعد محاكمته، فصرخ الفتى بعد قليل صرخة قهقهنا لها، ثم تعالى صراخه المفزع ونحن لا نفتح له الباب؛ فذعر جارنا طنوس حبقوق وأقبل على استغاثته، فإذا بالولد مغمى عليه حد حية تبتلع جرذا، فقتل الرجل الحية، وحمل الولد إلى بيته، وعاد يتعقبنا واحدا واحدا، فكانت تلك الفاجعة آخر العهد بتجارب الحكم ...
ومر عيد مار روحانا - عيد الضيعة في 29 أيلول - صامتا. لا قرع جرس ولا قيم أجران،
3
لا غناء ولا سكر، ولا حلقات قول ولا ولا ... الضيعة محزونة والحداد شامل، وبعد أيام كان الأحد الأول من تشرين، وهو العيد السنوي لأم يسوع - أحد الوردية الكبيرة - يطاف به بأيقونتها حول الكنيسة باحتفال عظيم. اجتمع الناس للصلاة، وهي أطول صلاة عرفتها، خمسة عشر بيتا مقسمة ثلاثة أقسام: خمسة أبيات للفرح، وخمسة للحزن، وخمسة للمجد. ولكل بيت من الخمسة عشر نشيد خاص به، ويلي ذلك ما يليه، ويسبقه من صلوات ودعوات والتماسات، وأخيرا الزياح الاحتفالي.
4
لفت نظري في هذا الموسم شكل الحلة البيعية:
5
غفارة
6
مخملية مزركشة بالقصب الذهبي، ومثلها بهاء ما يتبعها من ثياب التقديس؛ أعجبني المشهد فوجدت فيه مرعى جديدا لصبوتي وأماني المتوثبة. علقت أعمل الفكرة في إخراج هذا المشروع إخراجا لائقا، كما أخرجت من قبل النظام العسكري، فانتهى بفاجعة كادت تكون أليمة.
فما انتهى مشهد الكنيسة البهيج حتى كنت بعد الظهر، وحولي من أعول عليهم في المهمات الكبرى، نبني كنيسة عند بيتنا. ولكنها - ويا للأسف - ما قامت حتى أعيت وسجدت كإمام العصبة النواسية؛
7
فنمنا على كدر، وقمت في الغد أجهد فكرتي، فرأيت قدام بيتنا صخرا مجوفا، ما زال هذا الأثر التذكاري مصونا حتى ابتلعته طريق السيارات كأنه حنية مذبح
8
فتحقق أملي المنشود.
فبنيت على مقربة منه دعامتين سميتهما قبة، وجعلت في القبة جرسا على شاكلتها - تنكة كاز - وقرعنا الجرس والناس يضحكون لنا، والوالد يبتسم نصف ابتسامة، قائلا: صبي شيطان، لا يهدأ أبدا.
ونادى أم مارون لترى عبقرية المحروس، فعادت منبسطة الوجه تردد: اسم الله حوله، يقبر أمه ما أحلاه! والقرد بعين أمه غزال، كما يقول المثل.
الكنيسة تمت والجرس تهيأ، أما الأواني الكنسية فأين نجدها يا ترى؟ المبخرة لا يصلح لها إلا علبة البرشان لجدي الخوري؛ فانتظرت الغد، موعد قطاف الزيتون، فخلا البيت إلا مني، فثقبت علبة البرشان ثلاثة ثقوب، علقت في كل ثقب خيطا من القنب؛ فصارت مبخرة ... وأغرت على الكنيسة فجئت بحفنة بخور، ورأيت المذبح يحتاج إلى تصاوير لم أجدها إلا في التوراة، الكتاب العزيز على قلب جدي، فانتزعت صور المجلد الأول جميعها، وألصقتها بالعجين على صدر تلك الحنية. بقيت الغفارة، فتراءت لي في فسطان أمي المخملي - فسطان عرسها - فانقضضت على صندوقها وانتزعته من بقج ثيابها؛ فصلت منه غفارة
9
وبطرشيلا
10
ومنصفة
11
وكمين، وجعلت تنورتها البيضاء كتونة،
12
وأقمت زياحا احتفاليا كان شمامسته رفاقي، والشعب صبيان الضيعة وبناتها.
كان طوافنا حافلا صارخا، بلغ به صياحنا مسامع القرى المجاورة، وعاد جدي من الحقل، فرآني أحتفل احتفالا عظيما بتقوى وخشوع، كأنني ذاك، كما يقول الأخطل. عز عليه جدا أن يقلده حفيده ووارث مجده المنتظر، الأسرار
13
والاحتفالات البيعية؛ فتضاحك حتى أركنت إليه، وما أن وقعت بين يديه حتى أهوى علي بعصاه السنديانية، طفق ينفضني تنفيض الشيح،
14
وإن شئت تعبيرا جاهليا، فقل: يعصبني عصب السلمة، كما وعد الحجاج أصحابه في الأهواز.
15
وعجز أخيرا عن الضرب، وهو يحبو إلى التسعين؛ فجعل يركلني، ثم أخذ يدعس ويعرك. قتلة لا يزال طعمها تحت أضراسي كما نقول. فعل كل هذا، وهو لا يدري أن علبة البرشان قد تغمدها الله برحمته ورضوانه، وأن صورة التوراة وميزان الزمان
16
صارت زينة لهيكلي.
وعادت الوالدة إلى البيت، فرأتني ممرغا بالتراب باكيا، ورأت صندوقها مفتوحا ففزعت، وغضبت لما رأت بقايا غفارتي، وعرفت بها قماش فسطانها، وأراد الوالد أن يبل يده بي، فقال جدي: اتركه، أنا شبعته. قلت لكم هذا مجنون، خذوه إلى قصحيا.
17
وبعدما استراح من عناء معركته التفت إلي وقال: كلب! ما قدامك غير الحبس، الحبس أحسن دوا لك. إن رجع فارس آغا ... طيب طيب! شر الصباح ولا خير المساء.
أما أنا فلم أجد مهربا أسلم عاقبة من النوم. تعشوا ولم أتعش، ثم جلسوا ثلاثتهم صامتين، كل يغني على ليلاه: جدي يندب علبة البرشان
18
وصور التوراة وميزان الزمان، والوالدة فسطانها وتنورتها المخططة، والوالد يسائل جدي: قولتك صبي أخوت؟ فيجيب جدي، وهو يفكر من أين يأتي بالبرشان ليقدس في الغد: الله يلطف يا حنا، هذا الظاهر، الله يرد غضب السيدة عنه. لو عرف سيدنا البطرك؟ فهوت والدتي على يدي عمها تقبلهما باكية قائلة: بحياتك يا عمي، لا تفزع الصبي.
وقرب الساعة الثامنة بعد الغروب وصل الآغا؛ فاستعاذ جدي بالشيطان - هكا يعبر العوام - حين رآه، وقبل أن يسلم الآغا، بادره جدي قائلا: خير إن شاء الله يا آغا، دعوى من اليوم، دعوى خوري مسرح أم دعوى قرياقوس؟
فقال الآغا: أمهلنا حتى نقبل أياديك. وبعد الواجب، قال: لا هذا ولا هذاك، شيء جديد يا محترم، دعوى تضحك وتبكي، فقال جدي: ما أكثر فنون الحكومة! قل يا آغا، خبرنا، شغلت بالنا. - الله لا يشغل لك بال، دعوى سخنة وعاقبتها بشعة.
فصلب جدي على وجهه، وتأفف وتأوه، وعيناه عالقتان بوجه الآغا المغلق كأنه لوح نورج؛ فظن والدي وجدي أن هناك دعوى خطيرة جدا، وظننت أنا أن ساعتي قد دنت، وأنه إنما جاء لأجلي، وقد وصل خبري للبطرك.
وأخيرا قال جدي: هات خبرنا القصة. فقال الآغا: زمان فاسد يا خوري حنا، الناس ذئاب كاسرة. تقاتل حنا ديب وبطرس موسى على درب جبيل، وصدر أمر عزلتو مدير الناحية للتحقيق، وأنا جئت وحققت، وهذا هو الأمر.
وتناوله الآغا من جيب «كوبرانه» ونشره، ثم أحكم مقعد نظارتيه فوق سنام أنفه، ومشى إلى القنديل يتغربل، وما أن رفع فتيلته أكثر من المعتاد حتى صرخت الوالدة: توق يا آغا تكسر القزازة، ما عندنا غيرها. أما الآغا فقرأ دون أن يبالي:
إلى فتوتلو الأونباشي فارس آغا ...
طقطقت الزجاجة، فقالت أمي: وجه نحس، ما منه غير الخسارة.
أما الآغا فتابع قراءته:
توجهوا حالا إلى قرية غلبون، وحققوا بدعوى بطرس موسى على غريمه حنا ديب من محله، وأحضروا الغريم مكتوفا لهذا الجانب إذا ثبت عليه الجرم، نؤكد عليكم كل التأكيد.
مدير ناحية جبيل
فقال جدي: يهمنا أمر الاثنين. هذا من أقاربنا، وهذاك عزيز علينا، أبوه صاحبنا.
فقال الآغا: وأنا - إكراما لقدسك - حضرته إلى عين كفاع. وإلا كنا في جبيل قبل الغياب، ونام حنا ديب في بيت خالته - أي السجن - فشكر جدي الآغا، وقال: أنت يا آغا منا وفينا، وغيرتك مشهورة. - مرباك يا محترم، اسمح لي بكلمة. نحن أبناء الحكومة علينا واجب مقدس، وهو المحافظة على أرواح العباد، ولا مانع إذا عاملنا الرعية باللطف وراعينا الأوادم مثل حضرة أبينا الخوري.
فقاطعه جدي، قبل أن يعبئ نفسا، فقال: كلام مثل السكر يا آغا.
فصاح الآغا: اسألني يا محترم، عن سبب المقاتلة. - تفضل، خبرنا. - الخلاف على مار شليطا
19
وما قبريانوس
20
كلمة منك وكلمة مني؛ وكان جرح طوله فتر وعمقه أكثر من قيراط، مع رابور طبي بخمسة عشر يوما، والرابور مفتوح.
وأبدى جدي إشارة استفهام بيده، فقال الآغا: مفتوح، يعني يقدر الطبيب فيما بعد تطويل المدة، فتصير دعوى جناية.
فاغتم جدي وقال: الله ينجينا، اختلاف على القديسين، هذا فن جديد، صح المثل: تقاتلت الفيران على كشك الجيران. فقال الآغا بصوته العريض: الجنازة حامية والميت ...
فصاح جدي كمن رأى قربه حية: سلام الله على اسمهم، لا تكمل يا آغا.
ودخل حنا ديب فرأيته مشدود الساعدين بمرسة، فتوقعت هذا المصير إذا اتبعت قباحاتي، فقال جدي لحنا ديب: يا حنا، يا ابني، اتركوا السما لأهلها، وعيشوا مع بعضكم بمحبة الله. مار قبريانوس ومار شليطا! ...
فقاطع الآغا جدي، وقال: الحكومة تربي الأرض، والعصا علمت الدب الرقص. أسلم لك ولغيرك يا حنا، الهدوء والسكينة. من يقاوم الحكومة؟ تعرف مدة حبسك؟ على الأقل سنة، ما عدا - ومد أصابع كالمدرى،
21
وأخذ يعدد عليها - الجزا النقدي، والعطل والضرر، وأجرة «البوكاتي»،
22
ومصاريف الشهود والدرب. وختم بقوله: وبرطيل الآغا.
وتضاحك ثم قال: إذا حبسوك جمعتين يخرب بيتك، فكيف إذا حبسوك سنة. اشكر ربك، المحترم مهتم بقضيتك، وإكرامه واجب علينا، هذا بركة الجميع. سيدنا البطرك يعد خاطره. وتنحنح وسعل ليصفو صوته، ثم قال: قل نشكر الله، وقعتك سليمة، اسمع من المحترم، وادفع الذي يفرضه عليك مع حبة مسك.
فأطرق جدي قليلا، ولكن الآغا ما انتهى. ظل يحكي ساعة، وكلما أراد جدي أن يقاطعه يقول: «دستور» بإذنك يا معلمي ... وأخيرا كفل جدي حنا، ففك الآغا كتافه على أن يطلبوا في الغد غريمه بطرس، وينظروا في عقد صلح بينهما.
وانصرف جدي إلى مخدعه، وبقي الوالد والآغا يتسامران، فقال والدي: أيش قول الآغا في كاس عرق؟ - كاترينا، لقمة عشا للآغا، من الحواضر.
فحلف الآغا أنه تعشى من خير الوالد، وافتدى العشاء بقنينة العرق التي كان يسميها المرحوم: ستارة العيوب وفضاضة المشاكل ... ودار على الشراب حديث ستظهر نتيجته في مجلس الصلح ...
وجاء بطرس موسى غدوة، فخف الآغا لمقابلة جدي، ثم جاءا معا، فقال جدي لبطرس: أتعرف «الأبانا»؟
23
فاستغرب بطرس أولا هذا السؤال، وقال: والو! يا عمي الخوري، أنت مربينا.
فقال جدي: ما فهمت قصدي يا ابني. ثم أدرك بطرس ما أراده جدي، فقال: ولكن يا عمي، ما قال ربنا اغفر لمن ضربنا وشق رأسنا؟
فأجابه: بلى يا ابني. كلمة أخطأ إلينا، تحتمل أكثر من الضرب والجرح. ضاعت ولقيناها يا بطرس، المصارين في البطن تتقاتل. من قارب الحكومة، وظل على جلده قميص؟
وبعد جدال طويل انفرد والدي ببطرس ثم رجعا، وتداول مع غريمه هنيهة وعادا، فإذا بالعقدة انفكت، يدفع حنا ديب لبطرس موسى ثلاث ذهبات عثمانية بدل عطل وضرر.
ووقف جدي ووقف الجميع. أما الخصمان فركعا، فتمتم جدي بعض كلمات واضعا يده على رأسيهما، ثم رفعها ورسم في الهواء شكل صليب، فنهضا عند ذلك يتعانقان، وهتف الحاضرون بصوت واحد: صلح مبارك.
أما الآغا فاقعنسس
24
على الصفة،
25
وقال: الصلح سيد الأحكام، ونحن - رجال الحكومة - علينا تحصيل حقوق الناس، والتوفير عليهم إذا قدرنا. لم يطول في الكلام؛ لأنه مشغول البال ينتظر النتيجة ... ولذلك قام إلى الخرج وأخذ منه كف ورق، واستل دواته النحاسية من زناره وشرع يكتب:
لجانب مديرية ناحية جبيل البهية
عزتلو أفندم حضرتلري
يعرض مقدمه بطرس موسى الماروني العثماني من قرية غلبون في مديرتكم التابعة قضاء كسروان، حيث كنت شكوت إلى عزتكم حنا ديب من محلي بدعوى ضرب وجرح، والآن ألتمس قبول رجوعي عن دعواي الفورية، وإسقاط جميع حقوقي عن حنا المذكور. والأمر لمن له الأمر أفندم.
بنده
بطرس موسى
ثم نفض رماد سيكارته على الحبر الطري، ووضع العريضة بجانبه، وملس شاربيه بسبابته وإبهامه، وتمددت أصابعه الأخرى على ذقنه كأنها أصابع الأخطبوط، وطال السكوت، فتحلحل جدي رويدا رويدا، وقام قائلا: كلمة يا آغا.
وخرجا من الباب الشمالي، وهناك فك جدي مصره،
26
وأخرج منه ريالين مجيديين دفعهما للآغا، فما لمسا كفه؛ حتى أجفل كمن لدغته عقرب، وصرخ: تعطيني مجيديين يا معلمي، أنا لمام!
27
وقطب جدي حاجبيه، فخفف الآغا من رعونته،
28
وقال بنعومة: طول الله عمرك يا محترم، هذي دعوى فيها ما فيها، نحن نأخذ على ضربة كف ريالين وثلاثة. بالنادر «يعلم» المدير هذا التعليم ويشدد هذا التشديد؛ المدعي ظهره قوي. اقرأ يا خوري حنا، هذا مكتوب توصية من وكيل البطرك الخوري ب. الدعوى جناية، ضرب على السكة السلطانية، رابور بخمسة عشر يوما قابل الزيادة ... زد له نصف مجيدي يزد لك خمسة أيام، ونحن قطعنا رأس الحية نأخذ مجيديين؟!
بهت جدي، ثم أعاد المجيديين إلى مصره، وأخرج ليرة فرنساوية، فما إن رآها الآغا حتى أشرق وجهه، وصاح: هات «عسملية» يا بونا، الله ينصر السلطان، ليرته حلوة.
فقالت الوالدة، وكانت تتسمع: حكومة نهب وبلص. فأجابها الآغا: نحن نرضى بليرة يا أم مارون، جربوا غيرنا تعرفونا.
وقال بطرس الآغا: وأنا لأي حساب أعطيتك ستة بشالك؟ فلم يرد عليه الآغا، وأخذ يتأهب للرحيل، فأسر والدي في أذن جدي كلمة قال على أثرها: والجرنال يا آغا؟
فصرخ الآغا: على راسي ثم عيني، هذا الجرنال.
29
اقرأ الملحوظات يا بطرس تعرف أن ستة بشالك ما ضاعت.
ودفع إلى جدي كراسا وجدته بين أوراقه الهرمة، وهو يتضمن الاستنطاق الذي أجراه الآغا، وقد ربط به عريضة الشكوى وتأشير المدير عليها بما سبق ذكره، وإليك شذرة من هذا الكراس الذي يسميه العوام: «الجرنال المحلي»: •••
في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الأول سنة 1897 حضرت أنا فارس الآغا أونباشي مركز مديرية جبيل إلى قرية غ. لإجراء التحقيق بدعوى بطرس موسى على حنا ديب من محله على الوجه الآتي:
استنطاق المدعي
س:
ما اسمك؟
ج:
اسمي بطرس موسى.
س:
اسم والدك؟
ج:
مخايل.
س:
اسم أمك؟
ج:
فروسينا.
س:
قدمت دعوى لعزتلو أفندم حضرتلري؟
ج:
لا يا سيدي، تشكيت لمدير جبيل.
س:
امهل علي يا ابني؛ نحن لا نقول مدير جبيل، اللقب محفوظ عندنا. هذا إمضاؤك؟
ج:
أنا لا أقرأ ولا أكتب، رجب أفندي عمل لي المعروض.
س:
إذن صحيح أنك مقيم دعوى على حنا ديب؟
ج:
معلوم، من كل بد.
س:
ماذا تدعي عليه.
ج:
نطولها أو نقصرها؟
س:
احك الواقع، قل: والله العظيم لا أقول غير الصحيح.
وحلف الرجل، فسأله الآغا: لماذا ضربك حنا ديب؟
ج:
كنا على الطريق رائحين إلى جبيل، حنا «يزت عتابا»
30
وأنا «أكسر له على الميجانا»،
31
ولما صرنا في عقبة حبالين
32
تعست
33
دابتي، فقال حنا: دابتي لا تتعس.
تعجبت أنا، فقال: لا تتعجب، في رقبتها كتاب مار شليطا؛ مستحيل تصيبها مصيبة.
فقلت: سلام الله على اسم مار شليطا، ولكن أنا متعبد لمار قبريانوس، وهذا كتابه في رقبتي يحرسني ليل نهار.
فهز برأسه، وقال: رح أنت ومارقبريانسك، اسأل يوسف أندراوس يخبرك عن عجائب مار شليطا.
وقع بغله مرة من علو عشر قامات؛ فصرخ: بحياتك يا مار شليطا، فقام البغل، وحمله نصف قنطار، ولاقى صاحبه مثل النمر.
وأخذ يعد عجائب عجائب وأنا ساكت. وأخيرا قال: منو مار قبريانسك يا بطرس؟ ما سمعت السنكسار!
34
اسمعه بعد جمعة، يوم عيد مار شليطا. مار شليطا كان ابن عم الملك قسطنطين، وشليطا معناها المسلط. أيش معنى قبريانوس؟ أظن المقبور. مار شليطا جلدوه بأعصاب البقر وما مات. أدخلوه في الأتون
35
وما احترق. جروه بذنب الخيل في أرض مصر وبقي حيا، ثم أخذوه - يا رب تذكرني - نعم تذكرت: إلى أنطاكية، ومزقوا ظهره بأمشاط من حديد، وشقوا جنبه وأعصاب عينه، ووضعوه بين صخرتين عظيمتين؛ فخرجت أمعاؤه وقطعوا رأسه.
مسكين مار قبريانوس! ما كلف قتله أكثر من كلمة. قتلة أم نوح
36
أصعب من قتلة شفيعك، سحبوا رقبته مثل الفجلة.
كل هذا وأنا ساكت، فقال: احك، لا تسكت. تأمل صورة مار شليطا، رقبة حصانه مثل العضاضة.
37
مار قبريانوس حاف بلا نعل، ينوس
38
مثل المسلول.
وبقيت ساكتا، فاقترب مني، وهزني بيده، وقال: احك يا آدمي، الحديث أخذ وعطا.
فقلت: الفرق بعيد يا حنا، الذي ينفع الناس مثل الذي ينفع الدواب؟ كم رجل ما عاش له أولاد حتى علق كتاب مار قبريانوس في السرير؟ فلان وفلان وفلان خنقت «القرينة»
39
أولادهم. خذ خليل ضاهر، لبطته تهد الحيط، لولا كتاب مار قبريانوس كان بالقبر، أي هو أفضل: الذي يخلص الناس، أم الذي يخلص البغل والجحش والتيس؟ أنا يا حنا شفيعي مار قبريانوس، وأنت الله يبارك لك في مار شليطا. فهجم علي قائلا: يعني أنا بهيم؟ فقلت له: حاشاك. فخمن أني قلت له وحش؛ فضربني بالعصا وشق رأسي.
س:
هل تدعي بشيء غير الضرب؟
ج:
لا يا سيدي.
س:
هل بينك وبين حنا ديب عداوة سابقة؟
ج:
بالعكس، كنا مثل السمن والعسل.
س:
هل عندك شهود على ما تدعي؟
ج:
نعم، فلان وفلان وفلان.
ويلي هذا استنطاق الشهود والمدعى عليه، لم نطلع القارئ عليها؛ لأن الفحوى واحد، ولكننا لا نحرمه من مطالعات فارس آغا في الدعوى، وهي ما يسميها القرويون «ملحوظات»، ويبذل كل من الخصمين الغالي والرخيص لتكون معه لا عليه، وإليك ملحوظات الآغا على علاتها:
عزتلو أفندم حضرتلري
بناء على أمر عزتكم توجهت حالا لقرية غلبون، وحققت في دعوى بطرس موسى على حنا ديب، الباين
40
من تقرير المدعى عليه وشهادة الشهود إنو وحش، والدعوى صحيحة ما فيا شك. حنا ديب المعروف عنو إنو زلمي
41
قاباضاي مناقرجي
42
بريمو. مشهدلو بالتعدي بضيعتو وجواريا
43
يتعدا عالناس، ولم كان حدا يربيه التربايي اللازمي.
إن شاء الله بيدوق المغرايي
44
هلمرة.
وجب عرض الكيفية لعزتكم والأمر لمن له الأمر أفندم.
بنده
فارس ...
أونباشي مركز جبيل
الفصل الرابع
ملك العسل والدعاوى
في الضياع أحزاب وفيها نضال، وفي القرى تطاحن وفيها اقتتال. القرية دويلة يتنازع زعماؤها نفوذا أقرع، وسيطرة مقعدة، جارين خلفهم من العوام أذنابا أطول وأكثر ألوانا من أذناب طيارات الصبيان، وإذا فتشت عن أسباب تشاحنهم وجدتها أنت تافهة، أما هم فيرونها نقطة استراتيجية جليلة القدر. ومتى حميت حرب القرية وطار غبارها امتدت إليها بد الأحلاف الخارجيين ودبوا لنارها بالحطب.
كانت «المشيخة» قطبا تدور حوله رحى «الأيام» القروية، ينفق الرجل ثروة ضخمة ليخاطبه الناس بيا شيخ، أما اليوم فتقوم قيامتهم على المختارية وولاية الوقف، وعلى الناطور ومعلم المدرسة، وعلى رئاسة البلدية وعضويتها، وعلى المقابر والمشاع ... إلخ. وإذا فرغوا من تلك الشئون الداخلية تألبت أحزابهم حول المديرية والقائمقامية والنيابة.
ولي قائمقامية كسروان شخص، فأطلق أحد القرويين الأسهم النارية إعلانا لابتهاجه و«غرضه»، فسأله أحدهم: أتعرف القائمقام الجديد؟ فقال: لا، ولكني عملت ما عملت نكاية بابن عمي واستفزازا لخصومي.
من تأمل القرية رآها صورة مصغرة للعالم الأكبر؛ طورا يسفر احترابها عن جرحى، وأحيانا عن قتلى، وفي الحالين عن قوى عسكرية تحتل الضيعة؛ فتأكل دجاجها، والمعلوف من غنمها، والعجول المسمنة من بقرها، ويفنى مالها الناطق والصامت.
أما ضيعتي التي أحدثك عنها فأكبر جناياتها جرح بلغ القيراطين طولا في نصف قيراط عمقا، لم يطلق فيها عيار ناري بقصد قتل أو إرهاب. ضيعة وديعة حربها عقلية أكثر منها بدنية وحشية. ضيفها مقرى،
1
تلبي صوت الداعي في السراء والضراء. وكلمة «طيبة» بمعناها الأصلي، أصدق نعت لها.
رسمت لك صورة قرياقوس ضاهر، بطل حرب القرية العلماني - وهناك بطل إكليريكي سيأتي دوره - وفي نيتي الآن أن أعمل على إبرازها.
جلا عم قرياقوس عن «حنوش» المزرعة الساحلية؛ حيث قضى فتوته عريانا يصطاد السرطان والسمك، فإذا جاء أيار نضى
2
عنه ثيابه لا للنوم كصاحبة
3
امرئ القيس، بل للعمل نهارا أمام عين الشمس، وليلا تحت ضوء القمر، لا يبقى على ذلك الجلد التمساحي المفلس
4
غير قميص يستر العورة، نسج على نول القرية، لا في أوروبا. ألا رحم الله نول أمي وأمك!
ورث قرياقوس عن أبيه عقارا مساحته نصف هكتار، في المقياس الأوروبي، وكدنتان ونصف في عرفنا. قلت عقارا، فما هذا العقار؟ صخور مصطفة كأنها جنود الدهر تستعرض لحرب الآباد
5
أشكال وأنواع، لو رآها الجاهليون، لعبدوها دون اللات والعزى.
6
هاجمها قرياقوس بمتنه الأزل وساعده المفتول، وعدته: مخل ومهدة
7
ومعول.
إذا صادف عنادا من صخر ممتد الجذور، كبير الرأس، صرخ: يا مرين - أي يا مريم - هاتي اللغم والبريمة.
8
وبعد ساعة يزأر مناديا: بارود، بارود ، ويردد النهر صدى الانفجار، وتنجلي المعركة عن أشلاء الصخور المبعثرة، ويقف قرياقوس شامتا بخصمه، ضاحكا لانتصاره، كأنه سيف الدولة إذ وصفه المتنبي بعد وقعة الحدث:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
وقبل أن يكسر تلك الصخور بالمهدة، ويضعها على الرجمة
9
يقعد على أحدها كقائد ربح المعركة، يلف سيكارة من الضبوة
10 - الظبية - المعلقة في زناره، ويقدح فيشتعل الصوفان، ويملأ صدر قرياقوس العريض من رائحته الذكية، لا البرد يثني قرياقوس ولا الحر يخمد همته. سنديانة جبارة سيان عندها الهجير
11
والجليد. وجه أسدي وعينان تقدحان شررا، وإن لم يفارق العمص
12
موقهما. كان قويا جدا ولكنه - لحسن الحظ - جبان، وإلا كان أكل الناس.
لم تنقض سنوات حتى صار لقرياقوس بيت وقبو وبئر، بناها بما قلع من حجارة، ولم ينزل عن حقه في الآبار القديمة الموروثة؛ ليظل باب الخصام مفتوحا ... أجال قرياقوس يد العمارة في الأرض الموات التي أحياها، فأمست توتا يربي عليه ثلاث علب من بزر القز، ويقبض في كل موسم عشرات الدنانير.
غرس الأشجار المثمرة حول بيته، ولم يترك شبرا واحدا بورا، فلم تكن تجد عند الضيعة مجتمعة ما تجده عنده من ثمار وفواكه. يبدأ بأكل التين من منتصف آيار، وينتهي في آخر كانون الثاني. من التين القزي، إلى السويدي، فالحميري، فالبقراطي، فالبويضي، فالشتوي. وكذلك العنب المتعدد الأشكال، المختلف الطعوم، ما عدا الجوز واللوز، والمشمش والقراصيا، والخوخ والتفاح والإجاص ... إلخ. إذا سمع قرياقوس بصنف أو نوع شمر
13
ساعيا إليه، وجاء به وغرسه حول بيته؛ فأمسى وعنده جنة فيها من كل فاكهة زوجان. كثيرا ما كنا نغزو العم قرياقوس ونعود غانمين، ولكننا قلما كنا نسلم من سباب تقذفنا به تلك الحنجرة، فيصل إلى آذان الناس وكأنه حجارة المقلاع.
ولم تقف همة قرياقوس عند بيته، بل حملته إلى عقار آخر في ضاحية الضيعة، فحرثه ونقبه وغرس فيه الأشجار المثمرة. كان في تلك القطعة نبع مطمور
14
اسمه «عين صيوح»، فنبشه وسماه «العين الجديدة»، ثم طمه بعد حين؛ لأن الناس كانوا يردونه خفافا ويصدرون عنه ثقالا، يمدون أيديهم إلى العنب والتين والفواكه، وهذا ما يغيظ البطل.
واشرأب قرياقوس إلى سياسة القرية حين بات في بحبوحة. انغمس في تلك البورصة المدمرة؛ فجاءته النكبات من كل فج عميق، وقضى عمره يدعي ويدعى عليه وهو يستعين بالدين على حل مشاكله ...
ورأى أن النحل دخل بلا أكل، فجعل وكده فيه حتى أربى عدد مدينة النحل عنده على ثلاثمائة جرة؛ فكان العسل عنده قناطير في عام الإقبال، وقد أغنى كنائس البلاد عن شراء الشمع العسلي الأوروبي، وإن كان لم يتبرع لكنيسة بشمعة. وإذا سأله وكيل وقف ذلك، أجابه ساخرا: مساكين أولاد الوقف، ناموا أمس بلا عشا! وقفي أكبر من وقفك. ويشير إلى بطنه.
قلما سلم جار لقرياقوس من تعد وعداوة، فهو لا يعرف حده فيقف عنده، والخصومة مع قرياقوس أدت إلى خير إن كان ما ستعلمه خيرا. التجأ أحد ضاربيه إلى مدرسة إكليريكية هربا من السجن، فحمته المدرسة والثوب الإكليريكي في ذلك الزمان، فصار كاهنا، وهاجر ضارب آخر إلى أمريكا فأثرى، وعندما عاد من خطرته الأولى أهدى إلى قرياقوس موسى أميركانيا فقبله ... ثم شمر إلى الغد إلى بعبدا يطلب تنفيذ الحكم. ولكن الوقت كان قد فات، فالأحكام كالبارود يمسي بلا مفعول إذا طال عليه الزمن. •••
بيت قرياقوس شمالي الضيعة، في منبسط جعله قرياقوس جنة؛ كدس الحجارة في آخر عقاره، فقامت هناك رجمة عالية مشمخرة
15
على كتف النهر، كأنها برج داود، وإن كانت لا تتضرع لأجلنا ... وعلى جبهة تلك الرجمة كانت تقوم خيمة قرياقوس صيفا كأنها إحدى قلاع الدردنيل. فتن قرياقوس بصدى النهر والكهوف، فكان تارة «يهد على الزير»
16
بأعلى صوت تقذفه تلك الحنجرة، ثم يصطبر قليلا حتى ينقطع الصدى، فيتهلل ويضحك ضحكة صامتة، وأحيانا يتنخع ويتنخم ليسمع الصدى. وأبهج دقائق حياته حين يقف أمام خيمته منتصبا، حتى إذا عوت الثعالب صرخ بها: وريعو
17
فتصمت رهبة وخوفا ويتنعم قرياقوس برجع الصدى.
سواء عند قرياقوس، أغالبا عاد إلى بيته أم مغلوبا، فشعاره: الله يدبر، أنت تريد ربك ما يريد. وكثيرا ما كان يعود محكوما عليه، فينبطح على فراشه في الخيمة، ويهد على الزناتي خليفة، فكان ينكي بذلك خصومه ويمسي هو الغالب وهم المغلوبين.
يا سعدى أنا أكره «دياب» وذكره
كما تكره «الخالة» ولاد رجالها
بهذا البيت كان قرياقوس يمطمط ويعطعط
18
ويشد خاصة على لفظتي «دياب والخالة»، فتخرجان من فمه الواسع كالطحير والزحير لافتة السامع.
وعند قرياقوس سلاح نكاية الآخر، سلاح ظرباني،
19
جل شأنك، يطلقه عند نهاية كل بيت طلقات مترليوزية، فتضحك من تضحك، وتؤلم من تؤلم من الأعداء العاجزين عن الرد على قلعة قرياقوس بمثل مدافعها الضخمة العيار، المعدة القذائف دائما ... أقر وأعترف أنني عاجز عن تصوير قرياقوس، ولكن الحوادث التي ستقرأ تجلو لك ما غمض من شخصيته الفذة، فانتظرني أو فدعني إن كنت لا تصطبر.
إذا كنت تعلم أن عمرو بن معديكرب كان يأكل جديا، فقرياقوس كان يأكل تيسا ولا يحس أنه أكل. إنه يأكل بلا مقدار، فكان عنده مطحنة لا معدة. خاطروه مرة على وزنتي بطيخ، عشرة أرطال راجحة، فأكل ذلك. وخاطروه مرة على ثلاث إقات حلاوة، فأكلها وربح ما خاطروه عليه، وأكل مرة رطل حنكليس مع بضعة عشر رغيفا، وتحلى بعد هذه الوجبة بنحو أقة من العسل.
ومع كل ما عند قرياقوس من عسل كان يشتهي الحلو في كانون؛ لأنه لا يعف عن شيء، لم أر فمه غير متحرك، وأي فم فم قرياقوس! أدركته في مطلع شيخوخته، وقد سقطت أضراسه وأنيابه وأسنانه، وتجعد وجهه، فكنت إذا رأيته آكلا، تخالك أمام كير دهري؛ فهو ينهش ويلهث، فلا تسمع إلا فحيحا وغطيطا. وإذا دعاك إلى الطعام يومئ إليك إيماء؛ لأن فمه يظل محشوكا.
واشتهى قرياقوس أكلة حلو في بحر السنة الثانية من الحرب الأولى (سنة 14)، فجاء إلى صاحبه جناديوس يسأله أكلة تين يسند بها قلبه الهابط، كما عبر. أفزعت كلمة «الأكلة» عمي جناديوس؛ لأن قرياقوس يأكل رطل تين على الريق، فأطرق عمي كعادته في الخطوب الجليلة ... أما زوجة عمي وهي أسرع من السنونو إلى قول لا، فأجابت ساخطة: من أين التين يا قرياقوس؟! أمس أكلنا آخر نتفة.
20
فصاح قرياقوس، وهو يكاد ينشق من الغيظ: من عينيك، يقبر عيونك تينك ... قال هذا وانصرف مغاضبا.
وتدلى التين القزي كالأكواز الفيروزية، فشرع قرياقوس يصبح التينة ويمسيها، ويناديها متضرعا: عجلي يا مباركة، أنت خير من أوادم الضيعة ...
وانفرجت أزمة الحلو عند قرياقوس حين أقبل الصيف بتينه الأبيض، ومر يوما جناديوس عائدا من «شحواطا»
21
وعلى ظهره سل من تينها الذهبي المعسل، فدعاه قرياقوس وألح جدا ليطعمه قرص عسل «خورية»: يا جناديوس، مثل الشمس عند الغياب، الحبيس
22
يشتهيها.
عرج جناديوس فإذا به أمام معجن عسل فيه نحو عشرة أرطال، وإلى جانبه صينية - طبق - خبز، فلما صلب
23
جناديوس وتناول أول لقمة حتى قال له قرياقوس: كل يا جناديوس، رص يا ديك الحطب!
24
كل حتى تنفزر.
25
أم القاتل تنسى يا جناديوس ...
فلم جناديوس شباكه وانصرف، وشيعه قرياقوس بضحكة لولبية، وظل يقول له: ارجع كل. وجناديوس منهزم يلعن صباح قرياقوس، وقرياقوس يهد على الزير:
وما زال الحصان يشيل بسرجو
عرب جساس مني هاربينا
هذه إحدى قصصه مع عمي جناديوس، أما قصته معي فهي من لون آخر. كنت منذ الصغر - كما أنا اليوم - مولعا بالعصي والقضبان، وكنت أتردد على قرياقوس يغريني به شكله الغريب وحركاته، ويلذ لي حديثه. وكان قرياقوس أكولا كما عرفت، يحب كل شيء وخصوصا البيض المقلي مبردا باللبن مع ورق البصل، ولا دجاج عند قرياقوس؛ لأن غارات الثعالب على بيته المنفرد لا تنقطع.
جئته يوما وفي يدي قضيب زعرور محرق، فقال لي: هذا قضيب يا مارون؟ قضبان عمك قرياقوس قضبان ... في كل قضيب ألف نقطة ونقطة، ولا نقطة مثل نقطة.
قال هذا ومعوله يشق صدر الأرض شقا، فهيجني وأغراني، فتعلقت بذيل قميصه الخلفاني أترجاه وأستعطفه. فصرخ بي: ابعد، توق حالك، ثم انطلق عيار خفيف من قلعته المحروسة، فتراجعت مذعورا، فضحك والتفت إلي، وقال: قضيب من هذا الشكل يلزم لتنقيطه عشر بيضات، وقنينة زيت، وسماق ناعم مثل الكحل، وتين مطبوخ، وبصل وتوم، وعب تتن من تتنات بومارون، وكلما كثرت الأشكال، وتبحبحت الكمية، كان القضيب أحلى. فهمت يا عيني؟ - تسلم عينك. نعم فهمت.
وسرت في طريق البيت، وقرياقوس يناديني: خذه يبص مثل قشرة الحية. وجئته بما طلب فتغدى أحسن غداء، ثم مسد على بطنه، وقال لي: اغد علي خذ القضيب.
فعبست وأجهشت بالبكاء، ولكني خفت الفضيحة فتجلدت وحبست دمعتي، وحان موعد العشاء السري فلم تجد أمي بيضا لتعشينا، فاستعارت من عند الجيران وسكتت.
وكانت عينها علي في الصباح، فرأتني غاديا أهملج
26
في طريق بيت قرياقوس، فاستنطقني عند رجعتي من عنده فاعترفت، فأشرفت على قرياقوس وهو ينقب أرضه وصاحب به: القرود تاخدك يا قرياقوس! كبير قد الجمل، تضحك على ولد صغير؟ ليتك تشتهي البيض! اطلب حتى نعطيك. - أهلا وسهلا بأم مارون. يشهد علي ربي ما قصدي الضحك على الصبي. ضاعت ولقيناها يا أم مارون، ما صار شيء إلا صار مثله، يفرجها الله، العسل قريب. يا ويل الذي عنده وما عند جاره.
وعادت أمي تطبطب
27
وسترت هذه الهفوة علي، ونجوت من قتلة مشبعة، كما كان يتهددني أبي عند كل زلة، وما كان أكثر زلاتي.
لم يسترح قرياقوس في تلك الجنة التي أبدعها، فلج الخصام بينه وبين جاره فتضاربا، وتلت تلك المضاربة إشاعة قامت لها الضيعة، وقعدت: طرحت
28
أم فارس، طرحها قرياقوس.
وجاء الآغا على رأس فصيلته يهز الكرباج، يتهدد ويتوعد، سوف يعمل ويسوي ... وقرياقوس ساكت لا يزيد على قوله: الحق يحق ... الله موجود.
إذا سمعت كلام قرياقوس ظننته رجلا تقيا مفكرا، مع أنه لا يحس إلا الساعة التي هو فيها، كان قليل الاتصال بالناس، لا يؤاسي ولا يسلي ولا يتوجع، كما قال بشار. وعاقبوه على هذه القطيعة، فلم يدفنوا ابنه الذي مات جوعا في زمن الحرب، فاستأجر من دفنه ودفع الأربعة بشالك أجرة نقل ودفن، أما التابوت فلم يعد في الحساب، فتابوت الإنسان ثيابه إن كان بقي عليه ثياب.
وجرى استنطاق قرياقوس في جو مكهرب، فريق يسانده وفريق يضغط عليه، ولكنه كان رابط الجأش، لا يزيد على قوله جوابا على كل سؤال: ما عندي علم ولا خبر.
نصب له الآغا فخاخا فلم يقع فيها، فصاح الآغا محنقا: فلقتنا
29
يا قرياقوس، أنت ملاك، أنت قديس، الله يرزقني شفاعتك - وقرع صدره كالمتعبد - ثم قال: هذا تحقيق، هذا طق حنك!
فقال قرياقوس: يدك وما تعطيك يا آغا، هات كل ما عندك. لا تخل من جهدك، إياك تقصر ...
فانتفض الآغا، ورمى بالقلم، فكب المرملة وقلب الدواة، واستوى على قدميه صارخا: تتهددني يا قرياقوس! أنا ابن حكومة، تعارضني في مأموريتي؟! - مرحبا بك يا آغا. افتكر مثلما تريد. يا بحر ما يهزك ريح. الحبس للرجال يا فارس.
فصخب الآغا وعربد وكاد يخرج من ثيابه؛ ساءه ترك اللقب، أكثر مما ساءه الازدراء، فصاح: أنت رجل؟ أنت وحش دب! - الكرامة لثوبك يا فارس.
فأرغى الآغا وأزبد، ولوح بكرباجه، فقال قرياقوس: لا تعرض نفسك، إن مددت يدك أكسرها من الكوع.
وظل الآغا يتبختر ويتنمر منتظرا هبوب الزوبعة من الكيس.
وحاول أرسانيوس مختار القرية استعطاف الآغا، فصاح قرياقوس: اتركه يا أرسانيوس. بتدين
30
قريبة، وبعبدا أقرب، وجبيل على ضربة حجر. أنا سابقك لجبيل يا فارس.
فعوى الآغا كالذئب: كلب، كتفوه.
وجد الجد، فلعبت الفلوس دورها، فانفك كتاف قرياقوس لقاء خمسة عشر ريالا مجيديا قبضها الآغا نقدا.
وعاد وجنوده إلى جبيل بعدما وعد أخصام قرياقوس «بملحوظات» محلية، تحرق دين قرياقوس من تسع وتسعين جهة ... وتهتك حريمه، ولو شهد عليه واحد فقط أخذه مكتفا إلى جبيل، وربطه في ذنب الحصان، ولكن ...
كانت مقاومة قرياقوس في كل أزمة كمقاومة زهرة اللوز لعواصف شباط، تأخذ منها كل شيء إلا الجرثومة، لم يكن قرياقوس زهرة بل شوكة، لا يدري متى ترفع رأسها لتدمي.
أرضى الآغا الخصوم، أما قرياقوس فلم يرض. ها هو يبل وجهه ويديه بقليل من الماء، ويلبس ثياب «الشريعة»:
31
سكربينة صنع الزوق، وطربوشا مغربيا ذؤابته - شرابته - مائة درهم، مشدودة عليها «وربة» من الحرير الشامي، وصديرية مخمل مزررة يغلف بها ذلك الصدر البعيري، وفوقها كبران مفتك - مطرز - وزنار من الكشمير مقلم، وشروال صوف أسود مطرز على الفخذين والساقين بالبريم الحريري، خاطه قرياقوس يوم عرسه الأول.
32
وبينما كان يلبس ثياب «الشريعة» كانت زوجته تغسل السطل، وهو يحثها مناديا: عجلي يا أم يوسف، تحركي يا حرمة، ثم يخاطب نفسه بصوت مسموع: الهدية مفتاح الباب.
ثم يعود إلى مخاطبة زوجته: لا تنهمي يا مرين، أنا قرياقوس أنا! وحق القربان الطاهر، وحق مار روحانا إن بقي الآغا في جبيل أحش شواربي.
ومشى قرياقوس يهدف
33
كالجمل الهائج، وفي يمينه سطل العسل، وفي كتفه اليسرى يعلق جرابا فيه زاده. راقبه خصومه ليعرفوا كيف يتوجه، ولما اختفى عند الصليب تأكدوا أنه ذاهب إلى جبيل، وفيما هو يصعد في عقبة شامات
34
سأله رجل مجد في سيره: من هنا الطريق إلى عين كفاع؟ - نعم، خط مقوم، انظر، عين كفاع قبالتك، وجهك والدرب. قال له كل هذا وهو يفكر في مصيره، وما تقتضيه الدعوى.
وما ابتعد الرجل عنه مقدار رمية حجر حتى استوقفه قائلا: يا عم، من تقصد من عين كفاع؟ - الخوري يوسف مسرح. - بالبيت، حظك طيب.
وتوجه كل منهما في سبيله: قرياقوس يزحف ليبلغ جبيل مع الغروب، وتفتح له هديته الباب كما زعم، والرسول ليؤدي الرسالة في حينها. الرسول يغني العتابا والميجانا، وقرياقوس يشكو إلى نفسه خفة كيسه. لم يبق لديه غير ثلاثمائة قرش والموسم بعيد. الدعوى كبيرة، جناية يحتاج النفوذ في مضيقها إلى ألوف، ومن أين له الألوف؟ واشتدت عليه وطأة ذلك الحلم الواعي، فصاح: القرش الأبيض لليوم الأسود، بالمال ولا بالرجال، بيني وبينهم إسطنبول.
وتذكر الرجل الذي التقى به فصرخ: ها، ها. بان الفرج، وعن له في ذلك الوادي - وادي حبالين
35 - أن يهد علي الزير بما يناسب المقام، فصرخ:
ألا يا خال خليها على الله
ولا مستعجلا يبلغ مناه
اصبر يا قرياقوس، هذا مكتوب المطران بو نجم لخوري مسرح، يحرس دين لحيتك ولحيته يا خوري يوسف. شدوا يا كلاب العرب، أنا قرياقوس أنا! الليلة ننام عند يزبك القويق في جبيل، ثم خفض صوته وقال: وبكره نكون في «المنصف».
36
نتدين من الخواجه ملحم المال اللازم، خير كثير. غلة سنة توفي الدين.
ثم هرول لا يلوي على شيء، كأن أحدا يسوقه بسوط. •••
وقصد الآغا قلعة جبيل، مقر المدير؛ ليقص على عزتلو أفندم حضرتلري حكاية جناية عين كفاع. قصها بصيغة خطابية مفخمة، قال فيها «يا افندم» سبعين مرة وأكثر، والمدير صابر عليه. وأخيرا قال له بسخر لاذع: وأين قرياقوس؟!
فقال الآغا: مريض يا افندم، كفله أحد أوادم الضيعة وخلينا سبيله.
فهدر قرياقوس في مطبخ المدير، وهو يفرغ سطل العسل: بين الأيادي قرياقوس، يا سيضنا - يا سيدنا - صحتي مثل العجل. خراط
37
كبير الآغا يا بيك، الفلوس تعمل العجائب يا مولانا. برطلناه بخمسة عشر «ريال مجيدي» ...
وانجلت المعركة عن فصل الآغا إلى جونيه، وعودة قرياقوس إلى البيت بشفاعة سيادة المطران، وسعادة سطل العسل؛ وقديما قالوا: لله جنود من العسل.
الفصل الخامس
الشيطان لا يخرب وكره
- يا أمي، قرياقوس رجع. - بلا كذب يا بنت، سدي بوزك. - صدقيني، قلت لك. وحياة الله فقعت من الضحك، خوري مسرح يهاهي
1
في الحارة، وينط مثل الأولاد الصغار، وقرياقوس يعر
2
مثل الوحش، بذمتي ضحكته رطل. - أنت زنتيها يا مضروبة؟!
فزفر الأب زفرة، كأنها خرجت من كير حداد، وتمتم في كلمات فهمتها الأم، وقالت: على من الحق يا طنوس؟ من استهزأ بالرجال، برأس اللفت يقتل.
ليس أقدر من المرأة على إثارة الرجل، فكلمة منها تقيمه وتقعده؛ أطل طنوس من الباب فرأى قرياقوس عند بيته، يفتقد المفتاح في موضعه فلا يجده، فتسلق السلم ونادى زوجته من على السطح، فكان ذاك الخوار
3
صفارة إنذار للقرية؛ فجاءه بعضهم مهنئين بالعود الأحمد، أما طنوس فظل واقفا على عتبة بابه كأنه مسمر هناك، ابتسم ابتسامة صفراء ذابلة، وقال كأنه لا يعي ما يقول: يظهر أنه موفق، نبضه قوي.
وكركر قرياقوس من الضحك، وقال لطليعة زواره: أعطوني البشارة، استرحنا من فارس آغا، ظن الآغا قرياقوس لعقة عسل، ما درى أني حية برأسين، ضربتها ما لها دواء؛ مسكين الآغا، دعسنا رقبته.
فتناظر الحاضرون وكبر قرياقوس في عيونهم، صار في تلك الساعة يكنى ولا يسمى. هذا يقول: بو يوسف، وذاك عمي قرياقوس، ولولا الحياء ما بخلوا عليه بلقب الخواجه والشيخ، إن لم نقل بيك.
إن مناجاة قرياقوس مناداة، فكيف به وهو يريد أن يقع كلامه في أذن جاره، فهز طنوس برأسه وقال: أخبار غريبة عجيبة، فارس آغا صار في جونيه، وقرياقوس رجع! الحق مع المرأة، نحن تراخينا وقرياقوس اشتد.
وتمادى قرياقوس في الابتهار،
4
وتعالى الضحك، فانزوى طنوس في قرنة بيته، وهو يقول في نفسه: الدنيا مع الواقف، وأحس أن شيئا داخليا يحثه على الخروج، فتعشى وانصرف.
كان في تلك الليلة مجلسان عامران في القرية: مجلس في دار قرياقوس يخبر فيه بطلنا أخبارا أحلى من العسل، ويقص على مريديه كيف تحدث مع المدير بكل حرية، وكيف قلع الآغا مثل الفجلة، والناس يصغون إليه، كأنه يخبرهم عن أرخص الأسعار. ومجلس في بيت آخر، كان فيه خصوم قرياقوس، يفكرون كيف يرغمون أنف خصمهم بعد هذا الظفر، ظنوا أنه ساق نفسه إلى السجن فإذا به قد غلبهم، وفيما هم يقلبون القضية على جميع وجوهها؛ ليدركوا كنهها إذا بأحد من كانوا في بيت قرياقوس، يشرب نبيذه ويأكل تينه، يدخل عليهم فيضيء ظلمتهم بقوله: كل البلا والشر من خوري مسرح. عزلوا الآغا، ورجع قرياقوس مثل النمر.
فهمهموا جميعا، وكان صمت، وغير رسول الخير جلسته، فاقترب من قيدوم
5
الجماعة يوشوشه، فأخذ يومئ برأسه إيماءات متتابعة كالحرذون في يوم قيظ، وأخيرا صاح: مفهوم. وجر واو مفهوم جرا عنيفا، ثم قال محاولا الابتسام: لا يتعنتر قرياقوس إلا إذا كان كيسه ملآن.
فقال طنوس: صرحوا، المطمورة تكسر السكة.
6
فأجابه: صاحبك قرياقوس تدين من ملحم المنصف أربعين ليرة إنكليزية، فانتخى طنوس وقال: وأنا أتدين ثمانين، لا أسف على ملكي كله. قرياقوس يغلبني؟ وقام إلى المكاتيب الموجهة إلى مراجع عديدة يتوسطها في قضيته.
كان مع الصبح في «الكرسي»
7
ينتظر خروج المطران من قداسه، وعاد من لدنه برسالة إلى المدير ضد الأولى، يطلب فيها بإلحاح قصاص قرياقوس وتأديبه، فزعم المدير أنه رفع «الجرنال» إلى سعادة القائمقام ، فقرعوا بأيد أخرى باب سعادته، فأحالهم على المستنطق الذي مناهم،
8
وجعل موعد الجلسة قريبا جدا. لم تفتر همتهم عن استعداء ذوي النفوذ على قرياقوس، وظل قرياقوس يتفرس
9
ويبتهر؛ فيحثهم بذلك على طبخ أحمض ما عندهم ليضربوه ضربة تكسر شوكته.
لم يشغل حريق موسكو بال نابليون، ولا معركة ستالينغراد بال هتلر، كما شغلت القرية هذه الحادثة، وظلوا كذلك أياما حتى أطل على القرية وجه جديد، أونباشي غير فارس آغا، يحمل «مذكرات جلب» بالعشرات، فوجم الناس.
المدعوون لزيارة جونيه ثلاثون نفسا، كل من سمع وحضر دعي إلى الشهادة، ومن لم يلب دعوة مذكرات الجلب أجاب غصبا عنه دعوة مذكرات الإحضار ... ينفق مما رزقه الله، إن لم يتكرم عليه من سماه شاهدا بغداء أو أجرة مركوب. كذلك كانت شريعة ذلك الزمان، فصارت الشهادة وسيلة للتشفي ... وأخفتت هذه الدعوة جدال الأهلين فسبوا
10
المتخاصمين، وانتظروا الموعد عازمين على القول: «لا علم ولا خبر.» ليخلصوا من ضر هذه الدعوى بداية واستئنافا. •••
كان قرياقوس مع الفجر ينطق بلسان المهدة والمخل والعتلة، يفلق هام الصخور حاسبا أنه يقتل أعداءه، فكلما ضرب ضربة أتبعها بهذا الصوت: حه. لم تحط الدعوى من همته، فهو يجدد ويحسن ملكه كل ساعة؛ فارقه شيء من ذلك المرح وملاقاة الدهر بلا اكتراث. كان يضحك ولكن ضحكة غير فاقعة، ينقض على الأرض فيجعل عاليها سافلها، ولكن من عرفه قديما يعلم أن هناك شيئا يشغل باله، وإن كان قرياقوس لا يعلم بتغير حاله.
ليس الفلاح كالتاجر؛ الفلاح يخاف من الدين خوفه من الطاعون، والمثل عنده: الدين جرب، ومن تزوج بالدين باع أولاده بالفائدة. ولا عجب إن خاف، فهو أسير الأنواء؛ ولذلك يسمي المطر رحمة وغيثا. إذا جاءه الري في حينه تباشر، وقال: شتوة كلها ذهب. يعتمد على الطبيعة التي يسميها الله، وإذا انحبس المطر أمسى كل بيت كنيسة. صلوات تتصاعد من كل نافذة ذاهبة إلى العلي عملا بالآية: «إذا كان فيكم إيمان قدر حبة خردل ...» علام يعتمد الفلاح اللبناني؟ إذا برد الربيع ازرقت دودة القز الذهبية وقيحت، وضاعت آماله. إن موسم الحرير خليق بأن يسمى عنده «ممزق الدفاتر» يستلف ويقترض والموعد حزيران، فإذا محل موسمه ركبه الدين وبات مكثورا عليه.
كان قرياقوس يشتغل ويفكر بأشياء شتى: يفكر بأول سند أمضاه، أيستطيع أن يمزق الكمبيالة، أم يتبع الدين بالدين؟ تلك أول مرة استدان بها، فهو يحدثك وخوف الدين مستول عليه، يعمل وشبح الفائدة يرعبه. وعلى خلو باله كان هذا السند يزعجه من حيث لا يدري، فخفت أغانيه بعد إمضاء السند، وقل تهديده للثعالب وتلذذه برجع صدى صوته، ولكن ما الحيلة؟ وقع الرجل في شراك لا يخلصه منها إلا إقبال موسم القز والعسل؛ فهو يسهر على التوتة لينمو ورقها، وعلى خلية النحل يكش عنها الزنابير، ينظر إلى السماء ويقول كأنه يحدث رجلا آخر: سنة خير إن شاء الله، السما زرقا مثل النيل. وكثيرا ما كان يحسب ما عليه فيرى المواسم كفيلة بالتسديد، فيقول بلا وعي: ما أحلى ما يدبر الله! ربك كريم. ثم ينهض آخذا المعول مرددا: اطعمها تطعمك، حتى إذا أعيا تمشى بين خلايا النحل المنتشرة.
إذا طارت نحلة ضحك لها قائلا: روحي، طيري يا مباركة، كل الدنيا لك. وإذا تذكر أنه اقترض من جناديوس بضع ليرات وريالات قطب وجهه؛ لأن موسمه لا يفي الدين كله وينفق عليه. ويتذكر أن دين جناديوس بلا فائدة؛ فتنقشع تلك الغمامة، ويقول بابتسام: دين صاحبنا اجناديوس لا يرعى، صائم مثل النصارى اليوم. ويرى خلية تبشر بخير جزيل، فبيش لها، ويخاطبها بلهجة عذبة ما ظفر بها منه ابنه الوحيد، ولا زوجته ليلة الإكليل. يربت على ظهر الجرة ويناديها: الهمة همتك يا مباركة، خلصيني من ملحم ودينه. ويقف قليلا مرحبا بالعائدات ومتمنيا الرجوع بالسلامة للصادرات، حتى إذا رأى زنبورا سب دينه واستقبله بالمنشة، وما منشته إلا مكنسة عتيقة من سعف النخل، لا يدعها حين يزور النحل زيارة رعائية ...
ساورت قرياقوس فكرة الدين بادي بدء، ثم أخذ يتناساها شيئا فشيئا. كان يزحزحها «موعد الجلسة» ليحل محلها، وقبل ثلاثة أربعة أيام نسي أنه مديون، وجعل وكده كله في اليوم الثاني والعشرين من آذار.
وفي ضحى اليوم العشرين شق قرياقوس صدر صخر عنيد بالسفين، فسره النصر المبين. وراح يتفرج بين خلايا النحل، ويا لهول ما رأى! رأى الخلية التي يسميها «الأميرة» خاوية خالية. لم يبق في قصر الأميرة إلا عشرات لا تدن ولا تتحرك إلا بالجهد الجهيد؛ فاستولت عليه كآبة سوداء. الخسارة محدودة، بضعة أرطال من العسل، ولكن غاظ قرياقوس ذلك المنظر، فانثنى عنه بقلب يشعر بانقباض عظيم ما شعر بمثله قط في حياته. تساءل عن السبب فلم يدركه ... إلا أن رؤية قصر الأميرة خاليا من السكان، هاجت في أعماق نفسه شجونا، فقال: تف! ما أبشع خراب البيوت!
وكان في تلك الدقيقة أمام بيته راهب شيخ ج. ر. يوصوص
11
من ثقب الباب، فلا تقع عينه إلا على ظلمة. هزهز قفله الخشبي فلم ينفتح، والتفت فإذا بابنة مراهقة تراقبه من عل، فسألها: هذا بيت قرياقوس؟ - وصلت. - وأين أصحاب البيت؟
فأومأت بيدها، فاتجه القس إلى حيث أشارت، وهو يقول في سره: هذي من حزب أفلو ...
12
ومشى نحو قرياقوس، وهو يأمل خيرا كبيرا. أليست النوايا حسنة؟ إذن فليجرب. إن إرشاد قرياقوس إلى طرق الحق أمر لازم، وتقويم اعوجاج فلسفته الخاصة شيء ضروري، والمصالحة لا بد منها.
واستيقظ قرياقوس من حلم اليقظة المزعج؛ إذ رأى الراهب واقفا حده، فصاح وقد نسي هول الخراب: بارخ مور آبون.
13
أهلا وسهلا. ودق كفا بكف، وصفق براحتيه مرارا على فخذيه، ليزيل الغبار عن شرواله، ثم تقدم فقبل يد الزائر قائلا: كيف حال قدسك
14
يا محترم؟ تفضل.
ومشيا، فلم يتمالك الراهب من إظهار إعجابه بكد قرياقوس، فقال: بعرق جبينك تأكل خبزك. الله يهنيك يا قرياقوس، ويكون معك. - أنا مرباكم يا محترم، تعلمت الشغل عندكم، عند الرهبان في حنوش.
فتنهد القس، وقال: يا حسرتي عالرهبان، الذين علموك راحوا يا قرياقوس، راحوا ما بقي منهم أحد. خربت الديورة. الريس العام أبونا مرقص ابن ضيعتكم، كان يفلح ويزرع ويلبس المداس
15
هو اقتنى ونحن بعنا يا ابني. الرهبان قعدوا على الطراحة. آه، الله يعافيك يا ابني ويكون معك. - بدعاك يا محترم، بدعاك. - بدعا الصالحين.
وفتح قرياقوس باب بيته وتنحى ليدخل القس، وبسط له طراحة خلفها مسند من قش على بلاس ورثه من أبيه، وقرفص قرياقوس قبالته، فقال الراهب: تزوجت ثاني مرة يا قرياقوس؟! - نعم يا محترم، ترملت شهرين حسبتهم دهرين، البيت بلا مرة مثل جرة نحل بلا ملكة. - النحل فيه ملوك؟ - معلوم يا محترم وفيه بابا ... ملكة النحل لا تعمل شيئا، عندها عمال تشتغل. - يا سبحان الله! - أيوه، النحل غريب عجيب يا معلمي، جرة النحل مثل الدير تماما: فيه ريس وأقنوم،
16
ووكيل، وريس حقلة،
17
وإخوة تفلح وتزرع. عمال رائحة، وعمال تجي، والملكة قاعدة على سكين ظهرها.
18 - سبحان الله في ملكه! - لها سلطة مثل الملكة، إذا تركت الجرأة لحقها النحل كله «بالقايم يا دايم».
19
فصاح الراهب: يا سبحان الله، صحيح أنه لا سلطة إلا من الله!
أما قرياقوس فقال: والمرأة في البيت مثل ملكة النحل، الفرق بين الثنتين أن المرة تشتغل ولا تتكل على أحد. والبيت من دون مرة مثل جرة النحل المهجورة، تدخل الزنابير وتخرج ومعها العسل وما من يردها ...
فقال الراهب: قالوا بنت عمك صارت مثل الغنمة القرعاء.
20 - نعم وأكثر ... قشرت لها العصا من أول يوم، العصا علمت الدب يرقص، لا تتشفع للمرة إلا بمار سنديان.
21
فهمت؟ يعني العصا، ودل الراهب عليها، ثم قال: الفرس من ورا خيالها.
فقال القسيس: قالوا لي ...
فقاطعه قرياقوس قائلا: لا قالوا لك ولا قلت لهم. اسمع، يجيئك الخبر، وقعت عيني عليها على «عين فرعيا»
22
فأعجبتني. خوفوني منها، فقلت لهم: أنا أدبرها. بعد الإكليل بيومين قعدنا حول الموقدة - وضرب بيده على حرفها - سألتني عن البكرة والمرسة المعلقة بها - وأشار إليها - وبعد قليل كانت معلقة فوق؛ صرخت، فقلت لها: اسمعي يا مرين، أنا قرياقوس. إياك أن تكبري رأسك، هكذا كنت أعمل ببديلتك
23 ... يا محترم الضربة لمن سبق.
وبعد أن أثنى قرياقوس على زوجته الأولى، وامتدح الثانية التي ثقفها بشفاعة البكرة ومار سنديان، قال للراهب متذمرا: ولكني غير موفق بأولادي؛ ابني رخو، رخو. تعلم خمس سنين وما عرف الألف من المئذنة، ولكنه فيلسوف في الحكي يا محترم.
واستراح قرياقوس هنيهة، ثم تطلع واستضحك، وقال: سمعت أن الصعتر
24
يفتح الذهن، فقلت له: كل منه وكثر يا يوسف. عرفت كيف كان جوابه؟ اسمع واضحك:
قال: لو كان الصعتر يفتح الذهن كانت دابتنا صارت - ملفانة - أي دكتورة في اللاهوت.
وتفرس قرياقوس بوجه محدثه ليرى تأثير كلامه فرآه يضحك، فقال: نكتة ثانية. لا يقوم من فراشه حتى يحمى النهار، فقلت له: اغد يا ابني تلاق الخير. غدا فلان فلقي صرة فيها أكثر من عشرين ليرة. احزر ماذا كان جوابه؟
ضحك المنحوس، وتمغط، وقال من تحت اللحاف: الذي ضيعها بكر أكثر منه.
وهم الراهب بالاستيلاء على «المبادرة»، فإذا بأم يوسف تدخل حاملة جرتها، فقال قرياقوس متابعا حديثه الأول: لا بنتك ولا أختك ولا كنتك، حرمتك وحدها. البيت بلا مرة مثل جرة نحل بلا ملكة، لا عسل ولا شمع ولا بطيخ أصفر.
وقطع الحديث سلام أم يوسف على المحترم، فقال قرياقوس: يه، يه، يه. كيف نسينا؟ لا تؤاخذني يا معلمي، غرقنا في الحديث. تفضل اعمل سيكارة، تتنات عال. يا أم يوسف، هاتي قدح نبيذ، هاتي صحن تين مطبع وزبيب، هاتي الموجود.
فقال الراهب: اليوم صيام يا قرياقوس. - عمرك طويل، أنا ناس، أقول لك الحقيقة ما صمت أبدا في حياتي، أبصر الأكل في نومي. وإذا تأخر علي ربع ساعة أخور
25
وأقع. أحبك يا رب قوتي.
وتذكر الراهب قول بعضهم له إن قرياقوس لا يصلي ولا يصوم ولا «يقطع»
26
ولا يسمع القداس؛ فانتهز الفرصة وقال: والصلاة يا قرياقوس؟ - وكثرة الصلاة ضد عقلي، تصور أنك تقول لإنسان مائة صباح الخير في اليوم، وتطلب منه كل ساعة غداك وفطورك وعشاك، هذا ثقل دم؛ أعتقد أنه يضيق خلقه مهما كان طويل البال ... - أنت غلطان يا ابني، الإنجيل الطاهر يقول: «صلوا ولا تملوا. وما تطلبوه بالصلاة تنالوه.» الله أصدق مني ومنك. ما قولك في ولد لا يصبح والده ولا يمسيه! هذه حالة من لا يصلي. صل يا ابني صل ... - أنا ما قلت لا أصلي أبدا.
ورفع الراهب بصره، فرأى صورة معلقة في الحائط فسأل: صورة من هذه؟
فضحك قرياقوس، وقال: صورة الزناتي خليفة! هذه صورة مار جرجس. هذا قديس عظيم. بطل صنديد، ولو ما كان أعظم قديس الإنكليز ما صوروه على ليرتهم. الخضر راعي الحصان ... فليحيى. خلصني من ألف تهلكة.
وكان في ظاهر يد قرياقوس وشم على صورة خيال، يقول إنه مار جرجس، فأراه إياه؛ فتبسم ذلك الشيخ اليابس فبانت أسنانه، كأنها تبدو من خلال فروة بيضاء مشقوقة. ثم تنهد إذ علم أنه يحدث رجلا يتحدث عن قديس الله كما يتحدث عن النمر والأسد، ويحترم سيف مار جرجس وحصانه ورمحه وسيفه وخوذته، لا فضائله.
قال قرياقوس: يا ويل الإنسان إذا خلا عبه من عشرين مار جرجس ...
وغالت يوسفية - بنت قرياقوس - في الضجيج والخشخشة فزجرها أبوها، وهش لها الراهب وبش، ولكن بشاشته ضاعت في غابة لحيته الغبياء،
27
فاستغربته الصغيرة؛ لأنها لم تر من قبل لحية في كثافة تلك اللحية. ودعاها أبوها لتقبيل يده، فمشت القهقرى وبكت، فنادى أمها لتسترضيها، وأمرها بإعداد الغداء، بقوله: المحترم يفطر عندنا. - متشكر يا ابني، ما جئت لعين كفاع حتى آكل وأشرب، المهم فض المشكلة، وحفظ البيوت من الخراب. فأجاب قرياقوس بكل بساطة: تفض المشكلة وتأكل وتشرب، فاعل النحس يستحق مؤنته، وأنت يا محترم نسمة خير. - أستغفر الله يا ابني. نحن لا يهون علينا خراب بيوت أقاربنا وجيراننا. أتأمل ...
فقاطعه قرياقوس قائلا: يا محترم، أنا في يدك مثل الخاتم في الخنصر، ولكن لا تعذب نفسك؛ التفاحة البالغة تسقط من تلقاء نفسها، وإن كانت فجة لا تسقط ولو ضربتها بالجسر. هز المشمشة الفجة تعب بلا فائدة. - لا تخيبني يا قرياقوس. - هيهي يا معلمي! ما فهمت قصدي، أنت مفوض مطلق، اعمل مثلما تريد. - الحادثة بسيطة يا قرياقوس، لا دم ولا قتلى ولا مجاريح، حلها هين. - في نظرك أنت حادثة طفيفة، وفي نظرهم انكسر مخ الباشا. دعوى زور بزور يا محترم، خف ربك. لنفرض أنها أرنبة، الأرنبة لا تحبل وتطرح وعمر ابنها أربعة أشهر. قلة دين يا محترم، ما لها حد ولا طرف، وحياة قدسك، وحق نور الشمس - ثم انفتل ومد يده صوب صورة مار جرجس - وقال: وحياة رأس حصانك يا مار جرجس، إن كنت أنا طرحتها يبسني واحرق دين جدي.
وامتعض الراهب، فقال قرياقوس بعد أن جلس: لا تؤاخذني يا معلمي، زلق
28
لساني قدامك، كفرت يا محترم، كفرت. والله، ثم والله، ثم والله، ما نظرتها عيني أبدا، لا أولا ولا آخرا. كان قرياقوس نزيل في عين كفاع، وبعد هذا كله، إذا قلت لي: اطلع من بيتك، أقول لك: تفضل هذا المفتاح.
ودخل رجل يستعير حبل قرياقوس ومنجله فدله عليهما، وقال الراهب: ما هو مطلوبك يا قرياقوس؟ فقهقه قرياقوس، وقال: أنا؟ مطلوبي مطلوب البقر! قالوا للبقر: متى متم نكفنكم بحرير. قالوا: خلوا جلودنا علينا. اعمل الموافق وأنا طوع إرادتك. لا يحاولوا كعم
29
قرياقوس. ما دام في عرق ينبض، لا أرجع إلى الوراء. أكون خارجا عن دين المسيح إن كنت أكذب عليك. أخذوا خنزيرة البير،
30
فتشنا الدنيا وطفنا الأرض، وأخيرا لقيناها مرمية بالبير. ما قولك؟ هذا عمل يا محترم؟ لو خبرتك كل فصولهم معي، شاب شعر رأسك.
فضحك الراهب وفطن قرياقوس، فقال: كلمة تقال. يا أم يوسف أين صرت؟
فأجابت: حط الطبلية،
31
فنهض قرياقوس يعاون زوجته على إعداد الغداء، ودق جرس الظهر فركع الراهب يبشر،
32
وقد يكون أول رجل ركع للصلاة في ذاك البيت. •••
وبعد الغداء قال الراهب لقرياقوس وهو يتحلحل: إذن أنت راض؟ - وفوق الرضا رضا.
وقبل أن يخرج الراهب جاءت أم يوسف بالإبريق فصلى الراهب عليه، ثم نفخ فيه وصب منه على كفه ورش في البيت يمينا وشمالا، وشيعه قرياقوس حتى الطريق العام مستمدا بركته داعيا له بالتوفيق.
وعاد قرياقوس إلى مصارعة الصخور، وعند الغروب فك كمره، وعد الذهبات التي فيه؛ فتمتع برؤية مار جرجس أكثر من ثلاثين مرة، فاطمأن.
استيقظ في الغد مزعجا. أبصر في نومه أنه رجع شرخا،
33
يتصيد السراطين في حنوش، وبينما كان ينتقل على الصخور البحرية المنخربة
34
إذا بالبحر قد كبر وعلت أمامه موجة، ثم ارتفعت وارتفعت حتى وازت صدر جبل المسيلحة.
35
جرف تيارها قرياقوس فضاع في مطاويه، وهاجمه في ثناياها حوت هم بابتلاعه فجذبه المد عنه، وجرف الجزر قرياقوس فتعلق بالصخرة التي كان عليها أولا ونجا، ولكنه ضيع ثيابه ولم يجدها.
قص هذا الحلم على القس إلياس في دير معاد، فسأله هذا عن ساعة الحلم وعن عشائه تلك الليلة، وعن معدته وبماذا كان يهجس في اليوم السابق، وإذا كان نام بلا صلاة ولا صليب ... إلخ، ولما رأى أن الحلم جدير بالتعبير قال له: تقع في مصيبة كبيرة، وتخلص منها بإذن الله.
فخال قرياقوس أنه يقصد جلسة الغد، فضرب بيده على الكمر، وقال: بشفاعة مار جرجس، نخلص. أمش على ما قدر الله.
قال هذا وودع ومشى إلى جونيه
36
في ذلك الجو المتعكر، فما أن اقترب من كنيسة «الأربعين شهيدا»
37
حتى انصبت شآبيب
38
آذار تارة بردا، وطورا مطرا، ورأى معازا يعرفه كان يتذرى
39
بصخرة، فحياه مسرعا إلى الكنيسة المهجورة ولطا فيها. وبعد قليل أبرقت السماء وأرعدت، ثم تتالت البروق والرعود، واشتد غضب السماء؛ فهرع المعاز إلى الكنيسة، وقبل أن يبلغها خطف البرق بصره وانقضت الصاعقة، وما انتهى المعاز من رسم الصليب والتلفظ بالدعاء المألوف: قدوس، قدوس، قدوس،
40
حتى رأى قرياقوس مبطوحا في صحن الكنيسة لا حراك فيه، فهرع إلى رأس الجبل المطل على عين كفاع، يدعو أهاليها إلى أخذ ميتهم المأسوف عليه ... فجاءوا جميعا وتلك عادتهم في الملمات. المصيبة تمحو الأحقاد والضغائن مهما كانت جسيمة، وكان خصمه في طليعة السائرين به. مشوا وهيبة تلك الفاجعة تعقد ألسنتهم، لا ينطق إلا ذووه الأقربون ببعض عبارات مألوفة، وزوجته تناديه بكلام العاجز الذي فقد سنده ... وما من مجيب.
ولما بلغوا سنديانة كنيسة مار روحانا
41
وضعوا المحمل تحتها ليستريحوا هنيهة، فإذا بقرياقوس يتحرك ويقعد؛ فبهت من بهت، وارفض
42
عنه من ارفض، وهرب من هرب.
وكان كاهن شيخ قادما للمشاركة في العزاء والدعاء للفقيد برحلة ميمونة وسفر سعيد ... فقال له أحد القافلين
43
من الموكب: قرياقوس عاش.
فأجاب الخوري بملء فيه: الشيطان لا يخرب وكره. وقفل راجعا.
الفصل السادس
بين الطبيب والكاهن
هو ذا قرياقوس المصعوق
1
منبطحا على فراشه، في زاوية بيته الشمالية، كأنه الجاموس، والقرية بأمها وأبيها، محشورة
2
في ذلك الوكر؛ جاءت لترى الجبار، وقد أصابه رشاش من الصاعقة، فاستدار كقرد جرير.
3
سمى العرب أحدهم مضرط
4
الحجارة، فماذا ترانا نسمي نحن بطل «الصيران»
5
وقد شقق الصخور تلك البقيعة وفتتها، وقال لها: كوني جنة، فإذا هي كالتي وعد بها المتقون، فيها من كل فاكهة أزواج.
شرارة سماوية تكاد لا تدرك فتت في عضده، وفككت سلسلة عزيمته الفولاذية، وألقته كومة في فراشه؛ تارة يرتجف كوريقة صفراء يداعبها نسيم الخريف ولا تدري متى تطيح، وأحيانا يهمد، فيقال: فارق. يغمض عينيه فتخاله أسلم الروح، ثم يحملق فتحسبه بالعا شيئا، وقد وقف في مجرى تلك الأسطوانة. صبغته النازلة فزكت لونه وأسكتت حنجرته الصاخبة، فما تبين بحرف. الناس واجمون حوله، من وقوف خلف الزحام وخنس،
6
أعينهم جميعا عالقة بمشهد مفزع. مشهد تمثل له الأتقياء بقول النبي داود: «تأديبا أدبني الرب وإلى الموت لم يسلمني.»
أما الشامتون، فكانوا يقولون فيما بينهم: الله طويل الروح، شديد العقاب. أما الكلمة المشهورة التي تدور على كل لسان في مثل هذه الحال: «الله يجرب خائفيه.» فما خطرت على بال أحد ...
إذا احتدمت نوبة الألم، تعالى صراخ ذلك الجسم الممسوس
7
بقضيب غضب الطبيعة، وأجفل الناس وانداحت الدائرة حوله، ثم يسكت، فيعلو لغط
8
الناس، وتختلط الأصوات، فتخال ذلك البيت سوق الخضر في مطلع النهار. هنا عجوز تقرع صدرها قرعا دقيقا معجلا، وتسر إلى أقرب النساء إليها: يا عضرا نجينا، ما أبشعها آخرة! وهناك كاعب
9
ترتجف، وتغطي وجهها إذ يعج
10
قرياقوس ويخور.
وكان مؤتمر طبي فأشار فريق بالكي، وأثنى آخرون على العلق،
11
ورأى بعضهم أن يدعى الطبيب، وألح بعضهم الآخر في طلب الخوري ليصلي على ذلك البيت «المسكون»،
12
فيطرد الأبالسة التي جمعها «المغاربة»،
13
وعجزوا عن طردها، فاستوطنت ذلك البيت وعششت فيه وفرخت.
أما زوجة الرجل، فكانت بينهم وكأنها ليست منهم، سادرة كأنه لا يعنيها شيء من ذلك المشهد. ترى زوجها يتقلص ويتمدد كأم أربع وأربعين متى أدنيت منها النار، وهي لا تدري مع أية صرخة تذهب روحه. إنها أول ساعة ترى فيها الناس ببيتها، وكأنه وكر نمل. هذا يدق رأسه بالغربال المعلق في الوتد، وتلك بالمنخل، وهذه ببرنية الدهن، وتلك تعثر بالمعجن، وهاتيك يصطدم رأسها بقطرميز العسل فيترجح ... حتى إن أحدهم أسقط الرف؛ فتكسرت بضعة صحون ودورق
14
قرياقوس المشهور.
كل ما في بيت الفلاح اللباني من ماعون
15
يقع تحت نظرك؛ ففي الجدران أوتاد وطاقات وخزائن تعي أشياءه ومعداته، من المعول والفأس، إلى القدوم والإزميل، والمنجل والمنشار. وفي بيوت كثيرة تجد التبان وأطباق القز
16
والنول ودولاب السدى
17
والمسلكة
18
والمغازل.
19
أما قرياقوس فليس في بيته شيء من هذه الأشياء الأخيرة، فما تقوم به البقر يعمله هو، والنحل يحوك له ويغزل، ورب ساع لقاعد. كانت تسوء حالته كلما تقدم الليل فتشتد أوجاعه، ويتعالى شخيره ونخيره؛ فتخاله ينازع ثم تزول تلك الحالة، فتحل محلها أخرى أشد وأكرب، وأخيرا أعيت زوجته، فهبطت وتكومت عند قدميه، حائرة كأنها في دنيا غير الدنيا، تسمع ولا تعي. تخالها مصغية إلى المتحدثين، وهي لا تدرك شخوصهم. حتى إذا تصورت زوجها يموت، انتفضت انتفاضة العصفور بلله القطر، وتنبهت لحظة لتعود إلى بحرانها.
وانتظرت مدة كما قالوا لها، وإذ لم ينطفئ السراج عادت وولدها راجية أن تبلغ البيت وترى زوجها أحسن حالا، فإذا بآلامه وأوجاعه تزداد وتشتد.
ودعي الخوري فلبى. صلى بحرارة، وبارك بشدة، ونضح المريض وزوايا بيته الأربع بالماء المبارك، لم يدع مكانا حتى أمطره وابلا، وانتظر حلول البركة على البيت وساكنيه، فما ازدادت الحالة إلا سوءا، فعاد من حيث جاء وهو يقول لشماسه: وأيش تعمل صلاتك يا خوري في عش المغاربة
20
ووكر الشياطين؟ إن بخور مغارة دانيال
21
غلب بخور الكنيسة.
فصاح الشماس: آمين. فضحك الخوري وقال: أيش قلت يا سمعان؟
قلت : آمين. حسبتك تصلي يا معلمي. •••
ليلة سوداء ما مر مثلها على رأس أم يوسف، رأتها أطول من الصوم كله، بل من العمر. النذر لم يقبل وصلاة الخوري ما نفعت. لا شبه أمل إلا بالسراج ... وخفت إلى الهيكل لترى إذا كان انطفأ، فرأت لسان لهبه يلعب ويتراقص على حيطان الكنيسة، فعادت مستبشرة؛ لأن الله قبل نذرها.
وأخيرا نعس الناس وملوا المشهد؛ فانسلوا واحدا خلف واحد، إلا ابن أخي زوجها. وهومت
22
أم يوسف فحنت رأسها ضاربة صدرها بذقنها. أبصرت في نومها أن زوجها يعود إلى حنوش، وهي وولداه يوسف ويوسفية يسيرون وراءه في طريق قلق المجاز. طريق كأنها فوق «شير العاصي»
23
ولكنها ليست هي، وإذا بها تهوي من ذلك العلو الشاهق، فتتذكر مصرع سليمان كنعان، والعهد به قريب.
واستيقظت مذعورة فإذا بامرأة نصف
24
جالسة حدها، تهزها لتوقظها، وتقول لها: تصبري واعتبري يا مرينة، الله يطول لنا الحبل، ولكنه أخيرا يضرب بقساوة. من قال لك يا أختي إن الله راعي بقر؟ لا تصدقي. ربنا يحاسب على كل شيء. متى صلى زوجت ومتى صام؟ قولي لي متى انقطع يوما واحدا عن الزفر في الصوم كله؟ لا فرق عنده بين الجمعة والخميس. أحلف وضميري مرتاح - ومدت صوتها بالألف مدا طويلا - أني ما نظرتك عيني راكعا يا قرياقوس، يقعد في الكنيسة مثلما يقعد في «الصيران».
25
هل بشر
26
مرة في حياته؟ يدق جرس الكنيسة، وكأنه جرس المعزى، لا يحس قرياقوس ولا يطس! كل الناس تكشف رأسها وتركع وتبشر في الحقول، وابن عمك يتمالغ
27
ويضحك. حديثه كله أكل هوا. أكل وشرب وض... وهد على الزير. هذي ضربة من الله يا أم يوسف. انذري لمار روحانا يتحنن عليك. الدورة عليك وحدك يا مستورة. خذي حذرك يا بنت الحلال.
فنهضت أم يوسف وأيقظت ابنها الأشل، فقعد يتمطى بدون وعي، ثم ارتمى على مخدته. فأسرعت إليه تلك الهركولة
28
الواعظة، وجذبت اللحاف عنه بعنف وصاحت به: قم يا كلب. قم اسهر مع أمك. أبوك مضروب على قلبه، وأنت منبطح على فراشك مثل عدل التبن
29 ... قم يا كديش، ما أبشع قرياقوس وخلائفه! تقبر ذقن والدك.
فانخنس
30
يوسف هنيهة، ثم تحامل على نفسه متأففا، وتناول القنديل المضاء وقارورة الزيت، وسراجا خزفيا، بينما كانت أمه تشيل فسطانها المخملي الأحمر من صندوقها، هو فسطان العرس نذرته لشفيع القرية.
وركعت في صحن الكنيسة تصلي سائلة مار روحانا شفاء زوجها، وبعد صلاة قصيرة أضاءت السراج الخزفي، ووضعت قربة قارورة الزيت.
وأخيرا دعي الطبيب ...
مع الشمس دخل لطف الله بيت قرياقوس، من الباب الشرقي. لا حيا الله ولا سلم، أخرج ساعته «الليبية»
31
من زناره، وقال مشيرا إلى ساعته المفتوحة: تصوري يا مرين، بعشر دقائق وصلت من معاد إلى عين كفاع،
32
ثم فتح طبقتها الثانية، وأخذ يدورها بمفتاحها وهو يلهث.
حكيمنا البلدي أشقر البشرة، أنمش.
33
طويل القامة، صغير الرأس، متهدل
34
الشاربين الأشقرين، يلبس غنبازا من الحرير المصبوغ، ويؤثر دائما اللون الأسود ليشهد به عند الاضطرار مأتم من يطببهم، ويمشي خلفهم مشية ثعلب لافونتين
35 ... إذا حل ببيت فهو لا يفارقه ما لم يفارقه المريض. لا يلتجئ إلى صيدلي، فهو الطبيب والصيدلي، وقد ذكر لي أنه قام مقام الخوري أكثر من مرة ...
وفي ثنايا زناره الكشميري أسبيرين وكينا ومسهلات، من أي نوع شئت، ونباتات يلمها من هنا وهناك، «ويعمدها» مسميا إياها أسماء طبية، كما وردت في «الأقرابذين»،
36
وحفظها عن ظهر قلبه، وكثيرا ما يحدثك عنها ببراعة؛ فتخال أنك بحضرة أبقراط وجالينوس والشيخ ابن سينا.
الدكتور لطف الله حاضر البديهة، يسمي لك ورقة قراص وخبيزة
37
باسم طويل ينتهي غالبا بالسين أو النون تكبيرا لفهمه، وتعظيما لعلمه، أما جيوب قبائه
38 - وهو يلبس قباء حقا - المهدلة، ففيها كتب خطية ورثها عن جده ... وفي أكياسه الداخلية آلات الجراحة: كسكين رقيق الشفرتين، يفصد به ويشطب، وميزان حرارة عتيق زئبقه مقطع، ومسمار صنعه عند الحداد يكوي به، وملقط شعر، ومحقنة وسط يستعملها لحقن الأذن، ويولجها في باب البدن، إذا اقتضت الحال ...
وسأل عن مكان يفرغ فيه حمولته، فدلته أم يوسف على «يوك»
39
وضع فيها أشياءه.
وتوافد المفتقدون والمسلمون على الأفندي، وطال التسليم والزوجة تنتظر التسلم. تنتظر الساعة التي يمد فيها لطف الله يده المباركة إلى زوجها فيشفى، ولطف الله متشاغل بالسؤال عن صحة الجميع. يطمئنهم فردا فردا على صحته الغالية، وإلى المرضى الذين تركهم تحت رحمة الله.
تعجبت مريم من إبطاء الحكيم، واستغرب الحكيم عمى قلب مريم وقلة ذوقها ... كيف لم تفهم أنه تعب جدا، ويجب أن يرطب بلعومه
40
الجاف! فهو أصحل
41
مستريحا، فكيف به وقد تدحرج في نزلة معاد، وتعلق بأذيال عقبة عين كفاع؟ أما أفهمها بالقلم العريض، فور وصوله، أنه قطع بعشر دقائق مسافة ما بين معاد وعين كفاع؟! وهذا ما تعجز عنه البغال، وحضر خبير بأحوال لطف الله، فما كاد يقول للمرأة: اسقيه ... حتى ابتدرها لطف الله قائلا: عندك سبيرتو لنطهر يدنا؟ هاتي قنينة العرق، العرقي يغني عن السبيرتو.
فقال الرجل: والنبيذ مليح. فقال لطف الله: أيوه، الكحول كلها مطهرة.
طبيبنا دوار قلما تجده في بيته، وقلما تراه صاحيا. يفرض نفسه ضيفا على من شاء ومتى شاء، ومن يتبرم به، فلأمه الويل؛ هو زجال مقل،
42
ولكنه يقول قولا محكما يسير به من لا يسير مشمرا
43 ... هو يجيد قول «الجفا» - أي الهجو - كل الإجادة، وله فيه «ردات» مشهورة، أي «أبيات عائرة»
44
كأبيات جرير.
ضيف خفيف الروح غير ثقيل. تكاليفك عليه لا تعادل نوادره ومضحكاته. اسقه ودعه، فيتكلم وحده كالفونغراف. ويزيد عليه أنه يرفع الأسطوانة ويضع غيرها كما تروم ...
وجاء العرق فصب قليلا في راحته وفرك يديه، ثم شرب ما استطاع زاعما أنه يقتل بذلك الميكروبات التي تتهدده، وأخيرا اقترب من قرياقوس مستعينا بالحاضرين على تقليبه ذات اليمين وذات الشمال. جس نبضه، وتسمع على دقات قلبه، ووزن حرارته، ثم وضع نظارتيه فوق أرنبة
45
أنفه، وقلب شفته السفلى قليلا إذ اطلع على الميزان، ثم عبس ونفخ فهبط قلب الزوجة. وسئل عن حالة المريض فهز كتفيه، وأجاب: العلم عند الله. الحالة صعبة جدا، ولكن ... ليس عند الله أمر عسير.
وأخذ الناس ينفردون به واحدا واحدا، وهو يظهر اليأس من مريضه لهذا ويؤكد سلامته لذاك، وهكذا كان يفعل دائما. يقول للناس أقوالا متناقضة حتى إذا شفي المريض أو مات كان بينهم من يقول: قال لطف الله كذا.
وحانت ساعة تركيب الدواء، فذوب قليلا من الأسبيرين وأشياء سماها بأحسن الأسماء، وأغربها وأضخمها، وأفاض في الثناء على نفعها وخصوصا إذا مازجها العرق، فوضع في العلاج بعض نقاط وفي بطنه ربع القنينة ...
ولمح أم يوسف تنقي العدس، فأدرك أنه سيتغدى مجدرة،
46
فلجأ إلى سلطانه الطبي، وأمر مريم بذبح دجاجة حالا. - اسلقيها جيدا لنعطي قرياقوس منها ما يعرقه، عجلي يا أم يوسف، الضربة لمن سبق. والتفت إلى من حوله، وقال: رطل أسبيرين لا يعرق قرياقوس.
وعند الظهر سقى المريض من مرقة الدجاجة، وأكل هو لحمها ... وسأله أحدهم: كيف يأكل لحما يوم خميس الأسرار؟
47
فأجاب: اليوم أكل سيدنا يسوع المسيح خروف الفصح مع تلاميذه ... سبحان مقسم الأرزاق. لصهرنا قرياقوس أربعا أيوب،
48
ولي أنا دجاجة خميس الأسرار، وخروف الفصح إن عشنا ... الحياة ساعات. متى جاءت ساعتي أروح فيها ... للقرد.
وعند العصر صحا لطف الله من سكرته، فاقترب من قرياقوس يتحسس رأسه وصدره ويديه، فإذا بجلده لا يزال يابسا، لم يرطبه الأسبيرين ومرقة الدجاجة، فشطبه ...
ودعا عديل المريض الدكتور لطف الله إلى العشاء فتعشى عنده وسكر. ثم جاء قرب نصف الليل للكشف على المريض فإذا به كما تركه. قل شيء من تململه وتقلبه ولكنه لم ينطق. فانتصب لطف الله عند رأسه، ثم انثنى فوقه قليلا واضعا راحتيه على ركبتيه، وصاح صياحا راعبا بينا هو ينتصب رويدا رويدا: يا قرياقوس، قل لي أيش بك يا عمي؟
فكان الجواب: اعه.
فالتفت لطف الله إلى الحاضرين، وقال: بان الفرج، قرياقوس يسمع ولكن لسانه مربوط وتهيأ لصرخة أعظم من الأولى وصاح: رأسك بيوجعك؟
فكان الجواب: ام ام.
فأسرع لطف الله إلى مستودع عقاقيره وآلاته الطبية، فتعثر بذيل غنبازه الطويل ووقع، فأقالوه من عثرته، وعاد إلى مريضه يعذبه. أطلق على رأسه العلق فتعلقت تلك الدويبات بصدغيه، وأذنيه، وأنفه، وذقنه؛ فكان مشهد مؤثر يضحك الثكلى.
فقال أحدهم: كثرت العلق يا أفندي، فأجابه: قرياقوس يتحمل. كل ما في عين ماريحنا وبركة اليمونة
49
من علق لا يكفي هذا الضبع، لا يمتص قيراطا من أربعة وعشرين من دم قرياقوس. •••
نام لطف الله وشعاره: لا تهتموا بما للغد، وإذا به يرى عند قرياقوس شاة سمينة اسمها «حمامة» تحلب رطلا كل يوم، كان قرياقوس يدللها ويشاطرها زاده، تتبعه إلى الحقل وتعرف مواعيد أكله فتحضر بلا دعوة، وإذا لم تجئ يناديها باسمها فتهرول. كان قرم
50
لطف الله إلى اللحم شديدا، فمنذ خمسين يوما لم يذقه.
وقف الحكيم سحرة قبالة مريضه مظهرا الحيرة والارتباك والأسف، وأخيرا قال: يا أم يوسف، ما تركنا واسطة إلا عملناها وكلها ما نفعت، عجزنا يا أختي مرين عن تعريق زوجك، والعرق ضروري في مثل حالة قرياقوس. الحرارة هابطة جدا يا مرين. شطبناه، وعلقنا له العلق واللزقات من جميع الأنواع: بزر كتان، بزر خردل، نخالة ... ما بقي قدامنا إلا واسطة واحدة. أمس قبل النوم راجعت الكتب كلها، ما غمضت لي عين. وحق مار شربل يا بنت عمي، إن كنت نصرانية تصدقي، والله ثم والله، ما نمت أبدا. اسألي أختك دورتيا.
وحنت دورتيا رأسها مصدقة، وهمت أن تتكلم، فقال لطف الله: لا بد من لف زوجك بجلد غنم سخن مدة ثمان وأربعين ساعة.
فقالت مريم: يوسف، البس ثيابك.
فصاح الحكيم، وقد أدرك ما تريد: قلت لك جلد غنم سخن.
فقال يوسف، الكامل الرجولة، التام المروءة: اذبحوا الغنمة.
فصرخ لطف الله: عشت يا نخي.
51
لم تعجب المرأة هذه النخوة الحمارية ... ولكن أخيرا قضي الأمر، ولف قرياقوس بجلد حمامة، وارتمى لطف الله بشحم ولحم كهداب الدمقس المفتل
52 ... وكانت السكرة الكبرى ليلة عيد الفصح،
53
وكان قرياقوس خروفه.
واستيقظت أم يوسف تبحث عن الطبيب، فلم تقف له على أثر ... أما الصيدلية فموجودة.
وكان في القرية المناوحة لمعاد دجال بلدي آخر ولكنه لا يشرب، متين الأخلاق، رصين، حر الضمير. دعي فجاء وعلم ما فعله زميله بقرياقوس، فأبى أن يمد إليه يده، وعاد إلى بيته غير مأجور ولا مشكور.
وكان صباح العيد مشئوما، ساءت حالة قرياقوس، فدعي الخوري ليهيئه لتلك الرحلة الطويلة، ممهدا أمامه الطريق، فرش ماء مباركا وابتدأ البروتوكول.
قال الخوري: السلام لهذا البيت.
فأجاب الشماس: ولجميع ساكنيه، ثم قال بصوت خافت: ما عدا قرياقوس. - الرب معكم. - ومع روحك أيضا. - نسألك يا ربنا يسوع أن تدخل في هذا البيت السعادة الأبدية عند دخول حقارتنا، وأن تدنو منه النعمة الإلهية والفرح النقي، والمحبة المثمرة والشفاء الدائم، ونطلب منك أن تهرب منه الشياطين وتحضره ملائكة السلام، وأن تبعد عنه كل خصومة خبيثة، آمين.
فضحك سمعان، وغمز بعضهم، فقال له الخوري: قل آمين يا شماس.
فانتبه سمعان، وقال: آمين آمين آمين.
فأضحك الحاضرين رغم تخشعهم لكلام الله.
ووضع الكاهن يده على قرياقوس، وقال: بسم الأب والابن والروح والقدس، الإله الواحد، آمين.
فحدق سمعان إلى ابن عمه قرياقوس، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: باق مطرحه. ما «انطرد».
وقال الكاهن: لتنطف عنك قوة الشيطان كلها بوضع يدنا، وبدعاء جميع القديسين والملائكة ورؤساء الملائكة والآباء والأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين وكافة القديسين، آمين.
فقال سمعان بصوت لا يسمعه الكاهن الشيخ: ولو جاء الله بذاته قرياقوس يظل قرياقوس.
وأخذ الكاهن يغمس إبهامه بزيت المسحة المقدس،
54
ويدهن بشكل صليب الأعضاء المعينة، أي: العينين والأذنين والأنف والفم واليدين والرجلين، ويستغفر لقرياقوس، عند دهن كل عضو من هذه الأعضاء، عما أخطأ به بهذه الحواس إلى أن قال أخيرا: بهذه المسحة المقدسة وبرحمة الله الغزيرة الرأفة يغفر لك الرب كل ما أخطأت به بالمشي، وبباقي الحواس الأخرى، آمين.
ورأى سمعان أن الخوري يقل من الزيت، فما تمالك أن قال جهارا: حط يا معلمي حط، كتر، كب. زنجار دهري من أيام المعمودية، صدي لو نقعته بخابية «ميرون»
55
لا يتحلحل ولا ينظف.
فعبس الكاهن، وأتم صلاته قائلا: فاهتم إذن يا مخلصنا بنعمة روحك القدوس، واشف أوجاع هذا المريض، وضمد جراحاته، واغفر له خطاياه، وأنقذه من أوجاع العقل والجسم، ورد إليه برحمتك صحته وعافيته ظاهرا وباطنا، حتى إذا ارتد بمعونتك إلى صحته يعود إلى خدمتك الروحية.
وبينما كانت الزوجة والولدان يبكون كان سمعان واقفا للنكتة بالمرصاد، وهو واثق أن ابن عمه لا يموت ولا يرتد ...
واستراح الكاهن بعد المرحلة الأولى، وقال للزوجة: لا تحزني ولا تقطعي الرجا، المسحة تنفع جسديا وروحيا. كثيرون مسحناهم وصحوا.
فقبلت مريم يد الكاهن الصالح شاكرة طالبة دعاءه وصلاته، وخرج على أن يعود بعد الفطور، فيعين قرياقوس على الرحيل بسلام. ولكن السلامة بانت في قرياقوس عند الظهر فنطق بعد ذلك الصمت. أفاق كمن استيقظ من حلم مزعج لا يذكر شيئا مما وقع له. يفكر فيخال المدى خمسة أعوام لا بضعة أيام.
وهوت يده اتفاقا إلى وسطه، فانتفض جزعا وصرخ: وأين الكمر!
56
فجاءته به زوجته، فجس الدنانير وتزنر شاكيا آلام الجراح التي شغله فيها لطف الله، أكثر من شهر.
وظل أهل القرية يتناقشون في شفاء قرياقوس. عزاه فريق إلى طب لطف الله العجيب الغريب، أما الأكثرون فعزوه إلى سر المسحة المقدس ... والله أعلم!
الفصل السابع
وأخيرا التقى البطلان
عدل عزرائيل عن قبض روح قرياقوس لأسباب ظلت مجهولة، فقل عواده وزواره. انقطع الناس عن زيارته حتى الكاهن الذي يئس من موته وضاع تعبه سدى ...
انصرف الناس إلى أعمالهم الحيوية إذ اربد
1
بزر القز، ودبت الحياة فيه، فسرت منه إلى كل بيت في القرية. المرأة تنظف الأطباق، وتطليها بزبل البقر المروب،
2
وتمسح المهارم والسلال الخصيصة، وتستأصل ما نسجته العناكب عن حيطان بيتها، غائصة في أحلام يقظة دونها أحلام العروس، وهي تعد القمط والثياب لولي عهدها العتيد. والرجل يشحذ السياخ ويسن المناجل. ويبرد الأظفار
3
لقطاف ورق التوت الرخص، ويهيئ السدة لتجلس عليها ملكة أحلام اللبناني في ذلك العهد.
وأخيرا تغلق الأبواب الدهرية شهرين، فلا تفتح إلا ليخرج منها ملك المواسم. تسد سدا هرمسيا
4
فتخال كل بيت زجاجة إيتر أو قنينة صبغة اليود. لا يبقى إلا شباك يدخلون البيت منه، فيسدلون عليه حجابا كثيفا، كبلاس
5
أو كيس خيش سميك. يسدون حتى الثقب الذي تدخل منه الهرة؛ لأن معظمهم يكافحون الفئران والجرذان التي تسطو على دودة القز بماء يصلي عليه كاهن مشهود له بهذه الكرامة والقدرة. يرش هذا الماء في زوايا البيت الأربع؛ فتختفي تلك الحشرات. والمغالون يقولون إنها تلجم، فترى سارحة مارحة على الأطباق والشيح، ولكنها لا تؤذي الدود ولا الشرانق.
وتخلو البيوت في نيسان إلا من النساء والعواجز. تعد النساء الطعام ويحملنه إلى الحقول، ساعة الظهر، حيث يفلح الرجال التوت والزيتون والكرم والتين وكل شجر ذي منفعة، والفتيان ينكشون التراب حيث لا تصل إصبع السكة، أما الغلمان فيحشون الأعشاب من هنا وهناك ليعدوا مأدبة أنيقة للثيران المكدونة، فهي تنتظر دائما هذه السلفة؛ الهوردفر.
لا قرار للفلاح اللبناني؛ فللقز وقت، ولزراعة التبغ إبان، وللحصاد زمن، وللدراس حين، وللقطاف أزمنة، ولتحويش التين مواقيت، وهناك واجب لا ينتهي وهو العناية بمعاونيه: فدانه وحماره.
أما نيسان، فزمن الفلاحة، ولسان الشجرة يخاطب الفلاح دائما: كما تراني يا جميل أراك. وهو يخاطب نفسه كل ساعة: أطعمها تطعمك. فتراهم في نيسان كخيل الطراد؛
6
لأن مثلهم يقول: «الطري» خيال.
7
في ضحى هذا النهار من نيسان، الحافل بالحياة والعمل، وقفت أم يوسف على سطح القبو - فيرندا بيوت القرويين - فانكمش صدرها، وعرتها هزة لم تطل، فهزت برأسها وقالت: العشب أكل التوت ... وجه واحد كانوني؟ يه، يه، يه! لولا الدعاوى كنا بألف خير، كان توتنا يضحك وقضبانه مثل الرماح.
لقد صدقت فيما ناجت به نفسها، فلولا الدعاوى كان قرياقوس فرغ من حراثته ونكاشه معا، فهو لا يعتمد على الفلاح؛ لأنه لا يلبيه ساعة الطلب، فللفلاحة يد - أي وقت مناسب - وساعة لا تعادل غيرها، وفيها يقولون: متى باتت فاتت.
رأت التأخر باديا على كل شيء حول بيتها، فتنهدت وقالت وهي لا تعي ما تقول: صحيح، الرجل عمود البيت. وتذكرت علبة البزر، وقد كادت بيوضها تنفقص، فتجهم وجهها، وتدحرجت دمعتان من عينيها. وسمعت صياح الناس في الحقول؛ هذا يصرخ: أوهوه. زاجرا
8
فدانه لتجاوزه الحد المعلوم والخط المرسوم، وذاك يطايب بقرة عزيزة، فلا يريد أن يغلظ لها القول فيجرح عاطفتها الرقيقة فيناديها باسمها الحلو، كأنه يناجي خطيبته أو يحدث عروسا في شهر العسل، وذلك ينده
9
ابنه ليعجل عليه بالدورق أو ينادي زوجته، ويسب الدين لأن فطوره قد تأخر.
وقع في أذن مريم صوت زوج أختها، وهو يفلح كرمه في «ضهر المعصرة»،
10
فامتعضت وانقلبت إلى بيتها وهي تقول والألم يحز قلبها: كل الجمال تعارك ونحن جملنا بارك.
لم يطل همها، فما تسربلته
11
ساعة حتى جاءها الفرج؛ فالقرويون لا يحالفون الدهر على المنكوب منهم. هذه أختها وغير أختها يملآن البيت، كل واحدة منهن تتقدم لتربي لأم يوسف علبة البزر، وها هن قد أفرغنها في خريطة يكتب عليها اسم قرياقوس بالقلم الثخين، وها هن ذاهبات بها إلى المدخن؛ حيث يحتضن بزر القرية كله، وحديثهن يحوم حول موضوع النخوة والمروءة والمعروف، وصوت قرياقوس العريض يرن في آذانهن: الله يقدرنا على مكافأتكم.
تذكر في تلك الساعة سند ملحم، فشكرهن من صميم قلبه، واستراحت أم يوسف من همها النابغي؛
12
فمصيبتها في علبتها أكبر من مصيبتها بزوجها.
إن ولع القرويات بتربية دود القز كولع المدنيات بكلابهن وقططهن، والمباراة الشيقة تقع عند فطام القز؛ فكل واحدة تباهي بإقبال موسمها، وتعتد بخبرتها واقتدارها. وتحتدم هذه المباراة في أوائل حزيران؛ إذ تشرع أبواب البيوت، وتنزع الطباق عن السدة؛ فلا يبقى عليها غير الشيح
13
المثقل بالشرانق - الفيالج - وإذا بلغ الموسع أقصى حدود الإقبال رأيت السقف مرصعا بالفيالج من فضية وذهبية، وتبدو الحيطان للناظرين كأنها مغطاة بستائر حريرية زركشتها يد فنان حاذق.
منظر فتان تخلعه تلك الدودة الضعيفة على تلك البيوت الحقيرة؛ فهو أوقع في نفوس الناظرين من منظر الثمر على الشجر، ومن مشهد السهل الخصيب، الحانية سنابله رءوسها، كأنها آلاف المؤمنين في الحقل، وقد دق جرس الظهر للتبشير.
أما نحن الصغار فكنا ننتظر ذلك الوقت لشراء الحلاوة والخواتم والصفارات التي نزعج بها القرية أياما. إذا أقبل الموسم شبعنا حلاوة وكثرت اللعبات بين أيدينا، أما إذا محل فتنقبض وجوه ذوينا، ولا نرى في القرية بياعا ينادي على الحلاوة وأخواتها من طرف الموسم. •••
وقرب الظهر عاد الكاهن من حقله، فعرج على ابنه الروحي، فتناوم قرياقوس لأن زيارة الكاهن للمريض غير مرغوب فيها؛ إنها تفزعه وخصوصا إذا كان كقرياقوس لا يرتاح إلى حديث خوري يحضه على تحسين صلاته بالله والقريب. فهو يعتقد أن الله أكبر من أن يبالي بالصغائر التي يذكرها الكهنة، أما القريب فليس الحق على قرياقوس ...
وتغدي قرياقوس، ونام ملء جفونه يحلم بالعشاء، وبينما كان يشخر رأت أم يوسف عتمة تخيم عند بابها الغربي. ظنت أن غيمة تغطي عين الشمس، فهمت بإدخال الفرشة المعروضة للشمس والهواء، وفكرت بدق شقوق السطح لتتقي «الدلف».
14
ولكن غمرتها انجلت إذ رأت الهركولة
15
تسد الباب، ثم تجتاز ذلك المضيق بانزعاج فتنقشع الظلمة، وبعد أن توقفت قليلا ولهثت مرات قالت: كيف حال قرياقوس؟ - أحسن، الحمد لله. - سلامة قلبه، الله يتحنن عليك يا أختي، وأشارت بيدها نحو قرياقوس، كأنها تربت
16
له، فيطول نومه، وتفرغ ما جرابها من أخبار ومواعظ. وظلت هنيهة تحاول القعود كأنها جمل يبرك، ولكنها لم تتوقف عن الحديث في أثناء تلك المحاولة، بل قالت وهي تطوي ركبتيها: كيف حالك أنت يا حبيبتي؟ - نشكر الله.
وما بلغت الأرض حتى أجابت: كل ساعة. ولما استقرت قالت: يا ويل من يتخلى عنه ربه! «الهركولة» أخت هريرة
17
الأعشى في بدانتها وترهلها، ينتشر اللحم حولها على الطراحة، كعائشة بنت طلحة، فتخال كومة من اللحم مرصوفة على شكل امرأة، ولو كان للعرب ملكات جمال؛ لكانت هي تلك الملكة لا عائشة ولا الثريا.
18
وكان سكوت دام بضع دقائق. تنظر الهركولة إلى أم يوسف نظرة من في وجهه خبر ولكنها تنتظر أن تسأل، وأم يوسف لا تهش ولا تنش؛
19
فكل بالها في مصيبتها، جملها بارك في زاوية البيت كأنه ليل امرئ القيس.
20
ولم تطق الهركولة صبرا، فقالت لأم يوسف: ما أبرد قلبك، اسأليني عن أخبار اليوم؟ - ما بالي بالأخبار، بالي في همي، زوجي مرمي مثل القتيل، بزرنا بيد الناس، ورزقنا بور،
21
كيفما التفت ينسلخ قلبي. - خبر يهمك يا أم يوسف. قالت هذا واندفعت في الحديث ، كأنها نهر محقون وقد رفع السد: صدقت، يا أختي، إن زوجك نزلت عليه صاعقة، وصدقت أن الصاعقة تقع على إنسان ويقوم من تحتها؟
وأطرقت قليلا ثم قالت: وصدقت أن الحشاش لطف الله صحح زوجك؟ لا يا أختي لا. قدرة الله وحدها صححت زوجك. لولا النذر لمار روحانا كان زوجك في ديار البلى. اشكري ربك يا حبيبتي، ربنا ألهمني حتى قلت لك انذري وأنت سمعت الكلمة وآمنت. كل الضيعة تقول هذه ضربة من الله. صحيح كنيسة الأربعين مهجورة ولكنها عجائبية. الواوي عمي - ابن آوى - لما دخلها وأكل فتيلة السراج مات على عتبة الباب. عجائب الله في قديسيه يا مرين! يعلم الله أيش عمل في كنيسة الأربعين حتى ضربوه هذه الضربة. قديس واحد يرد ضيعة عن مقامه، فكيف إذا كانوا أربعين، وكلهم شهداء؟!
أيش عمل لطف الله الحمار لزوجك؟ قالت هذا وبسطت يدها الضخمة لتعد على أصابعها: قطع عنك العرق والنبيذ، وأكل الدجاجة - فاسود وجه مريم قليلا - وذبح غنمة تسوى
22
ألف حكيم مثله - فبان في وجه أم يوسف ألم عنيف وامتعضت - وغرق القليل الدين في اللحم يوم جمعة الآلام
23
وسبت النور،
24
وهرب ابن الكلب في الليل، وترك زوجك تحت رحمة الله.
انتبهي يا مرين، زوجك «مسكون»
25
يا أختي، قضى حياته مع المغاربة
26 ... مندل، وسحر، وقرود تسحب روحه. قلت لك زوجك مسكون وبيتكم مسكون ... المغاربة جمعوا الشياطين كلها وتركوهم في بيتكم. توقي، يا أختي، كلما غبت عن البيت ورجعت صلبي يدك على وجهك حتى تطرديهم ... ناس كثير قالوا زوجك فرماسوني.
27
أما أنا ما صدقت؛ الفرق بعيد. مؤكد أن ضربة زوجك من الأربعين، وأكثر من مؤكد أن زوجك مسكون، والبرهان أنه صح بعد المسحة. ما سمعت كم مرة قسم الخوري على عدو البشر - الشيطان - حتى خرج من زوجك ومن بيتكم.
تسمعي يا أختي في الليل. إذا سمعت حسهم اطلبي الخوري حتى يقسم عليهم. ثم قرعت صدرها مرات، وقالت: يا رب نجينا، كيف تعيش الناس مع الشياطين، أنا متأكدة أن الأربعين والشياطين ضربوا زوجك ... من يدري؟ ربما يعتبر ويتوب. آمين يا رب. ولكنه ثور مثلما قال «البولص» - رسائل القديس بولس - يوم الأحد: آلهتهم بطونهم. بري
28
زوجك يا حرمة، خارج عن الضيعة لا يشارك الناس لا بالفرح ولا بالترح. وأنت مثل الفقمة؛ ساهية، قلبك أصغر من حبة الدخن.
29
شدي حيلك، كوني قوية مثل فلانة، قرصي له عجينه. ما نظرت عيني واحدة مثلك ولا رجلا مثل زوجك، لا هو للضيف ولا للسيف ولا لغدرات الزمان، قولي لي من أكل عنده في نعوة أو يوم عيد، وأي ضيف نزل عندكم؟ الكلب لا يعرف بيته! بيوت الضيعة تمتلي وتفرغ، وبيتك لا يدخله إلا المغاربة والنوريات والبدويات حتى يبصروا لقرياقوس، ويعلموه كيف يفك الرصد
30
وتغنم لحيته. تذكري كلامي: يموت زوجك وما على جلده قميص.
وظلت تثرثر حتى قالت: وإذا قدس الخوري في بيتكم مثلما قدس في بيت بوحيص - جرجس طنوس - استرحت طول العمر.
وتحرك قرياقوس في فراشه، فالتفتت الهركولة صوبه ولكنها لم تسكت، بل قلبت الأسطوانة، وقالت: انتبهي لزوجك يا مستورة، كثري له الأكل، زوجك ضعيف لا يقويه إلا الأكل ... الرجل عمود البيت. وشخر قرياقوس فعادت إلى حديثها الأول، وما انفكت حتى أتت على آخر حبة من المسبحة. وتحلحلت لتذهب فإذا بقرياقوس يقعد في فراشه، فسألته عن صحته العزيزة سؤال مغرم ولهان، ثم غادرته منقضا على العشاء انقضاض النسور القشاعم.
31
وجاء الليل فجاء الويل؛ لم تنم أم يوسف، تسمعت فسمعت أصواتا غريبة، وغناء نابيا
32
لم تسمع مثله قط، رأت أشباحا مذنبة وغير مذنبة، ذات قرون وجماء،
33
وعيونا تقدح شررا. تخيلت معزى تتناطح في البيت، وشاهدت كل ما صور حول مار أنطونيوس من ضروب الحيوانات، ثم رأت أحد هذه الأشباح بصورة رجل قاعد حد رأسها، فصلبت يدها على وجهها مرات، واستنجدت بالقديس أنطونيوس فاختفى، قامت إلى القنديل فرفعت فتيلته، فإذا بها لا تجد شيئا. صلبت يدها على وجهها، وألقت رأسها على المخدة قائلة: يا مار مخايل سلمتك روحي، فنامت ولم تستيقظ حتى دخلت الشمس البيت من شقوق خشب الشباك الشرقي الخاوي .
طال انتظار قرياقوس للفطور، وقد تعجب من استغراق زوجته في النوم، والعهد بها تنهض قبله، فصبحها بانكسار الضعيف بعد أن كانت تنقض أوامره كالصواعق، وبالكد ردت الصباح. عاتبها على إبطائها، فأجابته بلهجة لا تخلو من تمرد وعنف: شياطينك حرمتني النوم. - شياطيني أنا! مرين، أنا عندي شياطين؟ - وحياة جراحات المسيح ما غمضت عيني، نمت ربع نوم.
فاستغرب قرياقوس حديثها كل الاستغراب، ولا سيما حين روت له أحاديث الناس، وأكدت له أن الأربعين والشياطين لا الصاعقة ضربوه هذه الضربة، وأن «المشحة»
34
هي التي طردت الأبالسة وأخرجتها منه، وأنها لو لم تنذر فسطانها كان مات وشبع موتا.
تلقى قرياقوس هذه الأنباء وفمه منفتح نصف فتحة، كل أخبار زوجته لم تشغل باله، ولكنه أسف على الفسطان الذي أصبح ملكا لقديس الضيعة، ونوى أن يسترجعه متى غادر الفراش واستراح من تلك الوعكة؛ هكذا عبر بطلنا عن مرضه.
وانقضى النهار في الجدال بين الرجل وزوجته، وقد وقفت منه موقف المرشد، فكان قرياقوس يذعن تارة، ثم يعاوده الشك فلا يصدق ما قصته عليه زوجته من أخبار ورؤى الليل الفائت. وتخطت الزوجة من الإرشاد إلى الوعظ فالتهديد؛ أنذرته إذا لم يتدارك الأمر فهي عائدة إلى بيت أبيها؛ لأنها لا تعيش في عش المغاربة والسحرة ... وأخيرا اتفقا على أن يجتمعا معا وينظرا، وفي الغد يقرران ما يجب عمله.
وجاء الليل فرأت أم يوسف وسمعت، أما أبو يوسف فما رأى ولا سمع ولكنه كاد ...
وجاءت الهركولة فحدثها قرياقوس عن أوهام زوجته وتخيلاتها فكانت إمعة،
35
تصدق على كلام قرياقوس وتغمز زوجته، وعصاري ذلك النهار ألحوا على الكاهن، فأقام الذبيحة الإلهية في ذلك البيت المسكون، بعد استئذان رئيسه الروحي، فحضرت الهركولة ذلك القداس، وصلت بإيمان وخشوع حارين.
وخلا بيت مريم من ضيوف الليل، ذوي الأنياب والقرون؛ فعاشت مطمئنة حاكمة بأمرها زهاء ثلاثة أسابيع، أي حتى تعافى الطاغوت واستراح من تلك الوعكة ... •••
وانتقل المرسح بعد ذلك إلى جونيه.
36
كان الخامس والعشرون من أيار موعد استنطاق قرياقوس.
على باب غرفة المستنطق، يقف الأونباشي فارس آغا خفيرا، ثم يتمشى في صحن السراي يزهى
37
ويصيح كالديك على مزبلته؛ يأمر هذا، وينهى ذاك، وينفخ بسبب وبلا سبب، وتدور على لسانه كلمة «أمر سعادته» بداع وبلا داع.
وجاءت نوبة
38
دعوى عين كفاع، فصرخ الآغا: فاكيه طنوس فارس، فدخلت واستجوبت. ثم نادى على الشهود واحدا واحدا، وأخيرا صرخ بصوت عنيف كأنه ضربات طبل متقطعة: قرياقوس ضاهر حنا عين كفاع. فرج السراي، وتقدم قرياقوس، فأخذه الآغا بطوقه ورده أعنف رد قائلا: وحش، هات العصا، كأنه داخل على قبو بقر، تهيب، أنت أمام ابن حكومة!
فتأمله قرياقوس طويلا، ولم يقل كلمة، ثم سلم عصاه إلى ابن أخيه، ودخل على المستنطق.
رأى كل منهما عجبا، رأى المستنطق في قرياقوس رجلا طويلا عريضا خشن السمت، ورأى قرياقوس في المستنطق رجلا دميما، فقال في نفسه: هذا مستنطق؟ إذا نفخته يطير، الفرق بعيد بينه وبين سعادة المدير.
المستنطق ملتح ولكنه كوسج،
39
أزرق العينين، أشقر الشعر، نحاسي البشرة. ابتسامته مقيتة، تكشف عن أسنان مصفرة ولثة دهماء، واعتقد المستنطق الإجرام في قرياقوس فور رؤيته محياه النطاح،
40
فقال له: ما اسمك؟ - اسمي قرياقوس. - اسم الوالد؟ - ضاهر حنا، إن صدقت الوالدة.
فانتفض المستنطق عند هذا الجواب وقطب حاجبيه، وقال له زاجرا: توقر يا هذا، أنت بإزاء قاض جهبذ
41
يمثل الذات الشاهانية،
42
فلا تتنادر ولا تتماجن،
43
حذار سوء المغبة.
44
فتعجب قرياقوس من كلام غاب عنه فهم معظمه؛ لم يسمع قط بالنحو، ولا عهد له بالكلمات طالعة نازلة، كما رآها تتدحرج من فم المستنطق.
وكان بينه وبين كاتب الاستنطاق معرفة، فقال له: بحياتك ترج مولانا «المصتنطق»، قل له يحاكيني بلساننا، لغته صعبة علي.
فكاد المستنطق يضحك وأقل من عنجهيته
45
وقال: ما اسم أمك؟ - أم جبرايل.
فهز المستنطق رأسه، وقال: هذه كنية يا ذكي.
فتبحر قرياقوس وقال: ضاهرية.
فامتعض المستنطق وتمطى كالممغوص، وقال: وهذا لقب يا فيلسوف.
فضحك قرياقوس، وقال: القرود تأخذني، كيف نسيت اسم أمي؟!
فقال المستنطق: يبدو لي أنك لا تميز بين الاسم واللقب والكنية، أين قضيت عمرك؟
فاستضحك الآغا وقال: في عين ورقه،
46
رفيق مطران الدبس والشدياق.
واحتار أخيرا كلاهما، فقال المستنطق لكاتبه: ضع اسمها مريم.
فاعترض قرياقوس قائلا: هذا اسم بنت عمي، ولكن المستنطق لم يبال فقال: كم عمرك؟ - عمري، عمري ... خلقت في آخر حركة إبرهين باشا.
47
فتأفف المستنطق وقال: ما صنعتك؟ - فلاح زراع. - أتقرأ وتكتب؟
فابتسم قرياقوس، وقبل أن يجيب، قال المستنطق لكاتبه: اكتب أمي. - ألك زوج؟ - زوج أيش؟ بقر، معزى؟
فاستدرك المستنطق، وقال: يعني أمتزوج أنت؟ - نعم، مرتين يا سيدي، أول مرة ... - اسكت، وكأنه نسي أين بلغ من الأسئلة المعلومة، فتفكر قليلا، ثم قال: تدعي عليك ... ثم نظر إلى سجل التحقيق مفتشا عن الاسم، ومط صوته، وقال: فاكيه، أنك طرحتها.
48 - من قال إنها حبلى حتى تطرح. ابنها عمره ثلاثة شهور يا سيدنا.
وانتبه قرياقوس كل الانتباه؛ لئلا يفوته شيء من كلام المستنطق، الذي قال: هي ادعت عليك بذلك، وفي حوزتها تقرير معزز بالأيمان المغلظة. - بحياتك يا مولانا، تفهمني. ما فهمت معناة تقرير وأيمان؟ - بغل، بليد. التقرير هو الرابور، وأيمان يعني حلف اليمين.
فضحك قرياقوس ضحكة مديدة وقال: أتريد أن أحلف لك ألف يمين أني أنا وأنت غير موجودين في سراي جونيه، وإذا أمرت أقدم لك خمس رابورات ... يا سيدنا، أنت أخبر الناس بالرابورات والحلفانات.
فقال المستنطق: طيب، بضميرك وذمتك، هذه المرأة حبلى؟ - أنا قاعد في بطنها! - لكن حديث الضيعة.
فقال قرياقوس: عيب يا سيدي، اسأل النسوان. هذا شغل الرجال، الله يطول عمرك! - طيب، جرحت الرابورات والأطباء مع أن أكثرهم من أصحاب الضمير، والشهود يا هذا؟ فالتفت قرياقوس ظانا أنه يخاطب غيره، وتناول المستنطق «المحضر» من أمام الكاتب، وذكر لقرياقوس أسماء الذين شهدوا عليه. فصاح قرياقوس صيحة ارتجف لها المستنطق، وما شرع في الدفاع عن نفسه حتى نهض المستنطق عن كرسيه، وقال للآغا بلا اكتراث: خذه إلى الحبس. ثم قال للكاتب: أصدر بحقه مذكرة توقيف.
وعاد الشهود والأنصار إلى الضيعة ما عدا قرياقوس؛ فإنه حل ضيفا كريما على فارس آغا.
كان الآغا يحرس قرياقوس، فلم يسمح لأحد أن يقابله فيحمل وصيته إلى أهله، وكثيرا ما كانا يتبادلان كلاما مضمنا يشف عن ضغينة الآغا واستهزاء قرياقوس؛ فبطلنا كما عرفه القارئ الكريم لا يبالي، سيان عنده أقاهرا أم مقهورا فهو ليس ممن يكسر شوكتهم الحبس.
كان الآغا يتعنفص
49
وقرياقوس يتملقه فيزداد الآغا عتوا، وجاء دور خروج المحبوسين لقضاء حاجتهم.
فكلف الآغا قرياقوس حمل تنكة الحاجات فحملها مطيعا.
وخرج مع المحبوسين إلى الرمل مخفورا، فشفى الآغا نفسه، وتلذذ بمرأى خصمه ذاهبا تحت خفارة الجند.
وفي اليوم الثاني حمله إياها فحملها مطيعا، والعادة أن يتناوب المسجونون حملها، وفي اليوم الثالث حملها أيضا وهو يضحك. وانتظر الآغا عودة المسجونين؛ ليرى قرياقوس ذليلا مهانا على عيون الناس، ولكن قرياقوس راح ضاحكا، وعاد باشا، منبسط الوجه كأنه عائد من عرس.
وقف الآغا على سفرة درج السراي متقنشفا كالديك الحبشي، يصب نظراته من عل على المسجونين العائدين، وكان في ساحة السراي أناس يعرفون قرياقوس، فسأله أحدهم عن حاله، وهل من خدمة يقضيها له، أو ماذا يبلغ أهله في عين كفاع. فضرب قرياقوس على «تنكة الحاجات»، وقال بصوت جهوري لذلك الرجل على مسمع الآغا والناس: قل لهم قرياقوس مرتاح، وظيفته «كرارجي»
50
عند فارس آغا.
فطار عقل الآغا وهجم على قرياقوس، ولكنه لم يمد إليه يده، نوى أن يضيق عليه أكثر فلم يعفه في الغد من القيام بمهمته تلك، بل تبعه إلى حيث يقضي المسجونون حاجتهم الكبرى. أطال قرياقوس القعود فشكاه الجندي إلى الآغا فتقدم لزجره، وأمره بالنهوض، فقال له قرياقوس قبل أن يلفظ كلمة: عزيز من غير وقوف يا آغا، ثم قام بعد أن قضى غرضه ...
فهدأت ثورة الآغا بغتة، وبدلا من أن يرفسه أو يلكمه أجابه: الكبار لا تقوم عن المائدة. صحتين وعافية.
وفي اليوم الرابع أقيل بطلنا من وظيفة التنك. رأى الآغا الخير في التخلص منه، فخفف من وطأته عليه. طلب قرياقوس محاميا فجاءه الآغا به. ونزلت خيالة مار جرجس على ساحة السراي، فارتبط الآغا منها رأسين في إصطبله، وحل عشرة منها في مربط المستنطق، واقتنى المحامي منها ثلاثة رءوس.
وفي اليوم الخامس عند العصر خرج قرياقوس من السجن خفيف الظهر، لا مال في كمره إلا القليل، فدب الهم في مفاصله.
الفصل الثامن
أجمل الشهور
خرج قرياقوس من السجن ووقف في ساحة السراي وقفة من لم يصدق أنه حر، وشبك عشره
1
فوق حاجبيه ليرى ماذا من النهار بعد، ثم استضحك وحيا الشمس قائلا: اشتقنا إليك يا مباركة. قال هذا وأخذ يتهيأ للسير، فأدخل ذيل شرواله تحت زناره من وراء، ولما اطمأن إلى تمكنه، هملج
2
كأنه بغلة الدير. وما كاد يبلغ جسر المعاملتين.
3
حتى أدركته عربة فيها مقعد فارغ. المقعد حذاء السائق، وقرياقوس ليس ممن يحملون الهم، فما انتصب على تلك الدكة
4
العالية ووقعت عينه على البحر الساجي
5
في تلك الأمسية البراقة، كأنه بساط من كرمسوت،
6
حتى تحركت الموسيقى المهلهلية في صدره العريض، فعج:
وإن لان الحديد ما لان قلبي
وقلبي من حديد القاسيينا
فتعالى ضحك رفقائه من ورائه، فتمادى في غنائه المزعج، ولكنهم أسكتوه ... لا نعجب أن هيج منظر البحر أبا يوسف؛ فهو ربيب شط حنوش.
7
نشأ فتى في ظل جبل النورية،
8
وعاش شابا وكهلا يعاين كل حين جبل القطين،
9
وكلاهما رائع رهيب، والإنسان ابن المربى.
دخل قرياقوس جبيل على صوت المؤذن، وهو يترنم بأذان المغرب، فنزل ضيفا ضخما في خانها الأكبر، كان مغتبطا جدا وهو يحيي زخيا القرموط، صاحب الخان، وازداد اغتباطا إذ رأى فيه صديقه الحميم الخوري يوسف مسرح، فهجم عليه بلهفة المشتاق وهو يهتف: صدفة خير من ميعاد يا خوري يوسف! فأشرق وجه المحترم وابتسم ابتسامة مقطومة
10
وقال: هذا أنت يا قرياقوس؟ ما طالت الغيبة. كيف كنت في بيت خالتك ...
فقهقه قرياقوس وأجاب: كنا نشتهيك يا محترم. - تشتهيك العافية، يا مقصوف العمر.
كانت قهقهة قرياقوس غير مكتنزة ولا سمينة، لم تكن تلك القهقهة الشائكة التي تشبه صياح ديك الحبش؛ فأدرك ذلك الخوري، مع أنه قليل الملاحظة، فقال له: تغيرت يا قرياقوس، قل عرض ضحكتك. رباك الحبس! - كان خلفي ثلاثون خيالا تحمي ظهري، فما بقي معي غير ثلاثة، ومن ليس له ظهر مقطوع الظهر.
لم يفهم الخوري مراد أبي يوسف، فأجابه: أنا قدامك في المركزين: المتصرفية والبطركية. قل، أنا مستعد. - ما نفعني غير الخيالة يا معلمي. - طيب، خذ فرسي وبنتها وابنها. أحسن رسن في المسكونة، ثم قهقه قهقهته الطائرة الصيت، وقال: تريد تحارب نعوم باشا يا يوسف بك كرم؟ طنوس فارس حط أربعك
11
بالمد!
فامتعض قرياقوس، وبان الاشمئزاز في وجهه، وقال لصاحبه متمثلا بقول الزير:
والله ثم والله ثم والله
ثلاث أيمان في رب السماه
أنا محتار يا محترم فيك، كيف تعلمت اللاهوت
12
والشريعة؟ الذي لا يرى من المنخل، الأعمى خير منه. الخيالة ليرات الإنكليز. أنا لا أطلب فرسك وعيلتها الكريمة، فهمت أم لا!
فأطرق الخوري كمن أدرك شيئا فاته، وقال: هم. ومط الميم مطا طويلا جدا، ثم التفت إلى قرياقوس، وقال: فهمت، نعم! ما معي غير ستة، خذ ثلاثة وأنا تكفيني ثلاثة، وأدخل يده في جيبه، وأخرج من عبه مصرا مخمليا.
وأخذها قرياقوس بعدما قبل اليد الطاهرة قائلا: كفا لا تعدم.
وانتفض الخوري انتفاضة من وجد مفقودا غاليا. هم بإسراج فرسه، فتولى ذلك أبو يوسف عنه، ولكنه روع الفرس ووضع السرج
13
بالمقلوب، فشبت
14
الفرس وحمحمت،
15
فلذت للخوري حركتها تلك، فصاح بها يغازلها: اسكتي، سدي بوزك.
16
ثم نحى قرياقوس بظاهر يده، وابتسم ابتسامة فاترة، وقال: بعاد
17
يا قرياقوس، أنت تفزع الغول.
ولما صار الخوري في السرج انحنى قليلا، ورقصت لحيته من الغضب، وقال لقرياقوس: كلاب، أولاد كلاب، أما إنهم يرحلوني عن عين كفاع أو أني أرحلهم. قبل الظهر، إن شاء الله، أكون في المتصرفية، عند «الباشا».
فأرهبت كلمة الباشا والمتصرفية قرياقوس، ولم يفه بكلمة، بل اكتفى بفتح فمه نصف فتحة، وظل ينظر إلى الخوري حتى غاب عن عينيه. بات الخوري ليلته في نهر إبراهيم،
18
أما قرياقوس فتعشى وتمشى إلى جسر الدجاج،
19
ومنها صعد إلى إده
20
ليبيت ليلته عند نسيبة له.
كان أبو يوسف مفكرا على خلاف عادته. فستة خيالة لا تحمي بطنه ، فكيف بظهره. لا موسم حرير يرتجى، والنحل يعلم الله كيف يكون ... فاتح نسيبته حنة لعلها ترشده إلى من يدينه مبلغ ثلاثين ليرة، فأجابته بكل سذاجة: شر الصباح ولا خير المسا.
انبسط وجه قرياقوس في الحال، وشرع يعرض عليها فصول روايته مشهدا مشهدا، أخذت المرأة تهوم
21
وقرياقوس يثرثر؛ حتى أطارت نعاسها إحدى نبراته الصاعقة، فنهضت فجأة متمنية له ليلة سعيدة.
وانبطح قرياقوس على فراشه ولكنه لم يغف، طفق يفكر في أولئك الذين سيشكوهم الخوري إلى «الباشا»، فلم يشك قط في أن خصمه أولهم، فاستراح باله ونعس. وبعد هنيهة شخر ونخر، وغط غطيط البكر
22
شد خناقه، فحرم أهل البيت النوم، لا يستغرب هذا ممن تعشى قدرا محشوة ورق عنب، ونصف إقة سمك ومثلها أو أكثر حلاوة، أما الخبز فلا يعد.
وعند الفجر الكاذب
23
كان الخوري يوسف يرقص فرسه وراء العقيبة
24
على مقربة من مار ضومط البوار.
25
أجفلت الفرس فتماسك الخوري في السرج، وحدق النظر فإذا بفارس آغا يصلب يده على وجهه كعادة أكثر النصارى متى قابلوا كنيسة، فصاح به الخوري وقد ظن أنه صلب تشاؤما به: الله يخزيك أنت!
فصاح فارس آغا: لا أنا ولا أنت، صباح الخير يا محترم.
فعرف الخوري صوت الآغا فهتف: هذا أنت يا ملعون! إلى أين؟
فقال الآغا بصوته الفخم الأجش: راجع إلى بلادي، طالت الغيبة يا خوري يوسف.
لم تسر الخوري هذه البشرى؛ لأنه يمقت الآغا مقتا شديدا، فأنحى على رقبة فرسه بالقضيب وأرخى لها العنان، ولكنها لا تسبق الأتان مهما حثها، لم يتيمن
26
أحد من هذين القطبين. قال الخوري في قلبه: ما أبشع هذا الصباح! هذا يوم نحس. وقال الآغا: ما أبشع صباح الفرد - أي: من الغربان - صباح النوري ولا صباح الخوري. أما القرية فهتفت دائما في كل صباح ومساء: الله ينجينا منهم ثلاثتهم. •••
القرية - عين كفاع - هادئة مطمئنة، فدودة القز تشغل الضيعة، بل لبنان بأسره. الناس جميعا على المصاطب قدام البيوت، فلا ترى إلا عرم
27
ورق التوت وحزم القضبان المقشرة، كل من فيه حياة وقدرة على العمل يشتغل. يتعاونون كلهم على إطعام القز؛ فهي نهمة ولا تشبع وخصوصا إذا كان الطقس حارا، وكانت مقبلة سليمة. لا يتعشون قبل أن يعشوها، وبعد الفراغ من العشاءين يستحيل كل بيت معبدا. شهر نوار هو شهر العذراء مريم، أم المخلص ومعونة النصارى، ومعزية الحزانى وسلطانة السماوات والأرض. حسبك أن تسمع الترتيل في كل فم يوم يطل عليهم هذا الشهر السعيد:
يا أولاد مريم وافوا للسرور
في شهر تكرم من بين الشهور
إنه شهر مكرم حقا في لبنان. فيه - وحده - تقام الصلوات لمريم في كل بيت، وفي هذا دليل على وحدة الحال ورفع الكلفة. هي سيدة كل بيت، كبيرا كان أو صغيرا، بل سيدة كل قرية، فقلما تخلو مزرعة لبنانية من كنيسة على اسم السيدة. هي في عين كفاع سيدة القرقفة، وسيدة القطين التي تعرف أيضا بسيدة البزاز. وفي بجه سيدة المزرعة، وفي غلبون سيدة الحوش، وفي غرزوز سيدة الغارة، وفي جبيل سيدة البوابة. حتى الخوري يوسف مسرح له سيدة خاصة تعرف بسيدة البياض، ولها عجائب غريبة يؤمن بها الخوري وسيأتيك حديث بعضها. لا تنس أن عجائب السيدة، عليها السلام، تختلف في كل قرية. وبعض هذه الكنائس السيدية عجائبي وبعضها غير عجائبي، وأشهرهن سيدة البوابة التي لا يجرؤ أحد على الحلف بها كذبا غير الآغا ...
كانت القز مفطرة الرابع، وهو الطور الأخير من حياتها. هي في هذا الطور أخت قرياقوس لا تعرف الشبع. وكان الناس مستبشرين بإقبالها فكانت صلواتهم حارة جدا. شموع مضاءة في كل بيت، وبخور يفوح من هنا وهناك وهنالك، فكأنما الضيعة أمست هيكلا. الترانيم والصلوات والطلبات تتصاعد من كل ناحية وصوب، كل إنسان يصلي في بيته وحوله عيلته، وحيث توجد غرفة يستغنى عنها، تجتمع الجيرة بأسرها، فيصلون صلاة كاملة؛ أي يقرءون تأملا - فصلا - خاصا بكل يوم.
لكل إنسان مكان خاص به يصلي فيه إلا الهركولة، فإنها كابن الإنسان ليس لها مكان تسند إليه رأسها. تراها تكرج دائما على الطريق رائحة جائية، في يدها سبحة وردية،
28
تجرها على الأرض؛ لأنها هي قصيرة ضخمة، فصارت كأنها مربعة. مسلف
29
ترهل جسمها، فبدت عجوزا درداء
30
مع أنه لم تسقط لها سن. تبشر سعلتها الناس بقدومها، فهي وحدها من بين نساء ذلك الزمان، كانت تدخن. تملك من حطام الدنيا غرفة اختصها بها أبوها، وموقعها قبالة الكنيسة والمقبرة؛ ولذلك كانت تحدثنا عن الكواكب التي رأتها تسقط على قبر فلان وقبر فلانة.
تعيش حنة من مهنتها، فهي قابلة
31
مشهورة تدعى كالأطباء إلى القرى المجاورة. تحدثك عن الحبالى كلما اجتمعت بها كما يحدثك الفلاح عما يرقب من غلال، والخوري عن مرضى، ينتظر رقادهم بالرب ليصلي عليهم ويقبض المعلوم. تصف لك بخل فلان وكرم فلان. وأخيرا تختم حديثها بكلمة لا تنفك ترددها: العبد لا يغني العبد، الغنى من عند الفوقاني، وتشير إلى السماء.
كان صباغ وجهها زاكيا، وكانت فينانة
32
الذقن والشوارب؛ فسموها «عنابة»، وكثيرا ما كانت تغتاظ إذا ناديناها بهذا اللقب المطاط. لا نصرخ يا عنابة حتى تلحسنا ما تحت ذنب الدابة. سجعة هيأتها لتدافع بها عن نفسها، فالذي لا يكفيه لحس الذنب فما عليه إلا أن يعيد الكرة فيفوز بكل ما تحته من مستودعات.
كان للهركولة خطة سير معلومة لا تحيد عنها. تكنكن
33
أكثر النهار في غرفتها، ولا تتحرك ركابها إلا عند الغروب، ولكن ببطء السلحفاة. تخالها تفكر وتتأمل وهي لا تفعل شيئا من هذا. حتى إذا قابلت زاوية الكنيسة الشرقية ترامت عليها بشوق ولذة، «تقبل ذا الجدار وذا الجدارا» كما قال الشاعر، ثم تتلو الأبانا والسلام مرتين، ولكن هذه الصلاة التقليدية لا تروي غليلها، فتلجأ إلى بلاغتها هي، وتخاطب مار روحانا بلغتها، قائلة: يا حبيب قلبي يا مار روحانا، أنا متكلة عليك يا قديس الله، احرسني، سهل أموري، بحياتك تغنيني عن الناس. رزقي عليك وحدك، أنا بنت مقطوعة ما لي غير الله وغيرك.
إن حنة تعتقد اعتقادا لا يتزعزع أن مار روحانا يسهل أمورها؛ ولهذا لم تفجع بعد بامرأة نفساء. وعرفانا لجميل القديس تفرض النذر على الحبالى فرضا، وقبل أن تضع يدها على حبلى تقول لها: اسمعي يا أختي، شرط في الحقلة ولا قتال على البيدر. أيش عندك للجار؟ لا تقول لمار روحانا؛ لأنه أصبح معروفا. فموقفها منه كموقف أبي العلاء من أبي الطيب إذ قال «الشاعر»؛ عرفنا من يعني، يستحيل أن تخلص الهركولة ولدا ما لم تأخذ من أمه شيئا لجارها.
وبعد تلك النجوى الحارة تخرج سبحتها الوردية من جيبها، وتنطلق فارهة
34
نشيطة متأكدة أنها ضمنت معاشها، وكلما قاربت بيتا عرفوها من زحفها وسعلتها وتمتمتها؛ فتتعالى الأصوات من البيوت: تفضلي يا حنة، خشي،
35
ومنهم من يدللها ويغنجها فيقول: يا حنينة، وإذا دخلت وكانوا على الأكل، وقيل لها: انطحي الزاد،
36
تنطحه بعشرة قرون ... ولكن نطحات قرونها العشرة لا تعادل نطحة واحدة من نطحات الوحيد القرن قرياقوس.
كلهم يعزمون عليها لأنها جريدة الضيعة الناطقة. تحمل في كل ساعة خبرا جديدا. وهب أنهم نسوا وأعجبها الطعام؛ فهي لا تعدم خطة تهاجمه بها. تتوسل كل يوم بوسيلة، منها تعليم الصغار كيف يأكلون بالمثل، فتأكل ما شاءت والناس يضحكون، وتوبخهم لأنهم لا يعلمون أولادهم الأكل الحسن. وبعد أن تشبع تلتفت وتقول للصغار: هكذا كلوا المجدرة يا عمتي.
ما بلغت حنة بيت الخوري مسرح حتى طبطبت: إخيه، الدار خالية والضيعة مستريحة. ثم قرعت صدرها، وقالت: ليتها روحة بلا رجعة. الله يسعده ويبعده. والتفتت صوب الكنيسة، وقالت: بجاهك يا حبيب قلبي. وبينا هي مستغرقة في هذه الصلاة العقلية ... سمعت صوت المصلين، فصاحت: يحرز دينك يا عين كفاع، ما أحلاك! ضيعة مثل السما في غيبة خوري مسرح وقرياقوس.
وتقدمت قليلا حتى تجاوزت مار صوما - برصوما؛ كنيسة متهدمة قديمة جدا - لم تصل لها كالعادة؛ لأن خوري الضيعة أفهمها أنها كنيسة يعاقبة - هراطقة يقولون: إن في المسيح طبيعة واحدة - ولكنها تذكرت صلواتها وتأسفت على ضياعها. وتقدمت قليلا فاشتمت رائحة البخور، ففتحت منخريها وشهقت كأنها تتغذى من تلك الرائحة الذكية، ثم صرخت من أعماق قلبها تناجي المصلين: الله يقبل منكم، ويبارك في مواسمكم. ثم اندفعت في طريقها تصلي بحرارة وإيمان دونهما الوقيد.
37
وارتفع من أحد البيوت صوت آنسة تنشد: يا أم الله. فرددت حنة: يا حنونة، ومن أحن منها! لا يعرفها إلا من التجأ إليها. أنا أعرفها، خلصت بشفاعتها مئات من الأمات. هي أم، ولا يعرف ما عند الأم إلا الأم.
وما بلغت المرتلة
38
المقطع الأخير الذي ينشدونه بأقصى ما في الصوت من مدى: تشفعي فينا يا عذرا، حتى قرعت حنة صدرها قرع مهدة لصخر أصم، وهي تقول للمرتلة من بعيد: شدي شدي، الله معك. يسلم لي صوتك الحلو.
وعندما بلغت رأس الضيعة دخلت بيتا تعودت أن تدخله كل مساء لتسمع التأمل. كان في تأمل ذاك اليوم حكاية غريبة، فأصغت حنة جيدا؛ لأنها ميالة طبعا إلى الأخبار الغريبة. ولا بدع، فهي نفسها عجيبة، ذات شاربين طارين وفم ينفتح نحوا من فتر، وساق ليست أكثر من شبر، وكان لها أخ أمسخ منها يمشي على العكاكيز.
دخلت حنة فاستفزتها كثرة المصلين، فقالت: شيء يفرح القلب، بيت محشوك مثل الرمانة. ثم قعدت على عتبة الباب تسمع.
قال القارئ: خبر. فقالت حنة لجارتها: اسمعي اسمعي، أخبار أورياما حلوة. «إنه في سنة 1714 كان شابان يدرسان العلوم في فياندرا،
39
كانا ثاقبي العقل غير أنهما كانا سائرين سيرة رديئة جدا. صرفا نهارهما في اللعب والنهم والشراهة، وعند المساء ذهبا إلى بيت لإهانة الله. وبعد مضي قسم من الليل رجع أحدهما إلى مسكنه وبقي الثاني ليشبع شهواته ويشرب كأس بابل
40
حتى آخرها.
انتبه الذي عاد إلى البيت، وتلا كعادته، ولكن بضجر كلي بعض مرات السلام الملائكي، ثم استغرق بالنوم، فسمع باب غرفته يقرع بشدة، وقبل أن ينهض ليفتح الباب رأى رفيقه داخلا الغرفة بصورة مرعبة، فانذهل وسأله كيف دخل والباب مقفل، فأجابت تلك النفس التعيسة: كان يجب أن نرسل كلانا إلى جهنم في هذه الليلة بحكم الله العادل، أما أنت فقد خلصتك البتول؛ لأنك صليت لها. أما أنا فقد قتل جسدي من الشيطان، وهو مطروح في السوق الفلاني.»
فصاحت الهركولة إهيك، يا ديك الحطب، كنت صليت مثله يا جحش.
فضحك الجميع ، ودروا أن حنة معهم، واستبشروا بخبر جديد.
وتابع القارئ قائلا: «ولتحقق ذلك كشف له رداءه، وأراه النار وكثرة الأفاعي، التي كانت تعذبه. قال هذا وغاب عنه.»
فقرعت الهركولة صدرها وقالت: يا عضرا نجينا.
وفي نهاية الفصل عبارة وجيزة يسمونها نافذة، يكررها العباد ثلاث مرات. أما نافذة هذا اليوم فكانت: الشكر لك أيتها البتول لأني لا أحترق.
فرددوها ثلاثا، وكان أبرز الأصوات صوت الهركولة، ولكنها قالت في النهاية بدون وعي: قرياقوس جا. فضحك فريق وتوقر آخرون، وطار الخبر في الضيعة، فظن الخصوم أن الخوري يوسف مسرح هو الذي سعى لإخلاء سبيله، فأعدوا العدة لاستقبال الخوري عند عودته استقبالا لائقا.
الفصل التاسع
خوري مسرح
في القرى مآس ومهازل تمثل كل حين، ولا تنصب لها أخشاب ولا ترخى ستائر. إنها تمثل في كل مكان: في البيت، في الكنيسة، وفي الحقل، أبطالها كأبطال الروايات والروائع وإن ظلت شهرتها محلية. إن حياة الخوري يوسف بطرس أبي إبراهيم، المشهور بالخوري مسرح، نسبة إلى قريته، مأساة ومهزلة في وقت معا. تراه فتحس أنك أمام مهرج وممثل جدي في وقت واحد.
المعروف عنه أنه خوري بتول، عفيف طاهر الذيل، ومنهم من زعم أنه لم ينظر إلى امرأة قط، حتى امرأة أخيه التي كانت تقيم وإياه تحت سقف واحد. ولما أنس من نفسه ضعفا بشريا، كما يسمي الغريزة رجال الدين، وخاف من نفسه الأمارة بالسوء، قعد الخوري وحده في بيته الذي ورثه عن أبيه؛ ابتعد عن أهله الأدنين خوفا من أن يجربه إبليس الملعون، ويعمل بشريعة موسى فيقيم سهوا زرعا لأخيه ... انفرد خشية أن يتهمه الناس بما كان يتهم هو غيره من الكهنة المتبتلين، وكان إذا سئل عن سبب عزلته عن الناس سالت الآية الإنجيلية على لسانه: «الويل للعالم من الشكوك ...» عرف المحترم - كما قلنا - بنسبته إلى «مسرح» وهي قرية منعزلة هادئة مطمئنة، ولكن الهدوء فارقها حين حلت نعمة الروح القدس على هامة الخوري يوسف، تلك الهامة المستطيلة كالكوساية الهرمة التي غفل البستاني عن قطافها.
يسمون الكهنوت عندنا «دعوة » من الله، ولكن المرجح أن الله بريء من كهنوت هذا الخوري وغيره من الكهنة، فكهنوته كهنوت خبز كجميع الكهنة إلا نفرا قليلا، وما كذب من قال عن أحد هؤلاء حين سيم كاهنا: فتح دكان خوري. وقد صدق في الأكثرين؛ لأن للابس هذا الثوب، بضاعة لا تبور، يرافق الإنسان قبل الولادة ويلحقه إلى القبر.
أراد الخوري يوسف أن يخلف عمه في الولاية على وقف العائلة، فتعلم العلوم الضرورية للكاهن، وزاد عليها ما استطاع تحصيله من علوم الصرف والنحو. أتقن العربية والسريانية، وكان ذا قريحة لا بأس بها ولسان طلق دفعه لتعلم «الشريعة» راجيا أن يتولى يوما كرسي القضاء اللبناني، كالخوري العقيقي، والفاخوري، ويوحنا حبيب، والخوري يوسف الشاعر. ولكن ما كان به من خفة عقل وغفلة حال دون ذلك، فقضى حياته متنقلا بين عين كفاع ومسرح على فرس لا أصل لها. هي كديشة لا فرس، والخوري يؤكد أن فرسه التي سماها سعدى تيمنا ببنت بيت كريم، ذات حسب ونسب. حجة المرحومة أمها معه، وهي مسلسلة حتى جدتها العليا النعامة، فرس ابن عباد، معارض المهلهل في قصيدته اللامية المشهورة، وهي صقلاوية نجمة الصبح.
1
يرد أصلها إلى كحيلة العجوز.
2
وحين ظهر كتاب نجيب بك الخوري في الخيل وفرسانها اشترى الخوري يوسف منه ثلاث نسخ، جلدها ثلاثتها ووضع واحدة في الخرج، وواحدة في العلية
3 - بيت الوقف - بعين كفاع، والثالثة في بيته الذي هو ملك خاص له بمسرح، وكان إذا حدثه أحد عن فرسه وأصلها وفصلها قرأ له الأفشين
4 ... أطلعه على تلك الحجة المحفوظة بأنبوب نحاسي معلق في رقبة «سعده»، وإلا فلماذا قالوا: حجتها برقبتها. وإذا دار حديث السعد النحس في عيال الخيل الكريمة، قام الخوري يوسف، وأخذ بيدك ليدلك على النياشين ويقول لك: سبحان الخالق! ما خص الله حيوانا بما خص به الخيل الأصيلة؛ فكل مخلوقات الله ليس فيها هذا الدليل. فهذا نيشان السلطان وهو على شكل ريشة يدل على السعادة.
ويهرول الخوري حتى يشرف على قبو الفرس وبناتها، ويصيح بصوت جهوري، واقفا على كل كلمة: رفول ... يا رفول ... هات سعده ...
فيرد عليه رفول بصوت لا يفسر: الله لا يسعدك.
وتمشي سعده تنظر إلى الخوري نظرة فيها دلال وشوق، فما تكاد تصل حتى يتعلق بقربتها الطويلة ويضحك لها ضحكة أبوية. وتحمحم سعده فيصيح بها صيحة فيها غنج كثير: اسكتي «وليه».
ثم يدع العنق وينحدر ليريك نيشان الصدر، وهو عنوان الكسب والنعم. ثم يمعن في الانحناء حتى ينطوي كالخيزران، ويكاد يزحف تحت بطنها ليريك نيشان الحزام: وهو يزيد الخير في البيت. وينتصب أخيرا بعض الشيء ليريك على الخواصر نيشان الشابور،
5
ويقال له: المهماز، وهو يدل على انتصار إذا اتجه إلى أعلى، ويدل على زيادة الغنى إذا اتجه نازلا.
أما نياشين النحس فلم تمنح العزة الإلهية فرسه شيئا منها ليدلك عليها، ويختصر الكلام عنها بقوله: هل ترى على الفخذ شيئا؟ تأمل جيدا، فأسوأ النياشين نيشان الفخذ. - الحمد لله. وألف شكر.
واطلع في إحدى ليلاته السود على حكاية «البراق» حصان النبي، الذي عرج وهو راكبه على السماء، فزعم أنه جد سعده الأعلى، وأن خضرة دياب بن غانم، بنت عم ستها.
هذه حكاية فرس الخوري يوسف. أما وقفية مسرح فعقارات مغلال في قرية عين كفاع، وولاية الخوري يوسف عليها خربت ضيعتين: عين كفاع ومسرح، كما قرأ وتقرأ خبر أحداث عين كفاع. أما أخبار مسرح فلا محل لها في قصتنا.
أذكر ولا أنسى يوم قال لي والدي: رح تعلم عند خوري مسرح، هذا من أقاربنا، وهو من الملافنة. ورحت إلى علية العلامة الملفان في عرف والدي؛ فأعطاني كتاب مغني المتعلم عن المعلم، لعلامة عصره المطران يوسف الدبس، صاحب تاريخ سوريا. وطاب لي التعلم عند خوري مسرح لخفة روحه وحرية فكره، فبضاعته غير بضاعة جدي الخوري حنا، المتزمت المتشدد.
وقرأنا معا - أي أنا والخوري يوسف - مسألة عودة الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة، وكان المثل على ذلك: وكلم موسى ربه؛ فإذا بالخوري يفاجئني بقهقهة قرد عتيق، ويقول: صدقت يا ابن عمي؟ إياك أن تصدق. الله لا يكلم أحدا. هذي خلطة من خلطات التوراة، ولو كان لي سلطان على الكتبة والفريسيين لمنعت قراءتها. فإن التوراة تدخل الشباب في التجارب ... وتعلمهم ما لا يعرفون من قصص الزنا والسادومية.
قلت: وما هي السادومية؟
فقفز الخوري فوق سؤالي كما تقفز السيارة فوق خط الترام، وقال: أتعرف كيف فسر ذلك علماء الكنيسة؟ قالوا: كان الملاك يكلم موسى لا الله، وهذي خرطة أيضا، ولكنها أصغر من هاتيك.
فقلت: لتصير مقبولة.
فصاح: لا مقبولة ولا شيء. لا تصدق يا مارون.
وفي المساء سألت جدي عن معنى كلمة «السادومية»، فاضطرب وقال: وممن سمعتها؟
فقلت: من خوري مسرح، ورويت له ما سمعت منه حرفا حرفا.
لم يقل لي جدي أين قرأتها؛ لأنها لفظة لا يقع عليها إلا الراسخون في علم اللاهوت، وأنى لمراهق مثلي أن تصل يده إلى خبايا كتاب اللاهوت الأدبي وما فيه من أخبار نظيفة ... ثم اختصر جدي الحديث، ولم يزد على قوله: إياك تروح صوبه بعد، أنا أعلمك وأبعتك بعد حين إلى أكبر مدرسة. وقام وهو يقول: زعزع الخوري إيمان الصبي، وعلمه ما لا يعلمه من أخبار الفسق والفجور والكفر. ماذا تنفع خوري مسرح بتوليته ومعرفته علم الشريعة إذا كان بلا إيمان ولا يقدر العواقب ويشكك الناس.
أما الخوري فهو لم يتعلم الحقوق ليتعيش بعلمه، بل ليدافع عن وقفيته التي أضاف إليها جميع أملاكه الخاصة، وجعل الجميع تحت سلطة البابا ليتخلص من البطرك الماروني وتسلطه عليه.
وعلى ذكر الحقوق نروي هنا عنه نادرة تدل على قلة كياسته. قيل إنه كان مرة عند البطرك بولس مسعد المؤرخ اللبناني، مؤصل الأسر اللبنانية، فسأل البطرك الخوري يوسف عن حاله، وكيف هو وعلم الشريعة؟ فأجاب الخوري البطريرك: علم الشريعة هين جدا. لا يصعب على غبطتك، إذا قصدت أن تتعلمه. فزأره البطريرك ثم صرفه من حضرته بلباقة وكياسة.
وظل خوري مسرح صديقا للبطرك حنا الحاج طوال أيام رئاسته، وصادق بعده المطران يوسف بو نجم، داهية الموارنة الإكليريكيين. كان يعلق الخوري يوسف على تلك الصداقة آمالا كبارا ... إلا أن أمله خاب إذ مات البطرك يوحنا، وفاز المطران إلياس الحويك بالبطركية، وبايعه أبو نحم وإن لم يحز ثلثي الأصوات؛ خوفا من تدخل رومية الذي يجيزه لها المجمع اللبناني عند وقوع الخلاف على انتخاب البطريرك، وتعيين من تريد هي بطريركا، وتلك مشكلة الموارنة الأبدية. نزاع دائم على الحقوق بين البابا أسقف رومية وبين البطريرك الماروني أسقف أنطاكية.
وظل أبو نجم يعطف على الخوري يوسف، ولا يدخن إلا التبغ الجبيلي المشهور بالكوراني، وهو مما تنتج أجوده أرض عين كفاع، وهذا بالطبع مفروض على الخوري لسيده المطران؛ ليحمي ظهره من الدسائس، ويكون في عونه على من يشاكسونه
6
وينصره ظالما أو مظلوما.
كان إذا قصد بكركي يدخل من باب سري يؤدي إلى غرفة المطران بو نجم، لم يكن يعرج على البطرك إلياس إلا إذا وقعت العين على العين واضطر إلى ذلك. ففي كرسي بكركي مراقبون للوجوه والأعيان، ولكل وجيه أو إكليريكي متنفذ، مرجع في ذاك المقام، قد يزوره ولا يزور سواه من سادات الكرسي، والخوري يوسف كان من حزب المطران أبي نجم ولا يزور غيره.
لم يكن البطرك إلياس يستمرئ حديث الخوري مسرح، ويعتقد أنه خفيف العقل، وهو كذلك. كان يعرفه لأنه ابن حلتا، وحلتا ليست بعيدة عن مسرح. كان يعرف عقله وميوله، فقلما كان يسمع للخوري يوسف كلمة، والخوري يوسف كان غير هين، يحب المعاكسة، فكان يقف دائما في صف المعارضة. فعندما حمي الشر بين رستم باشا والإكليروس الماروني كان الخوري يوسف مع رستم ضد أحبار الطائفة، والخوري إلياس الحويك - البطرك إلياس - كان حامل العلم في تلك المعركة، يناصب رستم العداء بالنيابة عن سيده البطرك مسعد.
وأخيرا راح رستم وبقيت بكركي ... حزم الباشا حقائبه، وتوجه ليركب البحر فسبقه الخوري يوسف مسرح إلى ميناء بيروت، وبدون مبالاة بالموارنة نزل على عيني وعينك يا تاجر إلى الباخرة، التي تقل رستم باشا إلى الآستانة ليودعه، وأنشده قصيدة حامية عرض فيها بخصوم الباشا من الإكليروس، ولم يسلم من لسانه أحد، لا بطرك ولا مطران. وجاء دور الانصراف، فرافق الباشا شاعره خوري مسرح إلى سلم الباخرة، وظل يشيعه بالفرنسية على الطريقة التركية: أوريفوار بار
7
مسرح. حتى ركب القارب.
وكتمها له المطران إلياس، الذي صار فيما بعد أظهر بطاركة الموارنة جسارة وعنادا، ونسيت أم القاتل فجاء الخوري يهنئ البطرك إلياس، فغفر له وقبل توبته على شرط أن يقل من دعاويه على أهالي عين كفاع وأهالي مسرح، ويحب السلام ... وأن يدع الامتياز الذي منحه إياه رستم باشا، أما هذا الامتياز فهو أن الخوري ادعى أمام الباشا أن وقف «سيدته» مهدد دائما بالاعتداء، وهو لا يستطيع دفع الرسوم المفروضة على من يدعي عليهم، فأعفاه وصار الخوري يقيم الدعوى على من يصبحه ويمسيه بنبرة ... وأخيرا صار يقيم الدعوى على نصف أهالي عين كفاع وثلاثة أرباع أهالي مسرح، فتراهم على طرقات محكمتي جونيه والبترون كعصافير العابور
8
في الربيع.
صعبت محبة السلام على الخوري، وطلب مهلة ليفكر بعاقبة ترك هذا الامتياز، وبعد مدة عاد إلى الكرسي ليقص على البطريرك حكايات الاعتداءات على وقف سيدته حين عمل بأمر صاحب الغبطة. فاستكثرها البطرك، ولكنه يعرف أن الخورين قط شر،
9
كما يقولون عندنا، فوسع صدره.
كانت في الخوري يوسف غفلة،
10
وهو من الذين يضحك عليهم ولا يشعرون، وقد عرف البطرك إلياس تلك الخلة فيه. وكانت ساعة رضا، فقعد غبطته للخوري مسرح يسمع حديثه. وكان البطرك من محبي النكتة ومجيديها، وهو يريدها إذا كانت لا تمس الوقار البطريركي إلا قليلا جدا. ففتح غبطته باب الحديث على مصراعيه، وقال للخوري يوسف وسأله بتهكم ناعم: كيف حال سيدتك اليوم يا خوري يوسف، إن شاء الله تكون راضية، وتعمل عجائب بالجملة ...
فابتسم الحاضرون، وقال الخوري يوسف: يظهر يا سيدنا أنها صارت تأخذ ثأرها بيدها، ولم تبق لنا حاجة إلى الحكومة.
فقال البطرك: عال عال. إذن أراحتك من النط
11
على شط البحر وارتاحت سعده، وخلصت من لسانات الناس.
وأراد الخوري يوسف أن يستلم حديث الحمراء الأصيلة ونياشينها، فقال له البطرك: هات أخبار سيدتك أولا. ماذا عملت عجائب طازة؟
فقال الخوري بلا مقدمة: هجم علي ساسين روحانا، وأمسك بلحيتي عندما قلت له: رد عنزاتك عن توت السيدة يا ملعون. وأخذ يسب دين ذقني، ثم راح يقص قضبان التوت ويرميها على الأرض للعنزة، فافتكرت أن أشتكيه للباشا. وعشيت الحمرا على نية السفر إلى بعبدا، ولكن ما صبح إلا فتح. جاء الخبر أن عنزة ساسين تشركلت
12
في الليل وماتت وأكل لحمها مع جيرانه.
فضحك البطرك، وقال: بالرزق ولا بصحابه.
فقال الخوري: وأخيرا يا سيدنا وصل موسى عجائبها إلى ذقون الناس: سركيس الكريدي، الذي كان يربط
13
لي عادة بالمسروب - أظن أن غبطتك ما نسيت المسروب، ذلك المحل القفر الوعر والمغاور المرعبة، فقد كنت تقطعه ماشيا إذا كنت لم تنس - هناك ربط لي الكريدي، وأخذ الخرج عن ضهر الفرس وضربني كم عصا، هذا ما وقع بالحرم يا سيدنا. - وأين ضربك؟ - على كعب ظهري ...
فقال جناد أحد شمامسة غبطته: الذي يضربك يربح غفران سنة كاملة.
وضحك الخوري اسطفان الدويهي، وقال: رأسك مكرس لا قفاك يا خوري يوسف.
فكتم البطرك ضحكته تحت رفرافي حاجبيه، وقال: رفول أخوك، ما كان معك لما ضربك الكريدي؟
فقال الخوري: رفول الهبيل! اسمع ما قال للكريدي: اضربه يا سركيس، ولكن لا توجعه كثيرا حتى يتربى ويتعلم كيف يجوعني.
فقال البطرك: يا ويلاه يا حالاه! وآخر عجيبة يا خوري يوسف. - طلع ابن حنا يعقوب على توتة السيدة في الحليوية،
14
وما أخذ منها ورقتين حتى سقط ميتا على كعبها.
فعقد البطرك جفونه، واستفزته كلمة الخوري، فقال له: المسيح، يا خوري يوسف، افتدى الناس بدمه، وأمه التي تسميها سيدتك تقتل زلمي بورقة توت في أيام تشرين؟ هذه ضبعة لا سيدة، يقلع لك ولسيدتك، قم بره. أي اخرج.
وترك البطرك قاعة السهرة، وقال للخوري وهو ذاهب: صل يا خوري يوسف حتى يهديك الله، ويستريح أهالي عين كفاع ومسرح من شرك، أقلقتهم وأنت وحدك، واليوم صارت معك سيدتك تسند لها حتى تحمل لك. أنت لو شبعت أخاك رفول لرد عنك الناس، وما كلفت السيدة. أنا أعرف رفول، رفول عملاق، يقاوم طابور عسكر.
وذهب البطرك إلى جناحه في بكركي، وبقي الكهنة والشمامسة يتنادرون على الخوري. يمجدون فرسه الحمراء الأصيلة ويبجلون تتنه الطيب، وظلوا يلفون السكاير ويعبئون الغلايين؛ حتى كادت ضبوته تفرغ، فأمسك.
وكان الخوري يعتقد من كل عقله أن عجائب سيدته شملت حتى التراب الذي حول بيته وكنا نطري له البطاطا والبندورة والمقتي - القثاء - التي تنتجها حاكورته.
15
كان يتخيل رأس البطاطا نصف إقة، ورأس البندورة إقة، والمقتاية أربعة أشبار، فأخذنا رأس بندورة من مكار ميفوقي،
16
وغافلنا الخوري بعدما وضعناه في عب غرسة البندورة، وصحنا به: وهذي عجيبة يا خوري يوسف، تعال تفرج.
وهرع الخوري وهو يصفق بيديه على ركبتيه، ويقول: من لا يؤمن بعد اليوم بقدرة سيدتي!
ومن أضاحيكه التي لا يسعها مجلد ضخم أنه كان يقدس يوما ... وقطعت فرسه رسنها، وخاف أن ترعى الخضار الذي حول الحارة، فخرج من الكابلا تاركا الكأس والقربان على المذبح، وشرع يركض خلف الحمرا وعليه ثياب التقديس ...
تصور كاهنا عليه حلة القداس وهو يركض خلف بهيمة، ولا يتذكر أنه ترك الذبيحة الإلهية؛ ليخلص عشبة من فم فرسه، وما حسب أن الهر قد يدخل ويأكل جسد الرب ...
فالخوري يوسف على ما فيه من هنات غير هينات، كان يظن نفسه نابغة عصره لا يعجبه أحد، ولا شك أن القارئ يتوق إلى صورة له كاملة، تامة الخطوط والألوان، وها نحن نرسم له بعض نواح من تلك الصورة، كما كنا نراه في مباذله. •••
الخوري طويل طويل، مديد القامة، منتصبها كعمود التلغراف. إذا وقف أمام بيته في عين كفاع خلته جذع سروة حد مقبرة. أبيض الوجه، قصير اللحية، عيناه مستديرتان كأنهما ثقبتا بالخربر، ابتسامته فيها حلاوة البلاهة. يداه تتدليان كأنهما معلقتان، فإذا مشى تنوسان كالمراوح. قاووقه
17
طربوش مغربي، ملفوفة عليه شملة سوداء ذهب لونها من طول ما نصبت على ذلك الشراع. كانت تهتز الحارة إذا تثاءب ويسمع صوته في الوطا، وإذا سعل يملأ وجهك رشاشا، وإذا تمخط في منديله القذر فهناك سيمفونية عجيبة.
على غنبازه بقع متعددة الأشكال والألوان، وعلى صدره يتدلى بند حريري لمعته الأوساخ، يربط في آخر آخره ساعة ليبية يتدلى مفتاحها بخيط غليظ على زناره.
وذاك الغنباز الدهري غير مزرر، وهو ذو بردين
18
ينطبقان على قد كغصن البان، وحين يشد زناره يبدو خصره زنبوريا.
كان الكهنة الموارنة القدماء يحذفون شرابة الطربوش، أما الخوري يوسف الشاذ فأبقاها، حتى أنه لم يكن يعرف وهو على ظهر فرسه، أخوري هو أم أنه من المغاربة الدجالين الذين ينادون على ما في خرجهم من أدوية: دوا للعين، دوا لوجع الضهر، دوا لوجع البطن. معنا لكل شيء دوا.
أما حفافي ذلك الطربوش المغربي فتصلح للزراعة لكثرة الوسخ الذي عقد عليه، فلو زرعت الفجل في ذلك الهلال الخصيب لغرز فيه ونما، ومع كل هذه القذارة كان الخوري مترفضا، ما رأيناه يأكل أو يشرب عند أحد.
أما بيته فأقذر من طربوشه وأذنيه، ترتيبه غريب عجيب، الشروال الوسخ ملقى فوق الغفارة وبدلة التقديس،
19
والصرماية حد الطابية،
20
وزناره فوق البطرشيل،
21
وكأس التقديس
22
في قرطل الملاعق، وعلبة البرشان فوق جديلة التوم. العفن والعنكبوت والصراصير والزبالة تؤلف في ذلك البيت كوكتيلا عجيبا، صوف فراشه منكوت، وقطن لحافه يجن جنونه ويتطاير من ذلك الكيس كلما هب الهواء. ما رآه أحد يغسل رأسه أو وجهه، بل كان ما هنالك أنه كان يبل أصابع يديه بجرن الصفوة
23
وهو مار إلى الكنيسة ليقدس. كان يقدس في كنيسة مار روحانا، ولكن وعظة الخوري حنا صادق حملته على تكريس
24
القبو والتقديس فيه ... والخبر سيأتيك.
ما غسل وجهه ورأسه غسلا كاملا إلا يوم سافر بالسلامة إلى رومية ومعه صكوكه الملوثة بالزيت وأقذار أصابعه. ذهب ليشكو البطرك إلياس، وهناك في المجمع الشرقي
25
نشر تلك الصكوك القذرة على مكتب نيافة الكردينال، وراح يقص عليه فصول رواية عجائب سيدته؛ حتى قال له الكردينال مري دلفال: لماذا تتعب قلبك بسرد هذه الأخبار؟ فالسيدة مثبتة، وكل عام يخلع عليها الفاتيكان لقب قداسة جديد ... فوق لقب الحبل بلا دنس.
فأجاب الخوري وهو واثق بكل كلمة يقولها: سيدتي غير سيدات العالم.
وعندما طالت إقامته في الفاتيكان رأى حلما، فحمله على كفه، وهرع إلى كردينال المجمع الشرقي يقصه عليه: يا سيدنا في هذه الليلة زارتني سيدتي وأمرتني بالرجوع إلى لبنان.
فقاطعه الكردينال قائلا: هذا عجيب! سيدة تجيء إلى الفاتيكان بالليل. كيف دخلت؟!
فقال الخوري مسرح بالعربية: هذا أضرب من البطرك إلياس!
ثم حدق إلى الكردينال ليقول له: دخلت مثلما دخل الملاك عليها ليبشرها.
فأدرك الكاردينال ما يعني الخوري، وقال له: الأمور تطول مدتها في الفاتيكان.
فنبر الخوري بالكردينال، وقال: لا أقدر أن أبقى أكثر مما بقيت. هي أمرتني بالرجوع ولا مرد لأمرها، سأعود غدا.
فقال له الكردينال: إذن خذ أوراقك معك، وقدمها للقاصد
26
في بلادك، وهو يفحص دعواك ويكتب إلينا.
فقهقه الخوري قائلا: قدمتها من زمان، ولو كان عمل لي شيئا ما كنت تعذبت ولا جيت. - كان الأحسن ألا تتعذب يا أبت المحترم؛ فالدعاوى في رومية لا تنتهي ...
فقال الخوري للكردينال بوقاحة: يظهر أنك شرقي.
فضحك الكردينال، وقال: ولو لم أكن من الشرق لم أحسن تأجيل الأمور وتطويل مدتها. •••
وعاد الخوري يوسف من رومية، وكم ضحكنا عندما رأيناه «يلولح بين التوت»
27
ببرنيطته المخملية ... عاد إلى وكره ليعيش على خبز القمح السلموني، الذي كان يشكره جدا ويحمده، ويقول عنه إنه مثل اللحم، وعلى الجبن واللبن والكشك المجبول مع البصل، فهو يكتفي بما ذكرت ويسميه طبخا جاهزا؛ ولذلك لم ير أحد الدخان صاعدا من بيته. قلت بيته ولم أقل مطبخه؛ لأن ليس للقدر في ذلك البيت مكان تسند إليه كعبها.
ليس في بيته قدح أو كباية، فهناك إبريق بلا رقبة، بلبلته مقرومة. فإذا ما زرته شتاء، وهو يقتني أجود أنواع الخمور، فك طاسة كأس التقديس من شمعدانها، وأغرقها في الخابية بإصبعيه المسمدين وسقاك على ذكر المسيح مدامة ... وفي الصيف يسقيك من ماء بئره البارد بطاسته الفضية المزرقة.
قد تظن أن هذا الخوري قليل الإيمان غير تقي، ولكن لا؛ فإيمانه قوي ولكن على ذوقه. لا يعتقد بالتهاويل ولا بما ينصبه رجال الدين من مفازع
28
حول قدسياتهم.
عند النصارى لا يجوز إلا لمن يأذنه الأسقف أو الخوري أن يمس كأس التقديس، فقصد يوما واحد من عندنا الخوري يوسف، والتمس منه الإذن بإمساك الكأس، فأجابه الخوري على الفور: أمسكه.
فقال ذلك الرجل: أعطني الإذن أولا.
فقهقه الخوري وقال: أعطيتك، أمسكه، هذا هو ...
وجاءته مرة امرأة واضعة جديدا، وسألته أن يدخلها إلى الكنيسة. ولدخول الواضعة حديثا إلى الكنيسة، رتبة
29
صلوات غير قصيرة، تبتدئ عند خد باب الهيكل الخارجي، وتنتهي في صحنه أمام المذبح، فقال لها: روحي ادخلي.
فاستغربت المرأة ذلك، ولم يعجبها هذا الدخول، فقال لها الخوري: يا أم إلياس، إذا كنت نجسة لأنك وضعت ونزفت فالخوري لا يقدر أن يطهرك بما يثرثره لك؛ طهري قلبك أولا وما تطلبينه من طهارة فوق ذلك يأتيك من عند الله لا من عندنا.
هذي غرائب وعجائب خوري مسرح، وإذا فاتني منها شيء في هذا الفصل فستأتيك بعدئذ أشياء من أشيائه في سياق الكلام.
أما أشهر مزاياه فهي أنه بري غير داجن، لا يزور ولا يزار، ما خالل وصادق غير قرياقوس، ولعل ذلك ناتج عن تطير. كان الخوري يتشاءم، وكان يقول عن صبي كريه الطلعة: هذا شيطان أزرعه يفرخ.
وبيت الخوري على درب عام، والناس تمر من قدامه أفواجا، فكان يصرخ كلما استبشع واحدا، ويصفق على فخذيه ويصيح: يا الله! أشكال وألوان خلائقك يا آدم!
الفصل العاشر
حفلة استقبال
صباح النوري ولا صباح الخوري، هكذا قال فارس آغا حين التقى بخوري مسرح وهو راجع من جونيه إلى مركز جبيل. أما الخوري فقال ما قال، كما جاء في الفصل الأسبق.
كانت فرسه قد رالت
1
ورآها أخوه رفول، رفيق المحترم الأزلي، فصاح: خيي خوري يوسف! الفرس راح تقرط لجامها؛ فصاح الخوري بذاك المعتوه: امش يا مهبول. ضربة تقرط رقبتك، وطي صوتك.
فمشى رفول بالورب منتظرا وقوع الشكيمة
2
من شدق الفرس، ورأى ريالها يشت
3
فصاح: يا خيي خوري يوسف، الفرس ريالها نازل، راح تستفرغ.
فلم يفهم مما قاله الخوري، وقد رأى ثلاثة رجال جالسين على مصطبة دكان قبل «بلاطة الغرباء»،
4
إلا قوله لأخيه: سد بوزك يا حمار. لا تجرسنا أمام الناس.
فنهض الرجال الثلاثة، ووقفوا في وجه الفرس فمالت عنهم، وقبل أن يسألهم الخوري عما يبغون أحاطوا ثلاثتهم بالفرس يتأملونها، فقال واحد منهم: صقلاوية.
وقال الثاني: معنقية.
وقال الثالث: الحق مع الذين قالوا إنها أصيلة من سلالة كحيلة العجوز. قد وجدنا غرضنا، ولكن الأوفق أن نتابع طريقنا حتى لا يطمع فينا.
والتفت قيدومهم إلى الخوري وقال له: لا تؤاخذنا، ألهتنا كحيلتك يا شيخ، فتحدثنا معك بلا سلام ولا كلام. كيف حال جنابك يا شيخ؟ ومن أين أنت قادم من غير شر؟
فقال خوري مسرح: من جبيل، غدوت من جبيل على أمل أن أقدس في بكركي.
فهز أحدهم برأسه، وقال: لا تؤاخذنا يا محترم، خمناك من مشايخ اللقوق. هل تعرف الخوري ... الخوري ... الخوري؟
فقال الثاني: يوسف، وغاب عنه ما بقي، فأدخل الثالث يده في عبه، وأخرج دفترا صغيرا قرأ فيه: الخوري يوسف مسرح في عين كفاع بيته في نصف الضيعة حد الكنيسة.
فبش لهم الخوري، وحاول أن ينزل عن سرج الفرس، ولكنهم تعلقوا ثلاثتهم به: هذا بيده وذاك برجله، وأقسموا ألا ينزل.
قال الأول: لا تكلف نفسك، نحن نريد منك سؤالا وجوابه. هل تعرف الخوري مسرح.
فضحك الخوري وقال: وصلتم، أنا هو خوري مسرح.
فالتفت واحد إلى رفيقيه وقال: يا سبحان الله! قلبي دلني، وقال لي إنه خوري مسرح. - نعم يا أولادي، أنا هو الخوري مسرح بعينه. ماذا تريدون؟ ومن أين أنتم؟ عرفونا بحضرتكم.
فقال الثاني: وأنا أبصرت في نومي أنني التقيت به اليوم، ونسيت أقول لكم.
فقال الخوري: ما عرفت بعد ماذا تريدون منه.
فقال الثالث: نريد منك ... إذا كنت تريد بيع فرسك؛ فهذه الكحيلة الأصيلة مطلوبنا.
فقال الخوري: عرفتم أصلها وفصلها! فهذي حجتها برقبتها، والخيل الأصيلة لا تباع «قلط»
5
بكاملها. يجب أن يبقى لي ربعها، وأول مهرة تلدها عندكم تكون لي.
فقال الأول: هذا مفهوم في شريعة الخيل الأصيلة، بقي أن نعرف الثمن.
فابتسم الخوري وهش وقال: ادفعوا لي مبلغ ثمانمائة ليرة عسملية ثمن ثلاثة أرباعها.
فقال الثاني: هذا كثير، ما معنا إلا أربعمائة.
فكخ الخوري، وقال بهزء: خيطوا بغير هذي المسلة، ما معكم إلا أربعمائة! الذي يريد أن يقتني فرسا ستها كحيلة العجوز، يجب أن يكون معه ألوف.
فقال الثالث: وأنا معي مائة ليرة فما قولتك؟
فضحك الخوري ضحكته الاحتفالية الصارخة، وقال للرجل: اثقبها واعمل منها رشمة لسعده إذا اشتريتها، أما الثمن فلا ينقص بارة.
فقال الرجل: بلا طول سيرة، هل تبيعها يابونا بسبعمائة؟ - لا. لا. ادفعوا لي سبعمائة وخمسين وما بعتها. - وإذا دفعت لك سبعمائة وخمسة وسبعين ألا تعوضنا البركة؟ - لا يا ابني لا.
فقال رفول: بيعها يا خيي خوري يوسف. بيعها قبلما تموت مثل أمها. أولادها ثلاثة خلفها وهي حامل.
فصاح به أخوه الخوري: اسكت يا بهلول؛ أمي خلفتك قبل الوقت فطلعت نصف مجذوب.
فابتعد رفول عن مرمى الكرباج الذي بيد أخيه، ووقف ليقول للثلاثة: روحوا يا عمي روحوا، هذي فرس تكدش وتلبط وتنام تحت خيالها.
وأشار الخوري بكرباجه صوب أخيه، فسقط الكرباج على صدر الفرس، فأرنت
6
واشرأبت، ورمت الخوري فتهاوى الثلاثة عليه. هذا يمسح ما علق بثيابه من غبار، وذلك يعيد إلى الخرج ما سقط منه. وأخيرا نهض المحترم من كبوته ممرغا كأنه قاروط مطحنة، وبعدما تمكن من جلسته في قربوس
7
فرسه، شمع أخوه رفول الخيط، وهو يتلفت.
هذا فصل من فصول مهازله؛ فهو لم يبع من خيله لا فرسا ولا مهرة ولا مهرا. كان يثمنها كما يبدو له أنها تساوي، ولا يبيع قط، حتى قال فيه شاعر عامي:
صاحبنا عندو كديشة
وما عندو تا يعشيها
إن جاعت تاكل دقنو
وإن شبعت ... فيها
وعرف الناس فيه هذا الضعف فكانوا يهزءون به كلما مر بخيله على سيف البحر.
وواصل الخوري مسرح سيره إلى حريصا،
8
حيث يصطاف القاصد الرسولي، وعاد منها ومعه عشر ذهبات فرنسية حسنة ستين قداسا، فبدلا من أن ينفقها في سبيل خير الناس كان يبذلها في خدمة الشرير، ويساعد على إدخالهم في التجارب. •••
ها هو ذا الخوري مسرح يحث «الحمراء» عائدا إلى عين كفاع، ويناجيها ويتحدث إليها حديث العاقلين وهو نشوان بخمرة الظفر. يفديها بأبيه وأمه، ويثني على همتها القعساء، هازئا بأخيه رفول الذي كان يبربر وهو يتبعه. والتفت الخوري فكاد لا يصدق أنه أطل على عين كفاع
9
من قرقفة شامات.
10
وأخذ يردد كلمته المشهورة في تمجيد تلك القرية الصغيرة: هاي هاي يا عين كفاع، يا قرقورة ربنا!
كان يحلم الخوري في يقظته المسافرة باحتفال شعانيني
11
يلاقيه به أنصار قرياقوس، أما أخرج قرياقوس من الحبس وخلصه من تهمة جناية؟ فلماذا لا ينتظر مهرجانا! غير أن ذلك المهرجان لم تظهر تباشيره.
قد تقول: وما قيمة خروج قرياقوس من الحبس؟ وهل قرياقوس نابليون العائد من جزيرة ألبا؟ ولكن العجب يزول حين تعرف نفسية القرويين في ذلك الزمان، أما اليوم فيدخل أحدهم السجن، وكأنه مدعو إلى حفلة تكريم ... صاروا يقولون: الحبس للرجال، وقتلة الرجل عندهم كشربة الماء. كان البطل يقتل واحدا بعد ألف جهد، أما اليوم فصار النذل الجبان يقتل الناس بالجملة، ولا يكلفه ذلك من العناء أكثر من هز يده ورمي قنبلة خفيفة لطيفة.
واجتاز الخوري بين دكاني الصليب
12
القائمين من عن يمين ومن عن شمال، وما رأى أحدا من الملاقين المحتفين بمقدمه، ولما هبط الوطا واندس بين الزيتون طلع عليه ثلاثة شباب ملثمون عرف منهم «الكريدي» فطار قلبه، إلا أنهم لم يمسوه بأذى خوفا من صراخه، ولا سيما أنهم سمعوا حس ناس في الحقول، فخافوا أن يجيئوا على الصوت ويشهدوا عليهم فيما بعد.
وتحسب الخوري لأمر يأتي، فأرخى لفرسه العنان، فتمسك بعرفها كأنه من خيالة العرب، أو شيخ من فرسان اللقلوق، كما أراد أن يوهمه أولئك الثلاثة، فطلعت الفرس في ميدان دل بعض الدلالة على أصلها الذي كان قد تبجح به الخوري، محاولا أن يدل على الأوسمة التي يتخيلها في جلدها.
لا تستغرب كلمة نياشين؛ فالخيل الأصيلة تعلق لها الأوسمة وهي في البطن، وليست تتوسل للحصول عليها بإرضاء الوزراء والرؤساء كما يتوسل الناس. وسامات البشر عارية تشك بدبوس، ونياشين الخيل المعقود بنواصيها الخير، تدل عليه هذه النياشين وهي ثابتة في جلدها لا تزول.
لم تقف الفرس إلا على معلفها قدام باب حارة الخوري الذي وصل مكشوف الرأس؛ لأن طربوشه علق بذيل زيتونة، ولم ينزل يلمه خوفا من أن يحيق به المتربصون.
نده جاره يوسف زغنا: ولاه، يا يوسف، رح فتش لي على طربوشي. وقع عن راسي قرب بيدر كفر.
13
وبعد غيبة قصيرة رجع يوسف بذاك الطربوش الطويل العمر سالما. لقد أعطينا هذا الطربوش بطاقة هوية تظهر شكله، وأصله وفصله، في الفصل السابق. ومن أهم ميزاته: أنك تحسب دائرته مطينة بتربة رصاصية اللون، كالأوحال التي تخرج من بئر الخوري في تشرين قبل استقبال مياه الشتاء الجديدة التي تستقر في الصهريج ممزوجة بالحوارى.
وأقبول الموالون للمحترم والتفوا حوله يدعون له بالنصر وطول العمر؛ لأنه رفع رأسهم، وشال الزيز من البير، ودعس رقبة الآغا نصير خصومهم.
وأخيرا طل القمير، وصل قرياقوس وهو يهدج كالقنفذ، وأطلق صوته العريض وكركر في قهقهته القردية، فتطايرت شظاياها من زوايا البيت الأربع، فاستفز الآخرين الذين كانوا يسرقون الحديث ونووا على الشر.
وبعد التحيات الحارة وبث الأشواق في سهرة طويلة الذيول، شجونية الأحاديث، انصرف الناس من عند الخوري الزعيم، القليل الاحترام، فاندس في فراشه. وما هدأت الرجل وغفا حتى استيقظ على طقطقة حجارة، تسقط على القرميد كأنها تكركر في الضحك.
قعد في فراشه يتنصت ويرعد كالمقرور،
14
ولحيته ترقص بهدوء، ويداه ترتجفان بوقار، ثم وقف استعدادا للطوارئ منتصبا في منتصف الغرفة يتوقع نزول الكارثة. وانقطع الحس هنيهة، ثم توالى رشق الحجارة من الأربع جهات؛ فجمد الخوري في مكانه يفكر من أين المهرب، ولكن لا مفر من ذاك المضيق. الخروج خطر جدا لأن سلم الحارة ليس إلا خشبات مشكوكة بالحيط؛ فلينتظر إذن حتى يهاجموه في البيت، فيسلم من السقوط وتكبر الدعوى وتصير جناية ... أما قلنا إنه تعلم الشريعة! فهذا أوان العلم والشد، وليس لقضاء الله رد.
بيت قرياقوس بعيد، وهو في منحنى، يشرف عليه من موقع استراتيجي بيت طنوس فارس خصم الخوري مسرح وقرياقوس. كان جيران الخوري أعداء له، وهو غريب غير أديب، وليس له بينهم نصير، فإلى أين المفزع؟ إذن فليصبر حتى تحل الأمور بعضها. إلا أن الحل لم يكن في جانب الخوري، فهاهم يحاولون فتح الباب.
قال الخوري في نفسه: إذا صرخت هاجموني وأطبقوا علي، ومن يعلم ما تكون النهاية؟ فأقر أن يتركهم يفعلون ما يشاءون.
ها هم قد دخلوا البيت فرأوا الخوري جامدا منتصبا في وسط غرفته كالشبح، فقال له أحدهم: يا لحية الكلب من الذي دعاك لمساعدة قرياقوس علينا. خذ هذي تنفعك، وهذي تضرك ... والخوري ككل ضعيف كان يودع الضربة الرائحة بكلمة آخ، ويستقبل الآتية بصبر وجلد، وهو صامت كالسمكة، وكأنه يعمل بقول سيده يسوع المسيح: من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأيسر.
وأخيرا سال الدم من أنفه، فظن أنهم أصابوا منه مقتلا. وهاله مشهد الدم، فصرخ، فانهالت عليه العصي كندف القطن، واحدة طالعة وواحدة نازلة؛ وهكذا دواليك.
وما انفكوا عنه حتى سمع الجيران خوار الخوري، وأقبلوا على الصوت؛ ففر المعتدون كل واحد إلى بيته، ومنهم من لم يفر، بل خرج من الشباك ليعود من الباب مع القادمين يسأل ما الخبر؟ ... - سلامتك يا خوري يوسف. بسيطة إن شاء الله.
وجاء جار الرضا جرجس طنوس، ولما رأى الخوري مدمى أسرع وجاء بالإبريق ليغسل جرحه وينظف لحيته التي صارت قرمزية، فقال له الخوري: ابعد، خل الدم، هذه شهادة لا ترد، والله لأجرهم كلبا خلف كلب إلى بعبدا بخيط قطن.
وحاول بعضهم أن يردوا الباب إلى ما كان، فصاح الخوري: لا، لا، اتركوه على ما هو. ثم صرخ: رفول أسرج الفرس والجمها حالا.
فقال رفول بلهجته الرخوة: إلى أين من غير شر؟ ما طلع علينا الضو بعد!
فقال الخوري لأخيه المعتوه: ما سمعت الخبيط والضرب والقرقعة! - لو كنت سمعت كنت قمت. - بلى سمعت، ولكنك فزعت وربما قضيتها في الفراش ... أسرج الفرس والجمها حالا.
فصاح رفول: الفرس هلكت من التعب. ريحها يا خوري يوسف. - الفرس أعز مني يا جحش! قلت لك شد على الفرس.
وأخذ الخوري يلبس ثيابه، وهو يوصي جاره يوسف زغنا أن يجعل عينه على البيت دون أن يدخل ولا يغير شيئا من الأواني، بل يتركها مبعثرة كما هي.
وأخيرا خرج من الباب، ووقف على سطح البير، وصاح: خذوا حذركم يا أرذال. ما قدامكم إلى رودس.
15
وكانت كلمة رودس محط كلام الخوري، وكلما غاظه أحد تهدده بالسركلة - النفي - إلى رودس، وأبى سركيس الكريدي الذي كان مارا على الطريق، إلا أن يرد على التحدي فقال للخوري: هذي كلمة سمعناها كثيرا من بوزك الطاهر يا ذقن التيتي.
فأجابه الخوري وهو يتراجع ليتوارى خلف الباب: هذي المرة من جد يا سركيس.
فأجابه سركيس: يا هم أنفه من هدير البحر. هات ما عندك. أنت تشتكي للحكومة وأنا أحكم العصا في رقبتك في ساحة مار صوما. خوري يوسف إذا كان جلدك يرعاك رح تشكي.
واستيقظ من بقي نائما من أهالي عين كفاع، وتجمع هناك أعداء الخوري قبل أنصاره، وكان مجيء بعض هؤلاء لنفي الشبهة عنهم.
وركب الخوري الحمراء، وقعدت الضيعة تنتظر ما سيكون. وبعد يومين جاءت الخيالة: شرذمة عسكر من المتصرفية في يد قائدهم أمر متصرفي، يحرق العشب، ويأمر بسوق المعتدين «محفوظين مكتوفين إلى هذا الجانب» إلى غزير،
16
مركز الحكومة، فأخذوا الجيران، جرد عصا؛
17
فضاق عنهم القبو وابتدأ التحقيق.
الجنازة حامية والميت كلب، فكل ما هناك من جريمة هو تمثيل هزلية ألفت الضيعة مشاهدة فصولها. لا جديد مهم إلا كبس البيت ودخوله ليلا. لا حاجة إلى الخلع؛ لأن باب العلية بلا قفل. مزلاج
18
خشبي من عهد روحانا الكريدي، الذي غصب الخوري بيته من ورثته، أما الدم فمن أنف الخوري وهو غير مجروح.
كان التحقيق في علية الخوري، ومستودع الموقوفين في قبو معصرة الزيت الذي تحتها. وأخيرا انتقلت المحكمة إلى الكنيسة، واستحال القبو الذي تجاهها حبسا للموقوفين على ذمة التحقيق، فأوقف أكثر الذين حقق معهم الضابط، رئيس الكتيبة ...
وبعدئذ انتبه الأهالي إلى حرج
19
موقفهم من التحقيق، فصار الجواب: لا علم ولا خبر، كنا نائمين «لا سمعنا ولا قشعنا»؛ وهكذا نجا الباقون من زيارة القبو.
وكان الخوري ينفق على ذلك الجيش من كل قلبه. عبأ خرج الحمراء من المقددات
20
والحلاوة وذبح خروفا، وفض بكارة زجاجات خمر عتيقة كان أعدها هدية العيد للمطران أبي نجم، فأحال العسكر ذلك اليوم مهرجانا، فشربوا جميعا على صحة أبينا الخوري الذي قيض لهم زيارة قرية نائية فيها مثل هذه الخمرة الجيدة، والكرم الحاتمي، ولكنهم ما سمعوا باسمها من قبل، فصعبت على المحقق تهجئته. وكان بين العسكر واحد دارس الآجرومية فهجاها لهم.
وكان الكريدي أول الموقوفين: فوصلت إلى أنفه رائحة الخمرة، فهتف بالضابط: دخيلك يا خليل بك كباية واحدة واحبسني شهرين ...
وبعد تلك السكرة كانت التطبيقات دائرة، فجمع أخصام الخوري للقوة خمسين ريالا مجيديا عدا البشالك والزهراويات، وأخذوها على شرط أن يكون التحقيق كما كنا نتهجى صغارا: ألف لا شيء عليه، والباء نقطة من تحت. أي إن كان ولا بد من سوق أحد إلى حبس غزير؛ فليكن الكريدي الذي ألف ذاك المكان، وهم يقدمون له مصروفه حتى العرق والنبيذ. فالكريدي رجل عزب لا خلفه ولا قدامه.
وقبل الانصراف اجتمع قائد الفرقة بالخوري يوسف، وقال له: أنت رجل دارس الشريعة، وتعرف قانون الجزاء بالتمرين، لا شاهد يمكننا الاعتماد على كلامه حتى نسوق هذا الجمهور إلى سجن بعبدا، كما أوصى أفندينا، نصره الله. ومع ذلك حتى لا نذهب بلا أحد نأخذ الكريدي؛ لأنه مشهود عليه أنه حكى كم كلمة.
فقال الخوري: الكريدي هذي المرة بريء، والمجرم طنوس فارس.
فأجابه الضابط: ربما كان طنوس فارس مجرما، ولكن لا شهود عليه، فلا يمكن تكتيفه وأخذه إلى ذلك الجانب حسب أمر سعادة القائمقام.
ولما يئس الخوري من الضابط ركب الفرس كعادته، وسبق العسكر إلى المركز المتصرفي يشكوهم ويجرح تحقيقهم.
وما خرج الكريدي من القبو وشد كتافه حتى سمع يقول: هنيئا للمتهم وهو بريء، ثم صر أصابعه، وأومأ إلى الخوري يوسف متهددا.
فقال له واحد من أهالي الضيعة: فلنفرض أنك بريء هذه المرة ، ولكن صوفتك حمرا في المسروب
21
يا سركيس!
فأجاب: أحسن من أن تكون بيضا ولا تحمل الوسخ.
وفيما هم يتناقشون أطلت دابة الآغا من رأس العقبة، وقد انتصب ميزان أذنيها حتى صار القب على العاتق، فقال الخوري حنا صادق: يخطر ببالي أن أطلب نقل عين كفاع إلى غزير، ونقل مركز القائمقامية إلى عين كفاع. كل يوم عسكرية، كل يوم مذكرات جلب ومذكرات إحضار، لا يروح غاو حتى يجيء مشتاق.
ووصل الآغا وأحكم وقفته ليؤدي التحية للضباط بإجلال ووقار، وردت الأنفار التحية، فتقنفش الآغا في الساحة كالديك الرومي يلقي نظراته على الأهالي إذا كانوا لحظوا ذلك المجد، وتلك الأبهة، وإن تلك التحية هي للآغا لا لغيره ... وعلى الأثر مشت الفرقة تسوق الكريدي؛ فابتسم فارس الآغا ابتسامة صفراء داكنة، وهز برأسه.
وقال له أحد أصدقائه: ما رأيك؟
فأجاب الآغا: أيش هو رأيي؟ ثم عرض صوته وفخم ألفاظه، وقال: المشترع ما اعتمد على ملحوظات الأونباشي، المأمور المحلي، إلا لسبب وجيه لا يعرفه إلا الراسخون في العلم، فعسكر المتصرفية أو خيالة القائمقامية اسم يفزع، أما الحقيقة فهو لا شيء. نحن نعرف الناس في بلدتنا حلة ونسبا ولا يضيع ظننا أبدا، أما هؤلاء فمن يعرفون! يه، يه، يه. فرقة عسكر تأخذ سركيس الكريدي! ثم راح يخبط على فخذيه بيديه الثنتين، ويقول: كل عمري أكربله وأمشيه قدام الدابة مثل التوتو ... ولكن خوري مسرح أراد أن يكبرها فصغرها.
فقال له الخوري: وأنت يا آغا، الله يعطينا خيرك اليوم.
فأجاب: ابن حكومي ومعه خير للناس! صدرت الأوامر بتحصيل مال الميري وجينا نبلغكم.
وقام إلى أنبوبة صنعها من تنك ليلف فيها الأوامر الحكومية، وأخرجها من الخرج، وأخرج منها أمر المدير، وبلغه لشيخ الصلح، ثم علق على ذلك بقوله: عليك يا شيخ أن تبدأ بتحصيل الميري وتسددها في ظرف شهر.
وهذا الاستعجال بقصد منه أن تقبض الضرائب قبل أن تنظف جيوب الأهالي، مما قبضوا من ثمن شرانقهم! وغب مرور نصف شهر يستحق سند الحكومة على الأهالي، فيأتي فارس آغا وفصيلته للتحصيل الإجباري. أما كيف؟ فللبنان شريعة خاصة لا ندركها ما لم نعرف الضرائب المفروضة على المواطن، والتي لأجلها ولأجل شيء آخر، قيلت الكلمة المأثورة: هنيئا للذي له مرقد عنزة في لبنان.
وفيما كان الآغا يحدث بعض الأهالي ويجاوب على سؤالات البعض الآخر بلطف وإيناس قال واحد: يا ألف صلاة وسلام على فارس آغا، فارس آغا ما مد يده لأحد. العسكر الغريب ضربة، وخصوصا إذا كان من الدراغون ...
وتنحنح الآغا وسعل، ثم تعالى على كرسيه وتمثل: زوان بلدك ولا القمح الصليبي. نحن منكم وفيكم؛ وإذا تشددنا مرة فلأننا مثل الوتد: قال الحيط للوتد لماذا تشقني، فجاوبه: اسأل الذي يدقني.
ابن الحكومي مثلي عليه أن ينفذ أوامر أفندينا، كما علينا أن نترفق برعايانا ما قدرنا. فهمت يا طنوس؟ إذا ذكرتني ثاني مرة مع هؤلاء الأغراب، فقل: بعيد الشبه. أنا معروف ابن من ومن أي ضيعة، أما هؤلاء فمن يعرف قرعة جدهم من أين؟! ومع كل تصرفنا الطيب لا نعجب قرياقوس.
فضحك قرياقوس ضحكة، لا هي كبيرة ولا هي صغيرة، وقال: لنا دالة عليك يا سيضنا (يا سيدنا) الآغا.
فأجابه الآغا: عسى ألا يكونوا ضايقوكم.
فقال قرياقوس ممازحا الآغا: طبعا أنت أرحم منهم، وإن كان فيك البركة.
فنهض الآغا، وقال وهو يفك رسن دابته: الملتقى يا قرياقوس في أوائل تموز، يوم تحصيل الميرة. استعد، هيئ حالك. ثم مشى وهو يودع قرياقوس بجميع أصابعه، ويده على قفاه.
أما قرياقوس فلوح بكف كالمدرى، وعرض صوته وصاح: يا مرحبا بك كل ساعة. أي وقت تريد أنا بين الأيادي.
فأجاب الآغا، وقد أدرك التحدي: نحن رجال الحكومة يجب أن نكون واسعي الصدر لنمثل الراعي الصالح، ولا تنس يا قرياقوس أني أهجم على طابور، وأني أنا وحدي وقفت بوجه عسكر مولانا السلطان، ومنعتهم من تخطي حدود الولاية، ودخول فرن الشباك، والمرور في أرض لبنان بدون إذن. لا تنس أني أنا فارس آغا طوعت الفارين من وجه الحكومة وسلمتهم لأفندينا، خاضعة رقابهم، وعيونهم في الأرض.
ثم استراح قليلا، وعاد يقول : ضحكنا لك يا قرياقوس فصدقت، وجررت سلاحك علينا. يفرجها الله يا قرياقوس. الآن «محضورة» والملتقى كما قلت لك، وفي هاتيك الساعة تعرف القرعا من أم قرون.
وانصرف الحاضرون، وهم يرددون بينهم: قرياقوس رجال، جاوب الآغا.
الفصل الحادي عشر
الأموال الأميرية
اللبنانيون الأصليون، أي سلالة الفينيقيين والسريان، شعب شمالي الأصل، وهو أقرب إلى الآرية منه إلى السامية. هجرته الأولى ونشأته الصناعية التجارية هي التي فصلته عن أخيه العربي. فاللبناني كان يعيش على ما تصنعه يده، والعربي كان ينتظر ما تنتجه له الطبيعة من أنعام ونبات؛ ولذلك عير جرير الفرزدق بصناعته. من هنا جاء الفرق بين الفرعين، ورب أخ إذا شط مزاره
1
صار غريبا أو كالغريب.
عاش اللبناني أولا، والبحر أمامه والجبال الشامخة وراءه. رأى الأرض الأولى التي وطئها خالية إلا من الشجر، ففكر باستعمار البحر ذي الخير الكثير، وساعده أرزه وسنديانه على الخلق؛ فكان سفر تكوين جديد عجيب. أبدع السفينة التي مكنته من تسكين البحر المعربد فدان
2
له، وصار مسرحا لعبقريته؛ وهكذا صار هذا الميليمتر الجغرافي مالكا للدنيا بأسرها، واستغل مطاميرها ومناجمها البرمائية. لقد أدت هجرته السندبادية الحقيقية إلى احتلاله أقطار المسكونة واستعمارها اقتصاديا. ونما فيه هذا الحب التجاري، فولد في قلبه حبا للهجرة لا يوصف.
ونامت تلك المحبة في عروقه دهورا، حتى عادت فاستيقظت في القرن التاسع عشر، فأثمرت مالا وعلما وأدبا وثقافة، فكان من اللبنانيين في كل ميدان فرسان عمران وحضارة. فتح اللبناني أمريكا مرتن: الأولى يوم كانت مصنوعاته من ذهب وفضة وبرونز، وزجاج ولؤلؤ ومرجان، وبرفير وأرجوان. والمرة الثانية يوم هاجر اللبناني في القرن التاسع عشر، واستحال من بغال وحمار ينام في العراء، إلى «خواجه» يشرف على مصانعه وينمي ثروته، حتى بلغ اليوم أبعد الأشواط في ميادين الأعمال. اتقدت في صدره شرارة عرق الأصل، فكان الفاتح الشرقي الأول، ثم بارى رجال الأمريكتين وأوروبا وأفريقيا في هذا الوقت. مشت من بنيه موجة جارفة، فاكتسح المسكونة معتمدا على عبقرية صناعية تجارية أصيلة، والعبقرية قلما احتاجت إلى العلم، بل هي تخلقه متى احتاجت إليه.
فلا يعجب ساسة العالم، ولا يدهشوا حين ينظرون إلى لبنان الصغير الحجم، الذي أخرج إلى الدنيا شعبا يعد واحده بألوف مؤلفة، ثم لا نعجب نحن اليوم إذا رأينا هذا «الكوكتيل» الغريب العجيب من الملل والشعوب في بقعة ضيقة، وهي مؤلفة من جميع العناصر البشرية. فكأن هذا الجبل رمز أسطورة سفينة نوح التي كان فيها من كل جنس زوجان كما يزعمون. لا عجب إذا رأينا هذا الخليط الغريب في هذه البقعة الصغيرة اللبنانية، فالمطبوع على الهجرة يحب ابن جنسه الشريد الطريد، ويرحب به ويعطف عليه، وهذا ما مهد لتعدد طوائف لبنان واختلاف أنظمته وتبدلها في كل دور وطور.
وهنالك سبب آخر، وهو أنه في القرن الثامن عشر وما قبله كان الأثرياء اللبنانيون يتنافسون في إنشاء الأوقاف. كان إقطاعيوهم يبلصون أخاهم وابن عمهم ولا يرأفون بمن لهم، وتكفيرا عن مظالمهم وجورهم، كانوا يهبون عقاراتهم إلى رهبانيات غريبة طامعين بخلاص نفوسهم بهذه الوسائل، فتوجوا قمم لبنان بتيجان العمران من ديورة ومعابد ومعاهد؛ ولذلك قلما تجد طائفة - مهما قل عدد نسماتها - إلا ولها وكر في هذا الجبل الأشم المضياف.
كانوا - كما قلنا - يتنافسون على استقدام رهبانيات من هنا أو هناك، والسعيد من حظي بما لم يحظ به غيره منهم، فعششوا في هذا الجبل، وسابقوا الفلاح اللبناني الأصيل على اللقمة، أكلوا رزقه وصلوا لأجله ... فكان المسكين يشقى ويجوع وهم يتخمون، وهو يرجو خلاص نفسه عن طريق هذا الإحسان الزيف.
وضاق باب العيش على المزارع والفاعل، وثقلت عليه الضرائب، واستعبد الفلاح؛ فكان لا يحق له أن يلبس الحرير لأن هذا ملبوس الأمراء والمشايخ، ولا يحذى نعال السبت،
3
كما قال عنترة؛ لأنها ليست لطبقته. فهذا البلد، الذي كان المال حشو السهل والجبل فيه، صارت هذه البقعة منه، وهي مسرح روايتنا، أفقر بقاع الدنيا. فبعدما كان اللبناني الأول أوسع الناس ثروة صار في القرن التاسع عشر أفقر العالمين، أو صارت تنشب فيه الثورة تلو الثورة بسبب الضرائب والفقر؛ فالقلة تورث النقار.
كانت سجادة الفلاح اللبناني بلاسا، وبوطه مداسا، وصوف فراشه قشا وتبنا، ومخدته رويشة.
4
وإن غالى في تجويد الحذاء لبس السكربينة، ذات النعل اليابس، التي إذا لبسها جديدة، رقص الشارلستون ووقع على الأرض بعد كل خطوتين. أما معجنه فكان لا يثق بأن رغيفه - التي هي فيه - تبقى له إلا متى أكلها؛ ولذلك ترى أبواب الهياكل والبيوت اللبنانية العتيقة كأنها شبابيك، وذلك اتقاء للكبس ودخول جباة الحكام إليها بخيولهم وبغالهم وحميرهم. فالبلص كان مستمرا، والميرة والضرائب والنهب باسم العرف لا القانون، كانت دائما هي موقظة الفتنة النائمة، إلى أن أطاحت أخيرا بأمراء لبنان الإقطاعيين واحدا إثر واحد.
إن موقع لبنان الاستراتيجي هو الذي جنى على أمنه وسلامة كيانه، فمنذ البدء وهو يودع الغازي الرائح ويستقبل الفاتح الجائي، يصح فيه قول مثله: ما راح جحا واسترحنا منه، حتى عاد يقول صبحك بالخير يا خالتي.
كان يستقبل الضرائب بصدر واسع ولكن إلى حين، ثم يهب الخلاف، فالشجار، فالاقتتال، فالثورة التي تلتهم الأخضر واليابس، وما أظنني تعديت الحقيقة حين سميت مضيق نهر الكلب، وما نقش على صخوره من أسماء فاتحين مروا من هنا بسجل التشريفات، ولكن هذا التشريف كان للتكليف وضب ثروة البلاد في أعدال الفاتحين، على الماشي، واستعباد الشعب اللبناني وأخذ رغيفه، بل دمه إذا قاوم وأبى. وحسبك أن تقرأ فاتحة هذا الكتاب أو عرض الحال، كما نسميه اليوم، لتستدل على المقدار الذي بلغته العبودية، قد كتبه أحد الحاكمين من المواطنين إلى أحد المستعمرين:
إلى الملك سيدي وإلهي ونوري وشمس السماء فلان ...
أنا عبدك وتراب قدميك. إني أخر على أقدام سيدي سبع مرات، وأنطرح سبعا على صدري وظهري ... إلخ.
الإمضاء: كلب الملك فلان
ولماذا نقطع مسافة ألفي سنة وأكثر لنقع على مثل هذا النص، أما كانوا منذ نصف قرن أو أكثر قليلا يكتبون للبطرك وللبابا: غب لثم ثرى مواطئ أقدامكم؟!
وبعدما أطاح الظلم والاستبداد بأمراء لبنان كان له أخيرا سنة 1860 نظام جديد عرف ببروتوكول لبنان، أوقفت الضرائب فيه عند حد فلم تعد تتجاوزها، واطمأن الفلاح إلى رغيفه. وكان السهر على حياة أموال الخزينة شديدا بعد سنة الستين. فعشر بارات أو خمس بارات، يأخذها شيخ الصلح - وهو ينتخب من أهالي القرية البالغين الراشدين - الذي كان يجبي مال الخزينة من كل قرية كانت تكفي لعزله وحبسه. وقد ضرب المثل بقولهم عند استعظام الأمر: حل عني، لك عندي تسعة إلا ربع!
سئلت مرة عن هذا التعبير وحكايته فلم أهتد إلى فك لغزه، ولكني عرفت أصله وفصله بعد حين. وذاك أن الذين وضعوا برتوكول لبنان بعد سنة الستين، فرضوا على الرأس اللبناني تسعة قروش إلا ربعا يؤديها جزية كل سنة، ومنها ومن مال الخراج تتكون ميزانية لبنان التي تنفق على إدارته. كانت هذه الأموال معاشا لموظفيه، وستعلم تفصيل ذلك من تلقاء نفسك في الفصل القادم - توزيع الميرة - وقبل حكي الحكاية فلنعرفك بالذين تقلبوا علينا من حكام سواء كانوا زوارا عابرين أو ضيوفا مقيمين.
لا يعنيني أن أحدثك عن تزاوج الآلهة والآلهات في هذا البلد الطيب، فهذا ما تجد الكتب مشحونة به، وتسمع بأذنيك رنين الشعراء الذين تغنوا بأساطير الآلهة وأعراسهم، وشهور العسل التي كانوا يقضونها تارة في السموات العلى، وطورا على الأرض.
لسنا نكتب تاريخا، وإنما ندون فصلا لا بد منه لفهم عقلية هذا الكوكتيل العجيب من الأمم والشعوب، فالمرحوم جدنا آدم هو من مواليد لبنان في نظر المتزمتين منا. وقد أضاع العلماء وقتهم ليثبتوا لنا ذلك، وكان تعاون آدم وتسليه في وحدته ستنا حواء حين رق له قلب الله، وأخذها ضلعا من أضلاعه بعدما بنجه، وكانت كل معدات هذه العملية الجراحية كلمة كن فكان ثم كوني فكانت ... أما أدونيس والزهرة، فكان عشهما في جبالنا وأوديتنا حقا؛ لأن الآثار لا تكذب، وهي ناطقة في كل مكان تدلنا على جمال أدونيس وشبقه
5
المتقد، فقد قسم السنة بين حبيبتيه، فكان يقضي ستة أشهر مع واحدة على الأرض وستة أشهر مع الأخرى في السماء.
ولما خرج الإنسان من الكهوف، وقعد في البيوت، ولبس الجلود المدبوغة بعد الفراء الضبعية، كان ذلك في لبنان. ثم تحلى بالخرز والزجاج والطرف المنوعة وكان ذلك عندنا. فأي طاغية لم يمر علينا! وأي جبار عنيد لم يجئ صوبنا! فالأشوريون والكلدانيون وفراعنة مصر والفرس واليونان والرومان والروم والعرب، والخلفاء الأمويون والعباسيون، والصليبيون، هذه الدول الكبرى كلها، جاءتنا يلي بعضها بعضا، بعد أن تنفذ في أرضنا نيران حروب تأكل الأخضر واليابس من زرعنا وضرعنا. تلك هي الجذوع أما الفروع والفسائل فلا تحصى، كالمعنيون والعسافيون والتركمان والأكراد ومماليك مصر والجراكسة حتى آل الأمر أخيرا إلى آل معن، والشهابيين الذين ورثوا لبنان عن المعني الكبير. ثم توارثوه واحدا بعد واحد إلى ان انقرضت إمارتهم بعد سنة الستين، وصار لبنان دويلة ذات نظام جمهوري، وهي الأولى في التاريخ الحديث، يلجأ فيه إلى انتخاب حاكم تتفق على اختياره الدول السبع الكبرى.
كان ذلك بعد ثورة تزعمها طانيوس شاهين، وهو بيطار من ريفون، فقتل وذبح وأحرق بيوتا، وشرد مشايخ وأمراء. وتدخلت الدول الكبرى فوضعت حدا لتلك المجزرة، وسنت للكوكتيل الطائفي العجيب نظاما عرف ببروتوكول لبنان.
ولما كانت المالية هي العرق الحساس في الدولة، وكانت دويلة لبنان التي خلقها نظامهم خليطا عجيبا، فقد جعلت لها ميزانية لا تزيد ولا تنقص، كانت الضرائب في جميع أطوار الحكومة اللبنانية التي عرفت باسم المتصرفية ذات رقم واحد لا يتجاوزه، على الأهالي فيه الغرم وليس لهم منه غنم؛ لأنه موزع على طوائفه.
إن البند الخامس عشر من نظام جبل لبنان جزم بأن يكون ما تتكلفه أهاليه لإدارة حكومته هو 3500 كيس، ويجوز إبلاغه إلى السبعة آلاف عندما يفيض الخير، ولما تولى أول متصرف - داود باشا - أصدر أوامره بدون انتظار الفيضان بتحصيل 7000 سبعة آلاف كيس، فامتعض الأهالي واعترضوا واحتجوا، وزعموا عليهم يوسف كرم، فاعترض هذا لدى داود باشا، فراح الباشا يداوره ويمنيه بالوظائف العالية.
واستدعاه إلى دير القمر وعينه قائمقاما على جزين، ولكنه لم يلن ولم يقنع بل رفض كل وظيفة، وترك دير القمر مغاضبا مصرا على الشكوى للباب العالي والدول الكبرى السبع ضامنة نظام لبنان وحامية حقوقه.
ولما رأى الباشا داود هذا الإصرار طلب من المطران بطرس البستاني أن يقنع يوسف كرم، فحاول ولكنه لم ينجح، فهرع داود إلى قنصل فرنسا المسيو دي سيزار طالبا منه أن يتدخل مع البطريرك الماروني ويحل هذه المعضلة، وبعد توسط القنصل والبطريرك عينوا مكان الاجتماع في دير اللويزة.
وفي أول مقابلة افتتح داود باشا الحديث بقوله: إن الشقي يوسف كرم لم يقبل بتولي حكومة جزين، بل يريد أن يكون حاكما على المتصرفية بكاملها ...
فقاطعه البطريرك، وكان يومئذ بولس مسعد، قائلا: إن من يسترحم رفع التكاليف المتجاوزة حدود النظام المسنون لا يدعى شقيا بل يسمى محاميا غيورا. وأما عدم قبوله حكم جزين، فلم يكن إلا برهانا على وطنيته المخلصة، التي حملته على تضحية مصلحته الشخصية في سبيل النظام والوطن. ثم - يا دولة المتصرف - نحن لم نتفق على المقابلة إلا لتكون الجلسة حبية لخير البلاد المنكوبة بأهلها وما يملكون، وليس من داع للسخط والتقريع؛ لأننا لسنا بموقف الاستهزاء والطعن، ولا بموقف كشف عيوب، بل من واجباتنا أن ننظر بطلب كرم، وهل هو منطبق على الحقيقة أم لا؟
فتكدر داود وغضب معلنا مناوأة كرم والبطريرك والشعب الماروني الشمالي. ثم نزع من رجال الدين حق انتخاب وكلاء الطوائف، زاعما للدولة في شكواه أن مصلحة الوطن اللبناني تستدعي عدم مداخلة الرؤساء الروحيين فأجيب طلبه.
وهكذا أخذ داود - ومن جاء بعده من متصرفي لبنان - ينتزعون حقوق هذا الجبل، حقوق لبنان، بموجب بروتوكوله واحدا إثر واحد وصار الكيس عدلا
6 ... وكانت آخر حركة ثورة المطران بطرس البستاني على رستم باشا، ثالث متصرفي لبنان، من أجل رسم وضعه على صكوك البيع وقدره خمسة قروش.
وهنا لا بد لنا من تعريف عابر بالمطران البستاني. كان المطران عدو كل من يمس استقلال لبنان، فكأنه رصد على باب كهف بروتوكوله، ومن يسمع بأخباره يظنه رجلا فظا غليظا مع أنه كان لطيفا ناعما، حلو النكتة. جاءته مرة امرأة تسأله الصلاة على ماء يطرد الفيران والجرذان، فقال لها بعد أن صلى على إبريق الماء ونفخ فيه، كما يفعل رجال الدين غالبا: لا تنسي أن تدبري لجرذان بيتك بسا أكبر مني.
وهذا كثير من كبير أساقفه عصره.
أما الكيس فهو عبارة عن مبلغ قدره خمسمائة قرش عملة ذهبية، أي خمس ليرات عثمانية ذهبية، وهذه الأكياس وزعت على أهالي المدن والقرى وسكانها، وهي تعرف بالتركية بمال الويركو؛ أي الجزى المفروضة على الأرزاق والأعناق. ولكيلا يكون فرضها وتحصيلها اعتباطيا وكما يشاء «الحوالية»؛ أي الجباة بلغة هذا العصر، جرت مساحة أملاك لبنان، وأحصيت ذكوره فبلغت مساحة أراضيه مائة وخمسة وعشرين ألف وتسعة وستين درهما وأربعة قراريط - الدرهم 24 قيراطا، والقيراط 24 حبة - وقد ترتب على كل درهم مساحة واحد وعشرون قرشا صاغا، باعتبار الليرة العثمانية مائة قرش بينما هي في المعاملة الدارجة في الأسواق
124 قرشا ونصف القرش، فيكون إجمال مال الأرزاق 629453 ونصف القرش.
وقد جرى إحصاء النفوس، فبلغ عدد الذكور الذين هم فوق الخامسة عشرة ودون الستين تسعة وتسعين ألفا وثمانمائة وأربعة وثلاثين ذكرا، فجعل على عنق كل ذكر ثمانية قروش وثلاثة أرباع القرش تسعة إلا ربعا؛ وهكذا يكون مجموع ميزانية لبنان الأصلية من مال ويركو الأعناق والأملاك سبعة آلاف كيس أي 3500000 قرش.
قلنا إن الكيس صار عدلا؛ لأنهم أحدثوا بعد ذلك موجبات شتى، مما سموه مال طرقات وغيرها من الضرائب السخنة، التي لا تتسع هذه الرواية لسرد أخبارها مفصلة، ولكننا نشير إليها في مجالها.
لم يكن في استطاعة أحد أن يزيد أو ينقص في أرقام الميزانية الأصلية، وهي موزعة على موظفي حكومة لبنان بالسوية النسبية بحسب طوائفه، وعندما شاء رستم باشا - متصرف لبنان الثالث - أن يؤدي خدمة لمولاه السلطان بمناسبة الحرب الروسية وضيق ميزانية الدولة أسقط معاشه ومعاش جميع الموظفين حتى وفر مبلغ 5000 كيس، ولم يفرض ضريبة جديدة خوفا من عواقبها.
ولكي تعرف كيف كانت تتفق هذه الميزانية إليك جدول مرتبات المأمورين في كل قضاء:
18050
قضاء الشوف
12925
قضاء المتن
15125
قضاء كسروان
14575
قضاء البترون
9325
قضاء الكورة
8225
قضاء جزين
6600
قضاء زحلة
4525
قضاء دير القمر
ليكون شهريا 89350 قرشا، وسنويا 10722000.
أما التقسيم الطائفي للموظفين في أقضية لبنان ورواتبهم فهي هكذا:
شهريا
عدد
ملة
2750
4
مسلمون
48950
81
موارنة
13450
20
دروز
11700
19
أرثوذكس
8100
15
كاثوليك
3650
متاولة
وعلى هؤلاء الموظفين الذين هم من كل ملة وزعت مالية لبنان الضئيلة، ومع تفاهة الرواتب كانت الرشوة مع ذلك بالريال المجيدي، بينما صارت في عهد الرخاء بألوف ومئات الألوف.
أما عدد المأمورين في المركز المتصرفي فكان 102.
لا يأخذك العجب، فالكيس الذي كان مصرا لا يحتوي إلا على 500 قرش، فقد صار اليوم عدلا أكبر من عدل بنيامين، يسع من ورق البنكنوط ما يسلق قنطار قمح إذا أوقدته. وميزانية لبنان التي كانت تحصى أدق إحصاء على البارة أمست كرما على درب. عبئ وخذ وليس من يطالبك.
والآن بعد هذا التمهيد فلنعد إلى أبطالنا لنرى براعتهم في توزيع الميرة المحلي.
الفصل الثاني عشر
توزيع الميرة
واستعد الأهالي لمعركة توزيع الميرة استعدادا حاميا متواصلا منذ تنبيه الآغا، فكان كلما اجتمع اثنان منهم أو ثلاثة لا يتحدثون إلا عن توزيع الميرة، ويغلون المصاريف خوفا من أن يجنف
1
عليهم، ويدفع الواحد منهم بارة زيادة على الدرهم أو على الرأس. فالميرة توزع عليهم في مؤتمر بلدي بمعرفة الجميع وموافقتهم، وتكتب بذلك مضبطة توقع منهم، وتسلم نسخة للضابطية ونسخة تبقى مع شيخ الصلح، ويحق لكل متكلف أن ينسخها ليوم الحساب ...
أما الضجة الكبرى فكانت تقوم حول راتب الناطور؛ لأنه من النادر جدا أن يعين ناطور باتفاق عام، فكأن عصا الناطور في القرية صولجان احشوروش.
إن ميرة لبنان في عهد المتصرفية كانت ذات رقم معين لا يزيد ولا ينقص، وفي مراكز القائمقاميات سجلات مدونة فيها أرقام مال الميرة مفصلة، فمال الأرزاق لا مجال للبحث فيه؛ لأن العقار يظل حيث هو. أما مال الأعناق فيوزع على الرءوس التي عدت سنة الستين، فالمال المفروض يظل هو إياه؛ ولهذا تختلف الفريضة بحسب السنين، فإذا كثرت الوفيات في قرية ما، فعلى الأحياء الباقين أن يدفعوا الميرة عن الذين ماتوا، وإذا ما زاد عدد الأحياء نقصت الفريضة. وهناك مال الربع المجيدي، فهذا يجبى مع التسعة قروش صاغ إلا ربعا، ومال الميرة يجبى على حساب أن الليرة العثمانية الذهبية تقوم بمائة قرش صاغ، بينما هي في البندر بمائة وأربعة وعشرين قرشا وخمسة وعشرين بارة (القرش 40 بارة). والليرة يختلف سعرها في كل قضاء من أقضية لبنان السبعة المستقل كل منها استقلالا داخليا، وإذا سألت ما هذا الربع المجيدي؟ أجبناك أنه مال فرض على الأهالي، وهو مخصص لإصلاح الطرق العامة وترميمها. وهناك أيضا مصارفات عسكرية تضاف إلى حساب الميرة؛ لأن الشيخ يطعم هؤلاء الجباة، ويسقيهم أثناء مأمورياتهم العامة، ويقيد ما ينفق على حساب الضيعة. فإذا كان من أصحاب الضمير الحي سلمت الجرة، وإلا فإنه يعلق الشر وتخطب العصي، وهناك أيضا اشتراك الجريدة الرسمية، وغير ذلك من النفقات، كالإعانات في سني النكبات.
كل هذه الأموال والنفقات تدخل في حساب الميرة؛ ولذلك كان يوم توزيعها يوما مشهودا في كل ضيعة، وترى كل واحد من القارئين والكاتبين يحمل لائحة؛ ليدقق مع المدققين في هذا الحساب العظيم ... وكثيرا ما تقوم قيامة الضيعة بسبب زيادة بارتين على الرأس أو على الدرهم.
إن أول ما تفتتح به الجلسة هو إحصاء الأحياء من ذكور الضيعة، الذين يتراوح عمرهم بين الخمس عشرة سنة والستين، ثم ينظر في رقم المال المقنن، ويقسم على الحاصل من عدد الرءوس.
ورب قرية نمت وتكاثر سكانها بعد إحصاء سنة الستين لا يدفع الرأس من أهلها إلا ربع التسعة إلا ربعا أو أقل، ورب ضيعة أخرى قلت مواليدها، أو أصابها وباء كالجدري وغيره؛ فكثرت على أثره الوفيات، تضاعفت فيها الفريضة. وأعرف مزرعة دفع ثلاثة من الأحياء فيها عن جميع موتاها.
إن من قرأ رواية النفوس الميتة لغوغول القصصي الروسي يكون فكرة عن خطة الجباية في لبنان المتصرفية.
وكانت الحكومة تجمع الميرة في أول الصيف، أي: بعد موسم الحرير؛ لأنه الزمن المناسب للدفع، وإذا كانت المواسم غير مقبلة أو ماحلة لاقت الحكومة مصاعب جمة حالت دون التحصيل، واضطر الضابطية إلى القسوة والضرب الموجع والحبس موقتا في أقبية البقر وحجز الفرشات، وبيع الطناجر بالمزاد لتحصيل المال الذي يسدد معاشات المأمورين كما سترى.
وتذكر قرياقوس أن الأحد هو موعد توزيع الميرة، فذهب إلى الكنيسة مع الصبح قبل قرع جرس القداس، وقعد في لحف سنديانة الكنيسة ومعه أوراق اعتماده ... كان يقلب تلك الأوراق التي يعرفها من شكلها الخارجي ويحدث نفسه: هذا كوشان عام أول، وهذا وصل السنة التي قبله، وهذا علم وخبر بالأموال الزائدة عن المال الأصلي.
قد تقول: وما هو المال الزائد عن المال الأصلي؟ هو مال المصارفات والإعانات الذي لا يذكره شيخ الصلح في الكوشان؛ الوصل.
وبينما كان قرياقوس يهيئ خطبة العرش ويلم براهينه المتكدسة في زوايا ذاكرته سمع دعس دابة ونحنحة رجل يعرفها من رنتها وخشخشتها، فاشرأب والتفت يمينا وشمالا، فإذا عينه تقع على فارس آغا وهو يحث زاملته:
2
حا. امش. يقصف عمرك. تأخرنا على الجماعة.
قال قرياقوس حين رآه: هذا هو، وظني في محله. وبعدما قذف ألف مسبة في بطنه صاح: يسعد صباحك من الله يا آغا.
فهتف الآغا: احك الصحيح يا قرياقوس، ماذا قلت في قلبك؟ ما قلت يا صباح الشوم صبحتنا اليوم!
فتضاحك قرياقوس وفتح حنجرة كحوت يونان، وقال بعدما عرك شفتيه وصار خده يعلو ويسفل ويتجعد كالكور: القلوب شواهد يا آغا، خير إن شاء الله يا آغا، أية بلصة جديدة معك اليوم؟ معك دفاتر توزعها إعانة لاحتراق كهربا سوق الشفقة
3
في باريز. إنكم بلا شفقة!
فغمز الآغا بطرف شفته العليا، وأخذت عروقه تضرب، وزوى عينه اليسرى وقال: وأنت يا قرياقوس أي خازوق دبرته لميرة هذه السنة؟ ففي كل عرس لك قرص. - العلم عند الله يا آغا، الظلم ما حبه الله، والضحك على الذقون مبغوض، والفلاح مثلنا فقير، والحاكم مثل حضرتك عليه لا معه. كل يوم بلصة، ناس تأكل الدجاج، وناس تقع في السياج. نحن صرنا مأكلة للحكام.
فتقنفش الآغا حين سمع كلمة حاكم وحكام وتواضع لقرياقوس، وقال له: احك، خذ حريتك.
فقال قرياقوس: يا آغا، أنا لا اعرف لماذا لا تحب قرياقوس؟ مع أن ضيفي مقرى، وعسلي أحسن عسل في هذه البلاد، ما عدا العاقورة، وكيسي فيه ما أحتاج إليه لتنفيذ مشاريعي ...
فابتسم الآغا حين سمع كلمة الكيس، وترجى الخير، وفكر بهذه المناسبة أن يراود قرياقوس عن سطل عسل، وحجته أن العسل الأسمر موصوف له، وهو صحي أكثر من عسل الجرد الأبيض.
وأتم قرياقوس: وأنا رجل مشاغب في ضيعة تنساق مثل المعزى، وهي مقسومة قسمين، وكل قسم أقسام وإن حشرتني قلت لك: كلهم دجاج مناقيرها بولاد ... سألتني ماذا هيأت لحفلة ميرة هذه السنة؟ تفضل حط عويناتك واقرأ.
قال هذا وأخرج من ضبوته مجموعة أوراق، وانتقى من بينها واحدة قرأ فيها الآغا ما يأتي: حضرة ...
فصاح قرياقوس: جلس عويناتك مليح، نسيت الأجل الأمجد.
فأعاد الآغا القراءة وذكر: الأجل الأمجد، كريم الشيم قرياقوس ضاهر الأكرم، وتلا:
تناولت بيد الأكرام خطابك اللطيف، الذي طلبت به منا علما بالأموال التي وضعت في الأصل على قريتكم عين كفاع، ومساحة أرزاقها وعدد مكلفيها، ومقدار الأموال الموضوعة على الأرزاق والأعناق ... إلخ، فأجيب حضرتكم:
إني بحثت في قيود خصوصية للمرحوم والدي أيام كان موظفا في بلوك - هيئة - مساحل جبل لبنان؛ فتبين أن مقدار مساحة أرزاق عين كفاع قيراط 4 ودرهم 103، وعدد المكلفين 64 مكلفا. وضع على الدرهم 21 قرشا، وعلى المكلف ثمانية قروش وثلاثة أرباع القرش صاغ المجيدي؛ فعلى هذا الترتيب يكون مال أرزاق وأعناق قرية عين كفاع 2726 ونصف القرش عملة صاغ. مع العلم بأن درهم المساحة 24 قيراط، والقيراط 24 حبة.
2166,5
مال أرزاق عن قيراط 4 درهم 103
560
مال الأعناق 64 مكلفا
2726,5
يكون
أما مال الطرق فيطلب من المكلف سنويا ربع مجيدي، وأحيانا نصف مجيدي حسبما يقرر مجلس إدارة جبلبنان.
ودمتم محترمين.
الداعي
عباس يوسف اصاف
مدير مال كسروان
عن عرامون كسروان
وكان الآغا يقرأ هذه الورقة ويهز رأسه إعجابا، وأخيرا صاح: يا مزرق
4
يا قرياقوس، كيف حصلت على هذا الكشف؟
فانتفض قرياقوس وقال: هذا كشف! هذا مكتوب. الكشف يبتدئ بحضرة الأجل الأمجد، يا آغا! فقال الآغا: وكيف حصلت عليه؟
فأجاب قرياقوس: الله لا يخلي الدنيا من الصلاح والذين يساعدون الفقير. عباس أفندي ابن أصل، والفضل للحق.
فضحك الآغا وقال: والعسل يا قرياقوس، فكاك المشاكل .
فقال قرياقوس: لا يا آغا، عباس أفندي لا يتبرطل، وإن كان العسل يطري جميع القلوب ...
وبينما كان الآغا مرتاحا إلى مراودة قرياقوس عن العسل وملحقاته، أطل المختار أرسانيوس المكلف بتوزيع الميرة وجمعها.
وفيما كان الآغا والمختار يتبادلان التحيات ويبثان الأشواق مر بعض صبيان القرية، فرأوهما في تلك الحماسة، فانتشروا ينشرون الخبر: جا، جا الآغا، ومعه عسكرية ... فتوارى عن العيان كل مطلوب من الحكومة، ولو لأمر تافه.
إن أهل القرى متى وقع الخصام يكونون على حذر، وهما فريقان دائما: فريق يحذر، وفريق يدل بحسب الهوى والمآرب، ولما علموا أن الغاية من قدوم العسكرية هي توزيع الميرة قبل القداس، لبس الناس ثياب الأحد من البابوج إلى الطربوش، وأخذوا يتوافدون وفي رأس كل منهم كلمة يريد أن يقولها في المجمع، شأنهم شأن النواب في الجلسات الحامية.
ودخل قرياقوس إلى الكنيسة بخفة الغزال، وإن كان هيكله هيكل دب، ثم عاد يحمل كرسيا هو من أتراب كنيسة عين كفاع الدهرية.
وجلس الآغا على كرسي مجده يلوح بكرباجه تارة، وحينا ينقر به على جزمته، وأقبل الناس عليه مسلمين واحدا إثر واحد، فكان يسلم على هذا غير مكترث، وعلى هذا بنصف بسمة، وعلى الآخر بربع أو ثلث. كان يوزع تحياته على كل واحد بمقدار أهميته: بو يوسف أهلا وسهلا! بو أنطوان كيف حالك؟ ... كان إذا أقبل للسلام عليه مواطن ضعيف، صافحه بسرعة سحرية وسحب أصابعه من يده بخفة عجيبة؛ ليوهم الجمهور أنه لا يعطي يده أحدا حتى يقبلها، مع أن تقبيل يد الآغا لا يجيء على بال.
إن عند الآغا أساليب أرستوقراطية؛ لأنه ابن عائلة متوسطة الشرف، وهو يعطي الوظيفة حقها من المهابة، فهو متى حلت ركابه قرية ما، كان فيها ممثل أفندينا الباشا، بل جلالة السلطان. ومن أساليبه السلامية أنه قد لا يسمح بيده لمن يكون زري المظهر، وإذا أقبل عليه بشوق، حرمه من تقبيلها ولم يعطه منها إلا رأس أصبع من أصابعه العشر. كان لا يصافح إلا أكابر الضيعة ووجوهها الذين يذبحون له الدجاج متى زارهم، وقبل أن يتناول ويتغدى أو يتعشى عندهم، ويقدمون له ما عندهم من العرق والنبيذ الفاخرين.
وجاء المختار أرسانيوس، كما قلنا، يتغربل مثل الديك المسرول،
5
فبش له الآغا، وبعد أن تبادل التحيات العاطرة كما سبق قال: جينا يا أرسانيوس، أظن أن الشيخ كلفك أن توزع الميرة وتجمعها هذا الموسم.
فأجاب المختار: نعم، هكذا اتفقنا.
فتناظر المستعدون للمشاكسة، ووجموا آسفين لغياب الشيخ، وقال قرياقوس بصوت أجش: ولماظا (لماذا)؟
فضحك بعضهم، وقال آخرون: قرياقوس مستعد. درس الشريعة بغيبته إلى حامات.
6
أما الآغا فقال: الشيخ أراد أن يرتاح من لسانك يا قرياقوس، ومن مؤامراتك مع خوري مسرح، فكلف المختار أرسانيوس بلم الميرة، فهل لك اعتراض؟
فقال قرياقوس: لا اعتراض على المختار إلا إذا زل.
فقال الآغا: وعلى من؟ قل.
فأجاب قرياقوس: عليك أنت يا سيدنا، فأي دخل لك في توزيع الميرة؟ هذا شغل الأهالي لا العسكرية. يظهر أنه لا بد لك من الانحياز وما جئت إلا لهذه الغاية. دار حالك. أيام الحواليه
7
والبلص راحت من زمان طويل، ولبنان صار له نظام وقانون ...
فكشر الآغا، وقال: يظهر أن نبضك قوي اليوم. القانون يطبق على الأوادم بلا صغره، أما الذي لا يدفع الميرة إلا بعد قتله، أو دك في قبو البقر، فماذا نعمل فيه يا قرياقوس؟ هل نطلب فرقة دراغون؟ الدراغون لا يحق له أن يتخطى حدود لبنان. وقد حاولت فرقة في فرن الشباك أن تمر إلى الشام بدون إجازة مجلس الإدارة، فأوقفتها أنا العبد الحقير عند حدها.
فضحك قرياقوس، وقال: فيك البركة يا آغا، واسمك فارس ... هناك كان معك حق، والقانون الذي مكنك من الوقوف بوجه عسكر الدولة، فيه مادة تقف بوجهك ... أيام الحواليه ألغاها نظام لبنان.
فهز الآغا كرباجه، ورفع يديه، واشرأب وعر: عسكرية! سلاح باشينا. فتكتكت ديوك بواريدهم، فقال الآغا: كتفوا قرياقوس.
فهر قرياقوس: اصح يا آغا، اوع هاه. وقال إلى العسكرية: لا تمدوا أيديكم. لا تعرفون ماذا يصير؟
فقال الآغا: نحن أبناء الحكومة أحرار في تحصيل الميرة، ومعنا أوامر من سعادة القائمقام تحرق العشب.
فقال قرياقوس: يمكن أن تحرق الشياطين، ولكنها لا تحرق قرياقوس.
فنط الآغا عن كرسيه، وهجم به على قرياقوس، فوقف المختار وغيره بينهما، ووقف كل فريق مع قطيعه، واستعدوا للمعركة ووقف الشباب على سلاحهم، وهو لا يكون من الآلات الجارحة إلا نادرا جدا.
وعلى العياط خرج الخوري من كرسي الاعتراف، وأصلح ما بين قرياقوس والآغا، ثم جلس بين الأهالي استعدادا للطوارئ وكسر الشر.
وبعد هنيهة قال الخوري: رخص لي بكلمة يا آغا، لا تؤاخذني إذا قلت لك: نحن نقطع مشاكلنا، وحضرتك حافظ على الأمن.
والتفت صوب قرياقوس وقال له: يا قرياقوس، لا تكبرها؛ الحكم ملح الأرض.
فسكت قرياقوس وخضع، وقعد الآغا قعدته البروتوكولية ينتظر واجما الساعة التي تمكنه من بل يده بقرياقوس.
قال الخوري: يا مختار، عد المكلفين. ومد يده إلى عبه، وأخرج سبحته ليعد عليها، وأخذ كل واحد، إلا القليل، مسبحته وراح المختار يعد.
وبلغ عدد المكلفين الاثنين والأربعين، فقال الخوري: الضيعة غير نامية، مات عندنا كثير هذه السنة، صار نقص في الأنفس. عدوا البالغين.
وراحوا يعدون الذين بلغوا الخامسة عشرة، ووقع خلاف على بعض المعدودين فجاء الخوري بدفتر العماد، ولما حققوا عدد البالغين، عادوا إلى إحصاء الذين جازوا الستين وأسقطوهم من الحساب، فبقي على الضيعة اثنا عشر متكلفا، فضموهم إلى رقم المكلفين الأحياء؛ فزادت الفريضة عن التسعة إلا ربعا، فقال واحد: ما سمعنا بعد أن الموتى يدفعون ميرة!
فأجابه آخر من طرف الحلقة: ندفع عن الموتى لأننا موتى!
وأجاب قرياقوس: هذي نعمة من الدولة العلية ... الله ينصر السلطان.
فانتصب الآغا حد كرسيه، وصاح بأعلى صوته: تسب الدولة يا كلب، وصل موسك للحية مولانا السلطان، ولي نعمتنا بلا امتنان، وظل الله على الأرض ...
فقاطعه قرياقوس: على مهلك يا آغا، احتشم! نسيت كلمة الله ينصر مولانا السلطان، خليني أكمل كلامي: المتكلف في الولايات يدفع أضعاف الأضعاف، ونحن بموجب نظام لبنان تدفع الدولة المكسور علينا.
فتعجب الجمهور من حيلة قرياقوس، وبرد الآغا واستكان غصبا عنه وهو آسف؛ لأنه عجز عن تصيد قرياقوس.
وبعدما رصدوا المال الأصلي للمتكلفين عادوا إلى مال الأعناق والأرزاق، فأضافوا بعض الإعانات وأجرة الناطور وبعض البلصات، كما أضافوا أيضا إلى مال الأعناق بعض المصاريف، مثل: اشتراك الجريدة الرسمية، ومصاريف العسكرية الذين يحملون تبليغات الحكومة، وغير ذلك.
وأخيرا ذكر المختار رقما زهيدا، وهو بخشيش لنور قصدوا الضيعة، وطبلوا وزمروا وأرقصوا دبهم وسعدانهم، فقال أحدهم: هذا حق.
فقال قرياقوس: ما سمعناهم يقولون على شان أهالي عين كفاع، بل كانوا يصرخون على شان الشيخ.
فقال واحد من الماجنين: قرياقوس، ترى لو سألوا سعدانهم أين قيمة قرياقوس أين كان يحط يده سعدانهم؟
فأجابه قرياقوس على الفور: على رأسك.
وأخيرا قال الخوري بحزم: بلا جدال انتهينا. طالت القعدة، اكتب المضبطة يا آغا، فقام الآغا إلى الخرج، وأخرج ماسورة من تنك أخذ منها طلحية ورق أبيض (أثر جديد) وشال الدواة من زناره، وكتب فذلكة
8
الميرة من: مال أعناق، وأرزاق، ونطارة، ومصارفات عسكرية، وبعد توقيعها من الجميع وترميلها
9
آخر مرة سلمها إلى المختار، ثم استعادها منها، وقال: اندهوا
10
خوري مسرح، هذا أخو قرياقوس، كثير الاعتراض.
فضحك قرياقوس، وقال: هذا خوري لا تقدر تمد يدك إليه.
فأجاب الآغا بنكتته المعهودة: أنا أعرف شغلي، إذا كان رأسه مكرسا فقفاه غير مكرس.
فقال أحد الذين لهم دالة على الآغا: المقرود جناب الآغا دارس اللاهوت.
11
فأعجبت الآغا كلمة جناب، وإن آلمته كلمة المقرود، ولكنه قال: أنا تلميذ عين ورقه، ولولا القليل كنت خوري، ثم تحلحل عن كرسيه، وقال بابتسامة صفراء: خلصونا، حميت علي الشمس، صار الظهر وعندي تحصيل ديون أكثر من ألف عسملية، علينا أن نلحق الناس في بيوتها.
ولو عرفت أن الآغا كان يحصل ديون الدفاتر والقرضة والسندات بموجب قائمة من القائمقام، يزيد عليها «المحصول» الباهظ، ولو عرفت كيف كان الآغا يحمد هذا العمل ويعده توفيرا على الناس وتخميرا لما في جيوبهم من فلوس؛ لصدقت أنه يقول الحق. فالآغا يزعم أنه يحصل الألوف في ظرف جمعة، ويريح المديونين من المحاكم وجلساتها ومصاريف المحاماة ونفقات الانتقال لقاء محصول زهيد يقتسمه هو والقائمقام، قرشان ونصف بالمائة، وكان الله يحب المحسنين.
ولما هدأت المعركة، واستقر كل شيء، قال الآغا: بعد أسبوع يا مختار نحظى بلقياكم لقبض ما تحصل من مال الميرة، وجمع الباقي من الأهالي، فالأحسن يا صحابي الذين بيني وبينكم خبز وملح أن تدفعوا قبل حضوري؛ فتوفروا الدجاج والشعير الذي نعلقه لدوابنا، عدا الضرب والإهانة وتحصيل الجزاء.
ثم أح أحته الشهيرة، وقال: سمعنا بحدوث قتال في قرية بجه، فالذهاب واجب قبل أن يتفاقم الشر.
فقال له المختار: هل تقدمت لك شكوى؟
فقال: نحن نحقق بشكوى وبلا شكوى، فالحق العام لا يعني أحدا غيرنا.
فقال قرياقوس: وإذا تصالحوا؟
فأجاب الآغا: نخلفهم، ونأخذ مجعولنا لنصالحهم. ثم أطرق قليلا، وقال: على فوقه وأين الخوري مسرح؟
فأجابه الرسول الذي أمر باستدعاء الخوري: قال إنه لا يرد على البطرك، وليس لك معه شغل.
فهجم الآغا متظاهرا بالذهاب إلى بيت الخوري، فحال بعضهم دون ذهابه بالرجاء، فهدأ وقال: نؤجلها ليوم التحصيل، وإن هونها الله ووقع خوري مسرح في يدنا عرفناه قيمة نفسه، وخليناه يعرف أن فارس آغا ابن حكومة لا يعصى عليه أحد، وأن البطرك سلطته روحانية، أما فارس آغا فسلطته شاهانية.
ثم أمر أحد أنفاره أن يتل
12
دابته، ومشى وهو يتغربل ويتفرعن مثل الديك على مزبلته. وبعد أن مشى خطوتين التفت نصف التفاتة نحو الأهالي، وقال بلا اكتراث: خاطركم أودعناكم، لا تواخذونا.
فتقدم منه صديق له وقال: لا تذهب بلا فطور! - أشكرك، مشغول جدا ...
فقال الرجل: ذبحنا الديك، وهو يغلي على النار.
فصاح الآغا: لأيش كلفت نفسك؟
فرد الرجل: تغيير العادة صعب. - وأنا كذلك، وتوقف كأنه نسي ما يريد أن يقوله، ثم مشى الآغا مع الذي دعاه وهو يقول: لا تحابيني. طيب ناكل لقمة على الماشي.
قال هذا، ولما رفع الصدر على السكملة
13
مد يده، وأخذ يغرف ... وشرع فكاه يعلوان ويسفلان، وكان يتلمظ
14
فيسمع شخيره من في الوطا، فصح فيه قول المثل: شفة غطا وشفة وطا.
وبعدما عرق عظام الفروج ومصمصها، حتى لم يبق عليها أثر لحم نهض كالمتعجل، وأشار إلى الطست والإبريق إشارة تعني إبعاده، ثم شم ريحه يديه، وقال وهو يودع: خيركم لا يتغسل.
الفصل الثالث عشر
تحصيل الميرة
وتحير المعسورون في أمرهم، فتأدية الميرة مثل أمر الموت لا مهرب منه ولا مناص. «الحوالي»
1
لا يرحم، فإما الدفع وإما الحبس في قبو البقر، وإما احتلال البيت إذا كان عند صاحبه عرق ونبيذ وألبان وأجبان وجوز ولوز ودخان كوراني وديوك ودجاج وشعير لعليق الدواب. لا يحل المشكلة إلا الدفع، ومن أين المال وموسم الحرير ماحل؛ فهو يكاد لا يسدد ما استدانه الفلاح في بحر السنة. وأصحاب دكاكين جبيل والتبرون يتأبطون دفاترهم، ويخرجون من باب بيت ليدخلوا بابا آخر، فلا يذهب غاو حتى يجيء مشتاق.
أكل المزارعون مواسمهم قبلما نضجت، فماذا يقولون للذين سلفوهم على حاصلاتهم؟ فما قبضوه ثمن شرانق قد طار، فكيف يسددون ما يصيبهم من مال الأرزاق ومال الأعناق عن الأحياء والموتى ... كان موسم الموت مقبلا هذا العام، فقد زار الجدري الضيعة، وكان أثقل عليهم من فارس آغا، ودابته التي لا يعلق لها إلا الشعير المغربل. وهناك مالت الطرقات والضرائب والمحصول والمصارفات، فهو فوق الطاقة.
صحيح أنها نتف، ولكن القلم جماع، والشيوخ الذين يعفيهم الشرع من التكاليف كثار؛ ولهذا قال الشاعر:
وقد رفع الله أقلامه
عن ابن الثمانين دون البشر
الآغا غاب ... ولكنه راح وسوف يعود بعد أسبوع، فمن أين يجد المعسور مالا ليؤدي ما عليه للحكومة، وممن يقترض وكلهم في الهوا سوا؟ ضيق وعسر. ولذلك ترى الذين يدهم قصيرة في وجوم، يخافون الأحد القادم خوفهم من عزرائيل قباض الأرواح.
صمم بعضهم على العصيان، وعرضوا الفكرة على عقالهم فصاحوا بهم: يا ويلكم! من يقاوم الحكومة؟! والآغا كافر بلا دين. اصحوا تتحرشوا به إذا كان معه حق؛ فإنه يخرب بيوتكم. الرجل الذي قتل زوجته، بعدما باع كل ما تملك، وقد ابتاع لزينة ذاك البيت الموروث الآية المكتوبة بالفارسية: هذا من فضل ربي، وكان يتجاهى حين يقرأ على هواه بلا حياء؛ لأن نقطة باء ربي وقعت فوق الراء ... لا ترتجوا الرحمة عند هذا القليل الدين، فقاطعه أحد الشباب بقوله: آخرتها موته، والآغا شبعنا بهوره،
2
لا يأكل إلا الدجاج الفتية. يريدها فراريج.
وقال آخر: ولا يتروق إلا قهوة بحليب.
وقال ثان: ولا بد من فنجان شاي وبسكوتة قبل النوم.
وأتم الشاب الأول حديثه: ولا يعلق لدابته إلا الشعير المغربل، ولا ينام إلى على فراشين خوفا من أن ينقعر ظهره.
فقال شيخ: ماذا تعملون؟ وإلى أين تصل يدكم؟ رجل كافر! ابن حكومي ضابطي، إذا قلتم له كلمة يخزق ثيابه ويقيم الدعوى على من شاء، يتعلق عليكم بكلمة ليتهمكم بسب دين السلطان.
فقال واحد: علقوه بقرياقوس والخوري مسرح، ولا تنسوا أم فارس ياقوت، واقعدوا تفرجوا، فالمثل يقول: إذا أردت إهانة رجل فحرش به مرأة. وبدلا من أن تكونوا ضباعا كونوا ثعالب ... هذا إذا سمعتم مني وعملتم برأيي.
فهدأت فورة الشباب وبدأوا يفكرون - فهز أحدهم برأسه، وكان يدعي العلم والمعرفة؛ لأنه مر في مطلع شبابه من قدام المدرسة - وقال: الرأي قبل شجاعة الشجعان.
فقالوا: هات، ولكنه بلط
3
ولم يزد على ما قال.
وما انقضى الأسبوع وجاء الأحد حتى عاد الآغا، نعم عاد الآغا ومعه موكب بطبله وزمره، ونادى «الشوباصي» الذي يمشي دائما في ركاب الآغا في موسم تحصيل الميرة، فصاح في القرية: يا سامعين الصوت، جاء الآغا. الذي عليه بقوة
4
ليرة فليدفعها اليوم، ومن يتأخر يدفع القرش قرشين. خذوا حذركم، الحبس في انتظار المتأخر، والكرباج مهيأ لمن يتنفس منكم أو يتهرب.
وزاد عليه الآغا قوله: إذا حولنا عليكم فلا نخرج من عندكم إلا قابضين، نظل نحن في ضيافتكم، وتظل دوابنا على معالفكم حتى تدفعوا وترتاحوا منا. نطعمها القمح إذا لم يكن عندكم شعير، وندبح البقر والغنم متى نفدت الدجاج والأرانب.
فقال واحد: نعرف أنك واوي عتيق.
ولم يفهم الآغا ما قال فتابع خطبته: نحاسا نأخذ، وثيابا نبيع بالمزاد. نعري الذي لا يدفع حتى لا يبقى على جلده قميص، هذا عدا الضرب والحبس.
ومضت الأربع والعشرون ساعة وتفرق عسكر الآغا في الضيعة، وعلا الصياح والصراخ من هنا وهناك، فمنهم من دفع بعد قتلة، ومنهم ما اقتضى له أكثر من كف حتى بق الميرة. كانوا يعترضون على الزوائد والآغا يريد الزوائد قبل الميرة المقننة؛ لأن جعله من هذه الزوائد، فالميرة الأصلية يحبس جباتها إذا غلطوا بالجمع، ولو كان الغلط قرشا واحدا، والشيخ يعزل من وظيفته الأبدية إذا ارتكب ذلك.
وهكذا جمعت الميرة في خلال يوم واحد، وما بقي إلا الذين تعودوا ألا يدفعوا على الهينة أو الذين لهم اعتراض على بعض أرقام.
وعمل الآغا حسابه عند المساء، وقال بصوته العريض: الحاضر يخبر الغائب: نتحاسب غدا. ما صبح إلا فتح!
وطلع الصبح وفتح باب التحصيل على مصراعيه، فقصد درويش بو شلحة بيت قرياقوس، وتهدده أنه إذا صار الظهر ولم يدفع، فسيحتل حصانه بيت ملك العسل. سوف يربط الأبجر
5
بعمود قنطرة البيت، فالأوامر مشددة ولا يقبل للضابطية عذر.
فقال قرياقوس: من هلق للظهر يفرجها بو عيسى يا درويش.
فقال درويش: الحكومة لا تعرف أحدا، لا بو عيسى ولا بو موسى. وإذا هربت واختفيت عن العيان، فنحن لا ننتظرك على الهينة، نذبح العنزة ونأكل معلاقها.
فقال قرياقوس: إذا فعلت ذلك أكون أنا مت. أنا لا أهرب، أنا أقابل الرجال ولا أتخبأ، تعال الظهر أنت والفرقة كلها، أهلا وسهلا بكم.
فأجاب درويش: تتهددنا يا قرياقوس؟
فشخر قرياقوس ونخر وصاح: الذي يقول أهلا وسهلا لا يتهدد، العين لا تقاوم المخرز يا درويش! الحكومة مخرز والأهالي عين ضعيفة.
فقال درويش: فإذن نرجع حوالي الظهر.
فأجاب قرياقوس: قلنا من هلق للظهر يفرجها ربك.
وكان الآغا وبعض عسكره ينتظرون على الرجمة
6
التي فوق بيت قرياقوس، وكان قرياقوس يوصوص
7
بعينيه، ولما انتهت المباحثة مشوا في طريقهم إلى بيت الخوري مسرح، فقال قرياقوس: راح الشر، وعند الظهر فرج ورحمة.
وكان اللامحترم يغربل معلف الفرس، فهو يخشى على سعده أن تقرط لسانها إذا لم ينق الشعير من الحصى، وكان الغبار على غنبازه، المجهول اللون، سمك الأصبع، وهو عالق بأهدابه وجفونه ولحيته، ويهر منها على صدره كلما تحرك.
وسمع الخوري صوتا يناديه، فالتفت وردد: بسم الأب والابن، الله يخزي الشيطان، ثم عاد ينقي المعلف ولم يجب.
فصاح الآغا: يا خوري يوسف، اكسر الشر ورد علينا، ادفع ما عليك من الميرة أشرف لك.
فكز الخوري، فبانت أسنانه من وراء لحيته، وقال للآغا: أنا معفي من الميرة.
فقال الآغا: هذا حكي يا خوري يوسف، أفندينا ومولانا السلطان والبطرك والبابا برومية يدفع الميرة.
وضحك يوسف بن قرياقوس، وهو أكتع،
8
ولا يبين بعض الحروف، فزجره الآغا: أكتع وأخرس ويضحك على الناس، الذبابة تأكل غداه ويتبهور!
فنبر الخوري وقال: حاكيني أنا. منو أفنديك ولاه!
فأجاب الآغا بتفخيم وتعظيم: دولتلو، أفندم، حضرتلري، يوسف باشا فرنقو. - بلا فرنكو باشا ولا برنكو، ولا بلوط محمس،
9
أنا معفي من الميرة بموجب مضبطة إدارية صادرة عن ديوان رستم باشا.
فانتهره الآغا صائحا: وآخرتها معك! تريد أن تدفع الميري يا خوري مسرح؟
فنادى أحد الأهالي خوري مسرح قائلا له: الميرة لا مهرب منها يا معلمي، ادفعها واكسر الشر. رد على الآغا بكلمة مليحة على الأقل.
فأجاب الخوري: منو الآغا حتى يتنازل الخوري يوسف بطرس ويرد عليه؟!
فقال الرجل: الحق مع جناديوس، أهل الجرد كحتوا
10
الوحوش وقعدوا مطرحها ...
فقال الآغا من عل: تندم يا خوري مسرح!
فأجابه الخوري: تحتي تسبح.
فقهقه الآغا وقال بلهجته البلدية: أنا وثلاثة من ضيعتنا. (أي: أربعتهم يحملون نعشه.) - لعنة الله عليك ما أرذلك!
فاحتدم عندئذ غيظ الآغا من هذه الإهانة، وغاظته اللعنة التي مست أبهته وشرف السلطان الذي يمثله.
فهز الآغا كرباجه وتقدم. نزل عن الرجمة المواجهة لحارة الخوري مسرح، فصاح به الخوري: وراك. إياك تقدم فشخة،
11
لا تهول علي بكرباجك. - وإذا هولت ما يصير؟ - تقع في الحرم بمجرد الفعل. - طز. ثم تضاحك إذ تذكر أن عليه التظاهر بالتقوى، وقال: إذا ضربتك على رأسك أقع في الحرم؛ لأن رأسك مكرس، ولكننا لا نضرب إلا على قفاك.
فصرخ الخوري وهرول إلى بيته وأغلق الباب، فلبطه الآغا فانفتح عن الخوري الذي كان يرتجف كالقصبة. فرق الآغا لشيخوخته على خلاف عادته وراح يطايبه، ولكن الخوري كالهر كلما حككت ظهره كلما عقد ذنبه كقوس قزح.
فتناوله الآغا من طوقه، وهزه قائلا: قلت لك اكسر الشر وادفع الميرة.
فقال الخوري: وأنا قلت لك إني معفي من الميرة، وهذا أمر رستم باشا.
ونهض الخوري إلى خزانة دهرية مطلية بالدهن؛ حتى اختفت ألواحها وصارت لماعة براقة، ومن جوفها استل أوراقه وراح يبحث بينها عن الأمر، فأخذ الآغا الخوري من ساعده الأيمن وربزه
12
قائلا: ادفع قلت لك. رستم باشا مات من ثلاثين سنة، ثم أوقفه لصق الجدار، وقال: اقعد حد الحيط حتى نأخذ بخاطرك.
واشتد صراخ الخوري وشرع يستفز الآغا بكلامه المر، فأهوى بكرباجه على إليته وهو يقول: رأسك مكرس، قفاك مكرس.
وبعد أن أشبعه الآغا كرابيج سخنة، وأسمع الخوري كلاما هراء وفشارا، تحول الآغا وفصيلته إلى بيت آخر، فوقف الخوري قدام بابه وصاح: يا سامعين الصوت، يا هو. اشهدوا، فارس آغا ضربني في بيتي، دخل بيتي بالقوة، خلع الباب كسر السكرة.
وأسرع الخوري وألجم فرسه وأسرجها، وانطلق كالريح في طريق بعبدا ليشكو الآغا الذي دخل بيته عنوة وخربه، وادعى عليه أنه انتشل مصره المحتوي على واحد وعشرين ليرة ذهبية، وبعض ريالات مجيدية وبشالك وزهراويات، قال إنه يجهل مقدارها ولا يحمل ذمته.
ومر موكب الخوري المؤلف منه ومن فرسه وفلوها وسائر أسرتها وأخيه رفول، فأمر الآغا النفر درويش بوشلحة أن يؤدي التحية للخوري، فهرول صوبه بكرباجه فلم يصب الغرض، فثنى وثلث فلم يدركه؛ لأن الخوري شمع الخيط وأطلق لفرسه العنان، فصاح به أخوه رفول: على مهلك يا خيي خوري يوسف، الفرس معشرة - أي حبلى في شهرها الأخير - على مهلك حتى أقدر ألحقك.
ومر عسكر الآغا ببيوت، سكانها أدوا ما عليهم من الميرة خوفا من الإهانة والضرب وذبح الدجاج، فحياهم شاكرا نخوتهم ومروتهم بخطبة قصيرة من خطبه المشهورة.
وظل الموكب سائرا حتى بلغ بيت إلياس يعقوب، فلاقته زوجته هاشة باشة، فقال لها الآغا: ادفعي الميرة أولا، وبعدئذ اصرفينا بالطريقة التي تريدين.
فقالت: إلياس غائب، وأنا من أين لي حتى أدفع؟
فقال الآغا بتفخيمه الألفاظ: هذي حجة لا تقلي عجة، الميرة يا ست.
فقالت ياقوت: لا تجملني
13
وحق من خلقك ما معي شيء حتى أدفع، ما معي إلا الذي ورثني إياه المرحوم.
فتضاحك الآغا وغمز، وهو يقول: إذن معك كنز لا يفنى!
وغمرها، فبطحته وأخذت تصفعه: هذي تنفعك وهذه تضرك، وظلت وإياه على تلك الحال حتى أقبل الجيران وأقاموها عنه.
وعلا الصراخ في الحارة؛ فتكاثرت الناس واستحى الآغا، فقعد على الديوان ينفض ثيابه، ويفتل شاربيه طالبا السترة، ولكن جار ياقوت النبيه أنقذ الموقف، فقال للآغا: يا آغا هذه مره، وحامل السيف، والذي عليه شرف الدولة مثل جنابك يا آغا لا يمد يده إلى أنثى؛ أهكذا تشبعها قتلا؟
ورأى الآغا المنفذ موافقا ففتل شاربيه ورفعهما؛ حتى صارا في خط الاستواء، ثم وقف يلقي خطبة بجل فيها أهالي عين كفاع، وانتهى إلى القول: أنا ابن حكومي، ومن يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه. والذي يأكل مال أفندينا آكل رقبته؛ لا فرق إذا كان رجلا أو امرأة.
قال هذا، ونفض الغبار عن ثوبه الجوخ الرصاصي، بعدما لفت نظره إلى ذلك أحد الحاضرين.
وفهمت ياقوت ماذا يقصد جارها، فتقدمت من الآغا وفي يدها برشيمة عتيقة، وأخذت تزيل الغبار العالق بثوب الآغا، والآغا مسترخ لها حتى انتهت المهمة التي كان مسك ختامها قول ياقوت: ضربتني يا آغا، الله يغفر لك! تفضل لف سيكارة، دخاناتنا على ذوقك.
فأجاب الآغا وهو ويأخذ وعاء التبغ المفروم: وأنا أسامحك بالميرة، أدفعها عنك. أنت بطل يا ياقوت، ما وقفت بوجهي أحد قبلك.
وقامت ياقوت إلى الخزانة فأخرجت قنينة العرق والأقداح، وشرب الناس سر الآغا الذي تنمرد؛ فكسرت شوكته ياقوت وأقلت من عنجهيته.
14
وخرج قائد العسكر المكسور من وكر ياقوت قاصدا بيت ملك العسل قرياقوس، كان ذلك في ساعة الظهر، والنحل فائع
15
في عز هيجانه، والزنابير تحاصره في جراره، وقرياقوس يدافع عن نحله بالمكنسة؛ فقلما يسلم منها واحد تقع عينه عليه.
وفي تلك الساعة اللاهبة أقبل درويش ليقبض الميرة في الموعد المعين، فأرشدوه إلى قرياقوس حيث كان يكافح الزنابير، فذهب درويش، وفي وجهه الشر، فصرخ: يا قرياقوس هات الميرة.
فصاح به قرياقوس: إياك تقرب؛ النحل هائج، كبس البيوت عمل واطي.
فقال درويش: قرياقوس حذرك! مستعد أدعس رقبتك.
فنادى فارس آغا درويش قائلا: درويش! أنت من بيت بوشلحة، تهجم على طابور، وتخاف من نحلات قرياقوس؟ اكسر رأس الضبع، وتعالى تمسح بكبراني.
فأجاب قرياقوس موجها الحديث إلى الآغا: فشرت يا فارس، شم ريحة كفك، لا تفزع قرياقوس. يا هم أنفة
16
من هدير البحر، من له مدة لا تقتله شدة، الذي ياكل القتلة من مره يروح يطم مخه.
17
وتماسك قرياقوس ودرويش، وسقطا كلاهما في جرة النحل؛ فانكسرت وفاع النحل، ولم ينفع الآغا، الواقف على الرجمة هربه، فوقع على رأسه فرخ النحل وأخذ يلذعه؛ حتى اختفت عيناه من الورم بعد قليل.
وأكثر من ذلك: جاء كلب قرياقوس على صوت صاحبه، فأقبل يعاونه فعض العسكري ومزق ثيابه الرسمية.
وهكذا انكشف المعركة في ذلك اليوم عن دعويين: واحدة أقامها الخوري مسرح على فارس آغا، وثانية أقامها فارس آغا على قرياقوس.
ودخلت قوة الحكومة عين كفاع يوم الأحد مع الفجر قبل خروج الناس من بيوتها إلى القداس.
الفصل الرابع عشر
خوري الضيعة
قامته فوق الربعة ولكنها ممشوقة، كان فوق السبعين ولا يزال مستويا لا عوج في هيكله ولا أمت.
1
عليه جلال الكهنوت القديم ورصانته، يبسمل كلما دق الكوز بالجرة، تخلع عليه لحيته أبهة لا غلو ولا تطرف فيها، فلا هي بالطويلة ولا بالقصيرة، وكأن المثل «خير الأمور الوسط» قد فصل على قدها. أرسلها الخوري على هينتها فلم يعلها موسى منذ تكريسه، فكان شعرها شعر شمشون، إذا كشف رأسه يبدو في قلة
2
رأسه أكليل كأنه معمول على البيكار، لم يأخذ المقصان من لحيته شعرة، فإذا سقطت واحدة، فبقضاء وقدر. يحزن الخوري لسقوط تلك الشعرة حزنا كبيرا على مقدار خسارته من مهابته، أما ثيابه فبسيطة نظيفة؛ لأن الخوري مرآة الشعب النقية، والخورية كانت في زمانها أنيقة، وظلت تحافظ على الأناقة في فسطانها وجبة زوجها الخوري، لم ير أحد هذا الخوري متخففا بشرواله الأبيض ولا في مباذله،
3
فهو يعلم أن التخفف من غنبازه الأسود يقلل كثيرا من مهابة كهنوته في عيون أبناء رعيته، وقد يفقده الكثير من اعتبار صغر كرشه؛ ولذلك كان يأكل حتى يمتلئ.
لم يتوكأ خوري الرعية في ذلك العمر على العصا السنديانية كأمثاله من الكهنة القدامى، ولم يتخذها مقمصة بالفضة للفخامة والفخفخة، ومع أنه كاهن تقي مشهور بالإيمان والطاعة الأعميين، كان ينتقد السادة الأساقفة وعصيهم ذات القبضات الفضية أو الذهبية على آذان الناس بلا تحفظ، كان يؤاخذ الكهنة الفتيان على ظهورهم في بيوتهم بقمصان النوم، قبل أن استعيض عنها بالبيجامات ... فكانت الضلالة الأخيرة شرا من الأولى. كانوا إذا ظهرت سراويلهم المقصور فهناك المصيبة الكبرى، وقد قام على عهده أحد الأساقفة المتربين في رومية بزيارة الضيعة زيارة رعائية وتمشى فيها، ثم ظهر في السهرة بالبيجاما، فتعالى نقد الخوري له ولومه إياه، وقال كلمته المشهورة: قريبا لا يجد الموارنة كاهنا منهم إلا نادرا، وسيكون كل شهر عندهم اثنين الراهب
4 ...
وتذكر الخوري انتهاك العسكر حرمة قريته بدعوى الخوري مسرح على فارس آغا، ودعوى فارس آغا على قرياقوس، فقال يحدث نفسه: ثلاثتهم أشرار كاذبون، منافقون معتدون، ولكن قرياقوس كما قيل، ما كان معتديا هذه المرة، أما خوري مسرح فهو قط شر، يخلق الدعوى من غيمة، وإذا لم يجدها فتش عنها بالفتيلة والسراج. الآغا حباب فلوس لا يعنيه إلا أن يقبض، سواء كان ذلك بحق أو بغير حق. يتعلق بالناس مثل العليقة، ويفتح جيوبهم مرة باسم الحق العام، ومرات بالتهويل والتخويف باسم السلطان.
ثم رفع عينيه إلى فوق، وقال: ما العمل يا ربي؟ ألا تطالبني غدا، يا الله، يوم الدين؟ ساعدني إذن الآن على هؤلاء الشياطين الثلاثة، حتى أطردهم فيكف شرهم عن رعيتي؛ فهذا الثالوث الشيطاني: الخوري مسرح، وفارس آغا، وقرياقوس ضاهر، كل واحد منهم، لا يستريح ولا يدع الضيعة تستريح.
كان الخوري القديم يظن أنه مسئول عن نفوس الرعية، وأن ربه سيطالبه بها يوم الدين، وهلاك نفس واحدة من خرافه يؤدي حتما إلى هلاكه وتعذيبه المؤبد في نار جهنم التي لا تطفأ ... وإذا لم يقاوم الشر بيده وفكره ولسانه يكون مقصرا ويدان دينونة عسيرة، فهو مسئول حتى عن الجنين الذي سقط طرحا ومات بدون نعمة العماد،
5
حينما كان العسكر يحقق في دعوى الخوري مسرح.
ثم عاد الخوري إلى نجواه، فقال: لم يكتف ذاك الخوري بضابطية جبيل، بل شكا إلى الباشا، فأرسل الباشا فرقة عسكرية إلى ضيعة صغيرة مثل عين كفاع.
أوف، نعم إنها صغيرة ولكن شيطانها كبير، والرؤساء والرعاة أصل كل هذه الشرور. نحن نستطيع أن نصالح المتقاتلين إذا لم يكن وراء أحدهم صاحب نفوذ ديني أو دنيوي: بطرك، أو مطران، أو وكيل بطريركي، أو مدير، أو قائمقام، أو عضو مجلس إدارة. واستراح هنيهة ليفكر بالمصير، وعاد يقول: حاولت جهدي أن أفض هذه المشكلة ولكنني لم أقدر، والسبب أن الخوري مسرح حمل توصية من المطران بو نجم والآغا أخذ وساطة من ابن عمه الآخر المقرب من البطريرك؛ وهكذا ضاعت الحكومة ولم تدر من تصدق، وراح الخوري والآغا زق حصير.
6
أما قرياقوس فسلاحه لسانه، وواسطته نحله وعسله ... والنكتة فيه أنه لا يصلي ولا يقدس ولا يعترف ولا يتناول، ومحط كلامه عند أدنى حادثة: اتكلنا على الله. يا عضرا ساعديني. هذا الرجل لو تعلم لكان أقدر أفاكاتو!
7
يكذب ويحلف. يقول لي دائما: وحياة دم المسيح، وحق جسد الرب، أكون محروما من يمينك إذا كنت أقول غير الحق.
وفيما كان الخوري متكئا على جذع السنديانة الدهرية التي سبق ميلادها الكنيسة القديمة، إذا بقرياقوس يطل من خلف حائطها مصبحا الخوري بخشوع وإجلال، وبيده منجل، فقال له الخوري بعد رد الصباح: خير إن شاء الله! حرش من أنت قاصد، قبل قداس أحد الوردية الكبيرة؟
8
وانفتح لقرياقوس باب المجون، فضحك ضحكته المأنوسة، وأجاب بلطف: من أين عرفت يا معلمي إني قاصد حرش الناس؟!
فقال الخوري: لأن المنجل في يدك وأنت غاد.
فقال قرياقوس: وهل أن حمل الآلة دليل على أن نية حاملها سوداء.
فقال الخوري: في الغالب هكذا.
فقال قرياقوس: أنا وأنت نحمل آلة الزنا، من ساعة خرجنا من بطن أمنا، فهل معنى ذلك أني زان، وأنك زان؟
وضاقت حجة الخوري فتسلح باسم الأب والابن، وأجاب قرياقوس: انقبر، سد بوزك بلا طق حنك. اقعد حدي يا بشع اللسان، الآن انتهت دعوى الآغا عليك وتصالحت وإياه، فقل لي كيف كسرت جرة النحل وتركته يعقص الآغا؟
فقال قرياقوس: أنت تعرف قرياقوس، فهو يفضل حبس شهر في قبو البقر وأكل قتلة مشبعة على كسر جرة نحل وخسارتها. القصة أن درويش آغا أمسكني بعباءتي، وحاول أن يضربني بدبوس صغير يحمله، فسقطت الضربة على الجرة فانكسرت وفاع
9
النحل، والنحل متى هاج وماج لا يحط إلا على أعلى شيء يجده في دربه، وكان الآغا واقفا على رجمة طنوس فارس كالعمود، فعلق على طربوشه الأحمر وأخذ يلذعه.
فقال الخوري: يظهر أن عندك حيلة لتطييره وتهجيجه.
فأجاب قرياقوس: النحل في الشوب لا يحتاج إلى تهجيج، ولا تنس يا معلمي أن الله موجود، وهو مع الضعيف حتى يعتبر القوي، أنا متكل عليه وهو لا يخيبني ... ثم سكت وقال بعد هنيهة استراحة: قل لي معك وقت حتى أكمل حديثي وأخبرك عن خواص النحل؟ - كمل يا قرياقوس واختصر، جاء وقت القداس.
فقال قرياقوس: النحل كافاني على قتل أعدائه الزنابير، ولا رأس إلا وفيه حكمة. إذا كانت النحلة تروح إلى جبل جاج وترجع إلى وادي عين كفاع ولا تضيع دربها، ألا تكون تعرف الحق؟!
فقال الخوري: يا سبحان الله! أين تعلمت الفلسفة يا بو يوسف؟
فقال قرياقوس: لا تتعجب. الله خلق فيها هذه الخاصة، والذي أرشدني إلى هذه الحقيقة شيخ جامع القلمون،
10
وأنت تعرف أني ربيت في حنوش وكنت أتصيد السمك. - وصرت تتصيد الدعاوى. - لا تقاطعني: أكون محروما من شركة أمنا الكنيسة البطرسية إذا كنت أقول غير ما أعتقد. بحياة قدسك لا تقاطعني.
وأطرق قرياقوس، وحك رأسه قليلا، ومسح شاربيه من الريلة المنهالة عليهما، وعاد من حيث كان: سمعت شيخ الجامع يقول: وأوحى ربك إلى النحل، ألا يكون معنى هذا أن النحل نبي، وهو يعلم خبث نية البشر؛ ولهذا عمل ما عمل بالآغا.
فقال الخوري: وكلبك غبار هو صاحب إلهام أيضا.
فضحك قرياقوس بملء فمه حتى بدا ناباه، وقال: هذا كلب ربي على معجني وهو صغير، كنت ولا أزال أعزه وأحبه، أقاسمه اللقمة لينجدني متى كبسوا بيتي. وهو يرافقني دائما، وإذا تماسكت ولو مع ابني يوسف يركض غبار مثل هبوب الريح ليساعدني عليه، فعضة الكلب شهادة لي لا علي. هه هه هه. أنا قلت للنحل اعقص، وللكلب عض! والله ثم والله ثم والله، لو لم أعرف أن الآغا يخزق ثيابه، ويدعي علي بالزور أني أهنت شرف الحكومة، وتتخ عظامي في الحبس، كنت خلعت رقبته وقبرته حد بيتي.
اسأل عن ماضيه يا محترم، أما علم امرأة فلان حتى اتهمت سلفها أنه سب دين السلطان، ولا يزال في الحبس إلى اليوم. خافوا ربكم! صحيح أنني قضيت عمري على درب الشريعة، ولكني ما ادعيت على أحد بالزور ولا شهدت بالزور.
فقال الخوري: ولماذا شهد عليك جرجس طنوس أنك كنت تراشق بالحجارة؟
فصفع قرياقوس جبهته العريضة، فرنت كالصنج المشعوث،
11
وصاح: هذا الدعموص
12
متى صار يقشع؟ قدسك تعرف أنا نعلق النحل الهاج، إما بقبضات التراب التي نرشقه بها وإما برش الماء، وما كان قدامي غير التراب، فسبقت على النحل، وكان من عدل الله أن يغط فرخ النحل على طربوش الآغا وشرابته، ويعطيه من حلاوته ما فيه نصيب.
أظن يا معلمي خوري بطرس أن النحل يعاقب ناكري الجميل، فكم مرة ومرات قعد الآغا على صينيتي وأكل عشرة أرغفة، وتحلى بإقة عسل، وحطيت له مطربان في الخرج. العسكري يا معلمي ملحه على ركابه، وليس في بلادنا عدل ولمن نشتكي؟ عوجا من إسطنبول يا بونا، وأيش العمل؟ الآغا نقال حكي، أراد أن يسود وجهي مع الرهبان، وأنا ربيت عندهم في حنوش.
فقال الخوري: أيش الحكاية، هاتها باختصار . - الحكاية يا سيضنا الأكرم - سيدنا - لا تؤاخذني قلت يا سيضنا الأكرم، والواجب أن أقول: قدس أبينا المحترم.
فقال: كمل، لا بأس. - قال لي الآغا في سياق الحديث عن دابته المرخمة الأذنين أنها من رءوس الدواب: أمها فلانة، وأبوها جحش الدير؛ فلا تتعجب إن دفعوا لي حقها خمسين عسملية.
فقلت له على سبيل النكتة المضاحكة: لو كان والدها المحترم هو رئيس دير معاد، لا أدفع ثمنها أكثر من عشر ليرات. دابة بخمسين ليرة! أيش خلينا للفرس؟
فحملها الآغا باردة سخنة إلى رئيس الدير، وباع صداقتي بعشا من مخلوطة الرهبان.
فنهض الخوري وهو يقول: ارحمني يا الله أنت حجتك قوية يا ابن عمي. بلا طول سيرة رح دق الجرس، وإياك أن لا تحضر القداس، فاليوم مهيئ لكم وعظة حلوة.
ودق قرياقوس الجرس وذهب، وعندما قرع الجرس آخر مرة كان قرياقوس داخلا الكنيسة، وكان الخوري مسرح قاعدا من عن يمين المذبح، فقال خوري الضيعة في قلبه: توفيقة، عصفوران على فرد قضيب.
وأقبلت الضيعة على القداس جرد العصا،
13
فذاك النهار كان أحد الوردية. ومضى الخوري في قداسه الاحتفالي، وانقسم الشمامسة جوقين، يترنمون ماطين أصواتهم، والصنوج والنواقيس تسبح الله. ودار القداس. وبعد أن تلا الخوري الفصل المعين في الإنجيل لذلك اليوم، التفت إلى الشعب وعلى وجهه بشاشة عميقة، وقال: يا إخوتي المباركين، أبنائي بالرب.
ببساطة كلية أحكي لكم. فالله، آمنت باسمه، يفهم البسيط والمركب. قال داود النبي: قلبا نقيا اخلق في يا الله، وروحا مستقيما جدد في حشاي، فالله تعالى لا يطلب منا أجسادنا وما علينا من ثياب مزركشة ومبرقشة، بل كل ما طلبه داود من ربه أن ينقي قلبه من الأقذار. فإذا لم تنظفوا قلوبكم من أوساخ الحقد والبغض، فلا سلام ولا أمان لهذه القرية التي كانت مباركة، حين كانت خالية من الشقاق والخصام، كانت ضيعة حلوة فصارت شنيعة؛ لأنها صارت ضيعة شريعة ودعاوى.
أين راحت المسابح الطويلة؟ كيف اختفت الشبية
14
وحلت محلها كتب الشريعة وجورنالات الضابطية ومذكرات الجلب والإحضار! كنتم تصلون خمسة عشر بيتا صباح مساء، وصرتم ليس معكم مسبحة خمسة بيوت.
فقاطعه واحد فيه لوثة
15
وعرض عليه مسبحته، وهو يقول: لا تتهمنا كلنا بقلة الدين، حرام عليك!
فبانت سن الخوري، ورد عليه بقوله: واحدة من عشرين، ثم قال: الله الله كيف تبدلت الأيام وتغيرت البشر!
وبينما كان الناس في سكوت عميق، إذا بمعاز الضيعة في ذلك الزمان يدخل، وهو يعرج على الجانبية، فهاله منظر الجماعة في ذلك اليوم العرمرم،
16
يوم أحد الوردية الكبيرة. رأى نسيبه خوري الضيعة في ثيابه الكهنوتية، وخصوصا الغفارة التي لم يرها من قبل، وهو منتصب على المذبح، فتهيب المعاز الموقف وصاح: صبحك بالخير يا جوز خالتي خوري بطرس، الله معكم يا جماعة.
فتعالى الضحك، وحاول الخوري ألا تبرز ابتسامته كل البروز، فقال للرجل بنكتة بسيطة: أهلا وسهلا. تفضل اقعد، واسمح لزوج خالتك أن يكمل كلامه.
ثم استطرد قائلا: فمن أين جاء الشر، وماذا غير الضيعة هذا التغير؟ لا المعاز يرد طرشه عن الزيتون، ولا البقار يعف عن الزروع، ولا الحطاب يرحم الشجرة المسكينة ... حتى ولا الذي جلبنا له الحرم؛
17
لأنه يلفي على زوجة فلان، ارتدع وتاب، فحش وفجور وسكر، وقطع أشجار وخلاف على القبور، ودق الجرس وعصا النطارة.
يا بحر الله خذ عبد الله.
أولادي الأعزاء.
رعيتي كانت آباء قديسين فصارت قرودا وشياطين. يا ربي أستغفر الله، نزل إلى رعيتي وحش من الجرد، وطلع إليها تنين من البحر، وصار كل واحد منهم يحر في الضيعة حتى صيروها مثل جهنم الحمرا ...
واستراح هنيهة واتكأ على المذبح، ثم ابتسم وقال: لا تتلفتوا صوب أحد ولا ينشغل بالكم، أنا أدلكم على المقصودين من كلامي. فالوحش الجردي أخونا بالله خوري مسرح، والتنين البحري هو ابن عمنا قرياقوس ضاهر، والذبان يعرف دقن اللبان.
فقال الآغا، وكان في الكنيسة يحمل إلى الناس بشرى بلصة جديدة، هي دفع إعانة لضيعة زحلت
18
على أثر زلزلة: وأنا نسيتني يا محترم؟
فقال الخوري: لا، أنت هذي مهنتك، ولا أطلب منك إلا أن تعمل الحق وتحضر القداس والصلاة حتى يلهمك الله عمل الخير، ولا يخطر ببالك أن تقيم علي دعوى بإهانة الحكومة.
فأومأ الآغا إلى الخوري بمسبحته الوردية الطويلة، فقال الخوري: لا أتعجب من طولها؛ فابن عمك مطران ...
ثم تنهد وقال: يا فارس، الملبوس لا يعمل القسوس، وليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، ولكن لا بد من هذه لتذكرنا بواجبنا نحو الله والقريب.
وهنا زحل الخوري مسرح عن مقعده على الخورس، وخرج وهو يبربر،
19
ثم لم يدخل كنيسة عين كفاع أبدا.
أما خوري الضيعة فشيعه بنبرة: روحة بلا رجعة، ثم أطرق وهو يقول: أين كنا وأين صرنا؟ ثم تذكر موضوعه فعاد إليه قائلا:
يا أحبائي!
لو قاموا جدودنا القدماء من القبور وزاروا عين كفاع، لما عرفوا أحدا منا. فعودوا إلى سيرة الجدود يتجدد فيكم الإيمان ويفيض عليكم الخير.
ما سمعتم أن الدول تغلي مثل الخلقين،
20
وأن ألمانيا وفرنسا وانكلترا وإيطاليا تتحارب، وبعد قليل تدخل دولتنا العلية - نصرها الله - هذا الآتون، والويل للشعوب والأمم المسكينة.
الحرب يا أولادي على أبوابنا، فأصلحوا سيرتكم ليرد الله عنكم هذه الشرور، الويل للشعب المخطئ؛ فهذا آخر زمان، أما سمعنا الإنجيل يقول: تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، ويصير جوع وطاعون وأوبئة، وهو هذا آخر الأزمنة. نعم هذا هو الوقت الذي قيل عنه: تتعلق فيه امرأتان برجل، وتقولان له: ارفع عنا عارنا.
ربما قال بعضكم ما هذا التفزيع، فالحق يا أولادي أقول لكم كما قال سيدي يسوع المسيح: ملعون كل كلب لا ينبح. فقد نبحنا، ولكن صوتنا ذهب مع الدوي، كما قال النبي داود.
وأخيرا أسألكم المغفرة إذا كنت أسأت إليكم أو جرحت بكلمة كرامتكم؛ فهذا واجبي المقدس، وكما أن الآغا لا يأكل خبزه حلالا إذا لم يعدل ويرحم الأجساد، كذلك نحن لا نكون مستحقين نعمة درجة الكهنوت إذا لم نسهر على خلاص نفوسكم.
فابتسم الآغا وتجعس
21
وأراد أن يتكلم، فنهاه الخوري، وقال له: محضوره.
وانتهى القداس والزياح ولم يحصل لا شجار ولا نقار على دق الجرس، كما يحدث غالبا في نهاية القداس والزياح وعقب كل اجتماع عند الكنيسة.
ومشت الأمور على هينتها أسابيع، ولكنها لم تستمر لأن القرية لا تهدأ كل الهدوء، فشرارتها لا تنطفي، بل تظل نارها متقدة تحت الرماد.
الفصل الخامس عشر
النهاية السوداء
وتحير خوري مسرح أين يقدس، بعدما خرج من كنيسة عين كفاع مغاضبا، فلم يجد أنسب من القبو القائمة عليه حارته الجديدة، فسعى لدى مطرانه كي يحصل على الإذن بالقداس في بيته. ضن الخوري على سيده يسوع المسيح بغرفة من تلك الحارة، فأنزله في القبو الذي كان زريبة لسعدى وسلالتها؛ فصح في السيد ما قاله في إنجيله عن نفسه: ليس لابن الإنسان مكان يسند إليه رأسه. وأعاد التاريخ نفسه؛ لأنه ولد في مكان مثله.
وتشكى أهالي عين كفاع متألمين من هذا الاحتقار، الذي ألحقه خوري مسرح بسر الفداء،
1
وفيما هم يتباحثون إذا كان القداس في هذا المراح مقبولا، قال كاهن عتيق: لا تشغلوا فكركم يا أولادي، لو قدس الخوري مسرح في كنيسة مار بطرس برومية، يظل قداسه غير مقبول؛ لأن قلبه غير نقي، والضيعة لا ترتاح إلا إذا أخرجناه منها.
وبعد قداس الأحد تشاور وجوه القرية على عادتهم، وفكروا بالخلاص من خوري مسرح بعد أن كبر شيطانه جدا وأمسى لا يطاق، وثاني يوم اجتمعوا في بيت خوري الضيعة وتداولوا في الأمر، واستعانوا برأيه الصائب؛ فقر الرأي على أن يلتمسوا من غبطة البطريرك إلياس الحويك عزل الخوري من وكالة الوقفية وإخراجه من عين كفاع.
وجاء دور كتابة العريضة، فتداعوا إلى كتابتها، وتعازموا مجاملة على طريقتهم عند أخذ القهوة، أو عند دخول البيت.
وضاق صدر الخوري المريض المزنوق،
2
فقال بنبرة: يا طنوس، خطك أحسن. وأنت معلم أكثر، القصد أن يفهم غبطته ما نريد، وأن يقرأ ما نكتب. اكتب يا طنوس.
ورضخ طنوس لأمر المحترم، وانقطع سيل تفضل، وتفضل حضرتك، ولا نتقدم عليك. فقال الخوري: ينص تلك العريضة:
لمقام صاحب السدة الرسولية، راعي الرعاة، المغبوط سيدنا وأبينا مار إلياس بطرس الحويك، بطرك أنطاكية وسائر المشرق الكلي القداسة والطوبى أيده الله.
قدس الأب الأقدس.
غب لثم ثرى مواطئ أقدامكم الطاهرة والتماس بركتكم الرسولية نعرض نحن أولادكم أهالي عين كفاع:
تعددت شكاوينا من الخوري يوسف بطرس مسرح، وكيل وقفية سيدة البياض، في قريتنا عين كفاع. فلما ضاقت قرية مسرح عليه، ولم يحتمله أقاربه فيها، رحل عنها وأقام عندنا لسوء حظنا. وها قد مضى عليه أكثر من ستين سنة، ولا شغل له إلا كتابة العرائض وتقديمها للحكومة، ثم تمييز الدعاوى إلى إسطنبول لتتعقبا الحكومة وتطاردنا بدعاوى كاذبة لا نهاية لها. فإذا لم يصبحه الناس شكاهم، وإن رفعوا صوتهم بالسلام عليه اتهمهم بالهجوم عليه، وأحيانا بضربه. وها قد مضت أعوام وأعوام، وهذه الحية الرقطاء لا تخرج من هذا الوكر، إلا لتنفخ وتبخ سمها، ثم تعود إليه وتتلذذ برؤية ضحاياها.
يقول المثل: من أدرى بأخبارك غير ربك وجارك، فابن حلتا مثل غبطتكم أخبر منا بجاره ابن مسرح. ولما كان ليس للأولاد إلا والدهم؛ لهذا لجأنا إليكم اليوم بعدما عجزنا عن تحمل جور وظلم هذا الخوري الشرير. فنلتمس الآن من غبطتكم، إذا لم تكفوا يده وتعزلوه، فعلى الأقل نرجو أن تحتموا عليه بالإقامة في بيته، بقريته مسرح.
شبعت عين كفاع مصائب ودعاوى من هذا الخوري المتمرد، الذي يدعي أنه لا يخضع إلا لرومية فقط، وإن وقفيته تحت سلطة البابا، ونحن لا نعرف أن لرومية سلطة التدخل في أوقافنا مباشرة، وإذا كان لها شبه الحق، فلا نظن أن رومية تحمي الفرد وتترك المئات والألوف.
لا نريد أن نسرد ما يقوله كل يوم هذا الخوري؛ لئلا نعكر صفو خاطركم، ولعلمنا من المثل: إن الذي ينقل السب كأنه يسب ثاني مرة، فارحمونا وأبعدوا هذا الشقي عنا.
لا نطلب أن تنزعوا عنه شرف الكهنوت، ولا أن تأمروا بجز لحيته؛ لأن هذا لا يعنينا، كما أنه لا يفيدنا أبدا. المهم أن تكفونا شره، ولكم الأجر عند الله والدعاء من أبنائكم المؤمنين.
وختاما نسأل الله أن يديمكم فخرا للطائفة، وتكرارا نطلب بخشوع منحنون على أقدامكم، البركة الرسولية من فمكم الطاهر أيها الأب الأقدس.
وصرف للرسول الذي حمل العريضة ريال مجيدي من مال الوقف، فأدى الرسالة في حينها. وبعد أيام أجرى البطريرك تحقيقا قانونيا، وإن كانت لا تخفى عليه سيرة الخوري مسرح، وهو يعرف قصصه عن ظهر قلب.
كان يقف إلى جانب الخوري مسرح أحد أساقفة بكركي، وهذا الأسقف كان قد مات. وكان يدعمه أيضا القاصد الرسولي، خصم البطريرك التقليدي، والقاصد قد نقل. فلم يبق من ثم ما يحول دون عزله وتعيين وكيل آخر من الأسرة الواقفة. وهكذا طلب رئيس الديوان البطريركي من قائمقام كسروان أن ينفذ قرار البطرك إلياس الحويك، فكتب القائمقام إلى مدير جبيل، الشيخ بان الخازن. وهذا أمر فارس آغا ومعه أحد رجاله، درويش بوشلحة، بالتوجه إلى عين كفاع، ونزع يد الخوري مسرح، وطرده طردا إذا رفض الامتثال لأمر الحكومة والبطرك.
ولما تناول فارس آغا هذا الأمر جاءته شحمة على فطيرة، فركب دابته الشهيرة، ومضى في طريق عين كفاع، ولما بلغها ولم يعثر على الخوري في بيته؛ لأنه كان لائذا ببيت أحد أقاربه، صاح بصوته الجهوري من بعيد: اليوم يوم الدينونة يا خوري يوسف! والله العظيم وبالغ كل يمين؛ لأنزع لحمك عن عظمك.
وثنى درويش على كلام الآغا بقوله: معنا أوامر أن نحش لحيتك إذا اقتضى الأمر، فسلم تسلم.
وقام الخوري إلى الفراش ليتوارى عن نظر الآغا، ولكنه لم يملك قواه الطبيعية فارتجل حاجته، قبل أن يصل إلى فراشه، فزعا. وما أن طلع الصبح حتى كان الخوري يسير في طريق جبيل.
واستدعى الآغا شيخ الصلح والولي الجديد فسلمهما البيت، وذهب الخوري مسرح شريدا طريدا كاليهودي التائه.
أما عقارات الوقف كلها فأجرها الولي الجديد، الخوري لويس إبراهيم، إلى اثنين من أهالي عين كفاع هما: يعقوب أرسانيوس، وطنوس فارس عبد الله. ثم تفرغ أحد الاثنين إلى الآخر، فأصبح طنوس فارس عبد الله - سيد حارة خوري مسرح - نصير قرياقوس على طنوس فارس.
وكانت الوقفية سبب شقاء هذا الأخير، فمات قطيعه المائة رأس عن آخره، ولم يبق منه رأس واحد ، ثم دعي هو إلى المجلس العرفي ظلما وبهتانا؛ حيث سجن مع بعض أولاده.
ولم يطل الحين على دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا في حرب سنة 14، حتى عزل أوهانس باشا آخر حاكم دستوري على لبنان، ودخل العسكر التركي الجبل، وقضي على استقلال لبنان الصغير.
وطارت البشائر إلى إسطنبول بأن جيش جمال باشا، قائد الأوردي
3
الرابع، قد دخل لبنان بلا مقاومة، في حين أنه لم يكن للبنان جيش، ليقاوم ... وما كان لبنان يوما إلا قوة معنوية يدعمها الحق والدول الكبرى السبع.
أما ما حصل بعد هذا الفتح العظيم - فتح لبنان - فأخذ البطرك الحويك من مقره في الديمان كالأسير؛ ليقابل جمال باشا في صوفر. وفي آخر ساعة عدل جمال عن تسييره مع قافلة الشهداء، واكتفى بنفيه المعنوي إلى قرنة شهوان. وأعطى جمال البطرك، غصبا عنه، فرمانا سلطانيا كان قد امتنع عن أخذه جميع بطاركة الموارنة منذ وجد الحكم العثماني.
وعندما حاول موارنة الشمال أن يحولوا دون ذهاب غبطته إلى صوفر قال لهم البطرك: كل مكان يأخذوني إليه فيه الله.
أكبر الموارنة خرق امتيازهم المدني، وأكبروا أكثر خرق امتيازاتهم الطائفية؛ لأنهم كانوا دولة في قلب الدولة. فماذا يعملون وقد جاء من الطبل ما أسكت الزمر! فالحصار البحري مضروب عليهم، والحصار البري يحول دون وصول القوت إليهم؛ فمات نصفهم جوعا.
لا أريد ان أتحدث عن ويلات الحرب الأولى إلا بمقدار ما تتصل بحكاية أبطالنا الثلاثة: الخوري، والآغا، وملك العسل.
عم الجوع الإقليم المسيحي في لبنان فأكل الناس ما لا يؤكل، ولا أسمي ما أكلوه لئلا يتقزز القارئ. ما عفوا عن شيء حتى الجيف، وما في الفرث
4
من حبات شعير غير مهضومة. لم تعطهم الدولة العلية قوتا، بل صادرت كل شيء عندهم إلا الحبوب؛ لأنها ليست عندهم ... صادرت البقر وصادرت الخيل والبغال والحمير، والزيت والدبس، وبكلمة عامة: أخذت ما أبقاه الجراد في تلك الحرب.
كانت تتهم المسيحيين باتصالهم السري بالحلفاء، فتسوق إلى سجونها من تأخذهم بالظنة، ومنعت الأنوار أن تطل من الشبابيك؛ لأنها ظنت أن المسيحيين يتصلون بدوارع الحلفاء بلغة الأضواء. وأخيرا انتهت إلى منع قرع الأجراس، ثم أمرت بإنزالها عن قبابها وتكسيرها ولكنها لم تكسر.
ولما نفي البطريرك وماتت امتيازات جبل لبنان صارت شئون الأوقاف في لبنان مثلها في الولايات المحيطة به؛ فاستيقظ ضمير خوري مسرح المنتقم، فشكا إلى الديوان العرفي في عاليه طنوس فارس، متهما إياه أنه أخذ له 40 زير زيت. الزير يسع 80 رطلا شاميا من الزيت. وأنه وأنه ... إلخ.
ثم استيقظت فيه شهوة الولاية على الوقف التي فقدها، فالتجأ إلى بعض وجوه بيروت النافذين عند رئيس الديوان العرفي رضا باشا، وكذب على أصحابنا، الطيبي القلب، فظنوه مظلوما فأنجدوه ببعض المال، وانتهى الأمر عند الاستيفاء بالالتجاء إلى قاضي الشرع، بعد سقوط ولاية البطرك، فباع الخوري مسرح الوقف إلى الحاج حسين خريرو، وسجل البيع عند قاضي الشرع في برج البراجنة.
وما تنعم الخوري بضعة أسابيع بمال الأيتام؛ حتى أصيب بالزنطاري وقضي عليه في بيته بضيعته مسرح، ودفن في ذلك البيت دفنة غير مكرمة ... لم يحضرها غير أخيه، الذي طمره طمرا في قرنة بيته، ولم يعاونه أحد من أهل القرية على مواراة جثته، وما سبب قلة هذه المروءة إلا لأن أحدا منهم لم يسلم من شظايا دعاويه الزورية في الديوان العرفي.
أما قرياقوس، فبعد أن خربت مملكته وباع كل ما يملك في عين كفاع، نقل إلى البترون حيث عاله الذي اشترى عقاراته كلها حتى بيت السكن، ثم مات محترقا في غرفة أسكنه فيها دائنه.
وأما فارس آغا، أحد فرسان حكايتنا الثلاثة، فوشى به أيضا الخوري مسرح مستندا من منعه من المرور بلبنان، فأخذه عسكر الدراغون مكبلا إلى القشلي في بيروت.
وانتظر الناس عودته كغيره من الذين شردتهم ويلات الحرب العظمى الأولى، ولكنه حتى الآن لم يعد ...
عين كفاع، 14 آب سنة 1959
অজানা পৃষ্ঠা