أم لكي نكتشف مسرحنا الحقيقي الخاص بنا علينا أن نسلك طريقا مختلفا تماما، يكاد يكون عكس الطريق الأول، طريقا أشق قليلا؛ لأن علينا فيه أن نكتشف أنفسنا ونكتشفها في نقطة يكتنفها غموض كثير، هي طبيعتنا الدرامية وكنهنا المسرحي؟
تلك هي المشكلة الملحة التي أعتقد أنها أصبحت تواجه جميع المشتغلين بالمسرح المصري والمهتمين به؛ لأنها ليست مشكلة تختص بالتأليف المسرحي وحده، ولكنها تشمل طرق التمثيل والإخراج، وحتى شكل المسرح نفسه وهندسته. مشكلة خطيرة ملحة، ولكني أعتقد أننا قد وصلنا في طريق النضج إلى مستوى أصبح علينا فيه أن نناقش أمثال هذه المشاكل الخطيرة الملحة ونواجهها، بل ويذهب بعضنا إلى حد تقديم النماذج.
ولنبدأ بالسؤال الأول
إنني أعتقد أننا مهما غيرنا وبدلنا وطورنا في المسرح الأوروبي، فستبقى طبيعته أوروبية بعيدة عنا بعد أوروبا عنا، لا تندمج معنا، ولا نندمج معها، مثلنا مثل الماء والزيت، فلكل شعب من الشعوب طبيعته الخاصة التي ينتج فنونه استجابة لها. إن هناك فارقا أساسيا بين العلم والفن، فالعلم ممكن أن يكون قوانين عالمية يتداولها كل البشر ويفيدون منها ويطبقها كل شعب بنفس الروح والعقلية، ولكن حتى هذا العلم الذي يجب أن يكون شاملا وعالميا نجد له أنواعا؛ ففي الهند والصين مثلا توجد ثلاثة أنواع من الطب: الطب الأوروبي التقليدي، والطب التجريبي الهندي الشعبي، والطب العربي اليوناني الذي يستعمل تركيبات المؤلفين العرب واليونانيين القدامى. بل لقد أخبرني الصديق الدكتور أنور المفتي أن نتائج العلاج بالأنواع الثلاثة تكاد تكون متقاربة في درجة فاعليتها، بل أحيانا يتفوق الطب الشعبي التجريبي والطب العربي اليوناني على طب أوروبا نفسه. هذا في العلم، فما بالك في الفن! حيث هو ليس فقط محليا بطبعه، ولكنه ما لم يكن محليا فقد طبعه وطبيعته كفن. إن الفن الذي نسميه عالميا ليس سوى الفن الأوروبي الذي نسميه عالميا من باب التجاوز ، نظرا لدرجة انتشاره الكبرى، ولكنه أولا وأساسا فن أوروبي، بحيث إذا عزلناه عن أوروبا التي أنتجته لفقد تأثيره تماما وفنيته؛ لأن كل فن هو نتاج شعب أو شعوب تحيا في بيئة معينة وذات مزاج وتكوين نفسي معين، بحيث لا بد أن يتطابق الناتج «الفن» مع المنتج «الشعب» أو الفنان النابع من هذا الشعب.
ولهذا أيضا فالمسرح بشكله «العالمي» المزعوم أصبح يهدد المسارح الشعبية الأخرى في كل بلاد الدنيا، إلا في بلاد راسخة التقاليد المسرحية الخاصة كالصين واليابان. وهذا المسرح هو الذي قضى على مسرحنا الخاص بنا، والذي كان محتما أن يظهر إلى الوجود يوما، وهذا المسرح أيضا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحل محل مسرحنا الخاص بنا أو يمنع ظهوره، إلا إذا كان باستطاعة اللغة الفرنسية أو الإنجليزية أن تغنينا عن لغتنا العربية وتقضي عليها وتحل محلها، فالفن كاللغة جزء لا يتجزأ من طبيعة الشعب وخصائص وجوده.
والحديث هنا ليس فقط عن المسرح الأوروبي الصريح، ولكنه أيضا عن المسرح «المصري» الناتج عن التأثر بالمسرح الأوروبي، ذلك المسرح الذي يكون معظم بل كل رواياتنا التي ألفت للمسرح إلى الآن وبما فيها المدرسة المصرية الحديثة. إن ازدهار هذا النوع ورواجه لا ينفي أبدا أنه ليس منا وليس من طبيعتنا، بل إنه يؤكد حاجة شعبنا إلى المسرح بشكل عام وأهميته في حياته، بحيث إنه حين لا يجد مسرحه يقبل على المسرح الآخر، و«شيء خير من لا شيء بالمرة».
الفن إذن خاصية من خواص كل شعب، والمسرح أيضا كما رأينا جزء لا يتجزأ من طبيعة كل شعب، والمسرح الأوروبي سيظل أوروبيا بالنسبة لنا، وكذلك كل الأشكال المتفرعة منها والمتأثرة به، وكل مدارسه في التمثيل والإخراج والهندسة المسرحية.
ولا يبقى أمامنا سوى استجلاء الجانب الأشق. أشق جانب، وهو: من أين؟ وكيف يمكن؟ وماذا بالضبط نقصد بمسرحنا المصري الحقيقي النابع منا ومن طبيعتنا والذي لا يمكن أن ينفصل عنها؟
رد على المستوردين وبداية التعرف على ملامحنا
بعد نشر المقالة الأولى من سلسلة «نحو مسرح مصري» ووجهت بعاصفة من المناقشات بعضها يعارض وبعضها يؤيد، عاصفة جعلتني أزداد إيمانا أن الموضوع فعلا يشغل الأذهان، وإذا كانت الكثرة الغالبة لم تستطع أن تكون فيه رأيا قاطعا، إلا أن هذه المناقشات الحية الحامية أقنعتني أن كلا من المهتمين بأمر المسرح يحاول أن يحدد له موقفا في هذا الموضوع الخطير.
অজানা পৃষ্ঠা