هذا، ولقد اقتضى المضمون الشعري الجديد النابع من الوجدان الجماعي أن يلجأ الشعراء إلى صور وقوالب جديدة يصبون فيها وجدانهم الجماعي، وبخاصة بعد أن تغيرت الظروف بعد الثورة، ولم يعد هناك مجال مستمر للاستنفار الثوري العنيف الذي يلائمه القالب الغنائي التقليدي في شعرنا العربي، فرأينا الكثيرين من شعرائنا الجدد يلجئون إلى قالب القصة الصغيرة الساذجة حينا، وقال الحوار الدرامي السريع حينا، ولما كانت مثل هذه القوالب لا تستدعي بالضرورة وحدة البيت الشعري كوحدة للموسيقى الشعرية، بل يقضي الحوار بتجزئة البيت الواحد إلى تفاعيل وفصل بعضها عن بعض لتوائم القصص أو الحوار، فقد أقدم شعراؤنا على تغيير الصورة مجاراة لتغيير المضمون وتغيير طريقة تصميم القصيدة وبنائها الهندسي.
الصورة الجديدة للشعر
والواقع أن الصورة الجديدة للقصيدة العربية المعاصرة لم تدفع إليها نزوة طارئة أو مجرد الرغبة في التجديد، بل جاءت لتحول عميق في ثقافتنا الفكرية والفنية؛ ذلك لأنه ما من شك في أن فلسفة ثورتنا الجديدة قد وجهت جيلنا الجديد الناهض نحو الواقعية الاشتراكية، وهي واقعية تنفر من الذاتية الرومانسية وتجنح إلى الجماعية؛ أي إلى استقاء التجارب الشعرية من مشكلات المجتمع ومواطن ضعفه وقوته وأفراحه وآلامه، لما كان الشعر الغنائي، أي شعر القصائد، لا يمكن أن يكون بطبيعته إلا شعرا وجدانيا؛ أي شعرا تلونه عاطفة الشاعر المنفعلة بتجارب الشعب، كما قد تشكله أحيانا فلسفة الشاعر في الحياة ووجهة نظره والمذهب الاجتماعي الذي يدين به، فقد كان حتما على هذا الشعر أن يكون لكل قصيدة منه موضوع يتخذ صورة القصة ولكنها قصة لا يمكن أن تصبح واقعية خالصة، بل لا بد أن تمتزج بوجدان الشاعر الذي يعطيها طابع الشاعرية، كما أنها لا تحرص على التفاصيل التي تحرص عليها عادة القصة النثرية ولا على التسلسل المنطقي المحكم أو تحديد أبعاد الشخصيات وملامحها النفسية بقدر ما تحرص على إبراز انفعال الشاعر بهذه القصة وما تثيره في نفسه من شتى العواطف حتى لكأنها تعبير من الشاعر عن الانطباعات التي أحدثتها في نفسه. وإذا كان الشاعر لا بد أن يحيطنا علما بأحداث تلك القصة وبالصورة العامة لشخصياتها فإنه يقتصر عادة على الإشارة السريعة واللمحة الخاطفة الموحية، حتى لا يصاب شعره بالنثرية، وحتى لا يطغى عنصر القصص على عنصر الوجدان الذي سيظل أبدا الطابع المميز للشاعرية.
ولعلنا نستطيع أن نلمس هذه الصورة الجديدة للقصيدة العربية المعاصرة في قصيدة كتبتها أخيرا الشاعرة الوجدانية السيدة ملك عبد العزيز، وهي لم تكتبها مجاراة للتيار الجديد؛ لأنها شاعرة لا تقول الشعر إلا تنفيسا عن وجدانها الذاتي، وهي أبعد ما تكون عن أن تحترف الشعر أو تنتقل مع تياراته، وإنما تقوله عندما ينفعل وجدانها وتشعر بحاجة ملحة إلى قوله، وقد انفعلت لما أذاعته صحفنا عن قصة البطل الشاب «جواد حسني زين العابدين» أثناء معركة بور سعيد الخالدة، وما كان من سفره إلى ساحة القتال على رأس فريق من زملائه الفدائيين، ثم إحاطة العدو بهم ورفضه أن يتراجع مع زملائه مؤثرا الموت على الهزيمة، ثم وقوعه أسيرا في يد الجند الفرنسيين، وسجنه في غرفة ضيقة بمعسكرهم عند شاطئ البحر، على الرغم من الدماء التي كانت تنزف من جراحه، وقد اتخذ من هذه الدماء مدادا سجل به على جدران الغرفة بعض أحداث قصته البطولية الرائعة، وفي النهاية تظاهروا بأنهم قد قرروا الإفراج عنه بعد أن أوقف القتال ولكنه لم يكد يخرج ويسير بضع خطوات على الشاطئ متعثرا نازف الدم حتى أطلقوا عليه الرصاص غدرا من خلف، وألقوا بجثته إلى البحر . وقد انفعلت الشاعرة بهذه القصة أيما انفعال، وزادها شجنا أن رأت فيه صورة لأحد أبنائها، وأنار الانفعال طاقتها التصويرية، فخيل إليها أنها قد دخلت إلى غرفة سجن البطل ورأت الكلمات المسطرة على جدرانها بدمه، وجسم خيالها هذه الرؤية الشعرية المؤثرة فخيل إليها أن هذه الدماء قد أنبتت شجرة خضراء رمزا للحياة المطمئنة التي يرويها دم الشهداء، ثم عاد خيالها إلى قصة البطولة كلها وما تعاقب فيها من أحداث تصورها بخطوط سريعة عميقة، وتسبغ على اللوحة القصصية كلها فيضا من مشاعرها كشاعرة وكإنسانة وكأم، ولكن دون أن تلتزم في عرض هذه القصة وتسلسلها إلا منطق مشاعرها، فهي تبدأ القصيدة برؤية شعرية داخل غرفة سجن البطل ثم تنتقل إلى القصة، وتعود في النهاية إلى تصوير شجرة الحياة التي صور لها خيالها أنها قد انبعثت وأينعت وأورقت بفضل ما غذاها به بطلها من دم ذكي (راجع القصيدة في ديوان «أغاني الصبا» للشاعرة، نشر دار المعارف بالقاهرة).
فهذه قصيدة ذات موضوع هو قصة البطل «جواد حسني زين العابدين» في معركة استشهاده، وبفضل وحدة الموضوع حققت القصيدة تلك الوحدة العضوية، التي نادى بها رواد التجديد في شعرنا العربي المعاصر منذ أوائل هذا القرن ولم يستطيعوا تحقيقها في شعر الوجدان الخالص والخواطر المتناثرة، فظل ترتيب الأبيات في القصيدة وتسلسلها قابلا للتقديم والتأخير دون أن يضطرب بناؤها، أما في هذه القصيدة فنرى وحدة الموضوع تمكن الشاعرة من أن تحقق هذه الوحدة العضوية تحقيقا رائعا، وإن اختلفت تلك الوحدة في القصيدة عنها في القصة النثرية التي لا بد أن تخضع للمنطق الموضوعي الصارم، بينما القصيدة لا تخضع ولا يمكن أن تخضع إلا لمنطق الشعور، فالشاعرة تبدأ قصيدتها برؤية شعرية لسجن البطل، وإذا بهذه الرؤية تطلق العنان للعاطفة التي تحرك الخيال، فتعود الشاعرة إلى القصة كلها بحلقاتها المتتابعة لا لتفصل تلك الحلقات ولكن لتعبر عما تثيره كل حلقة في وجدانها من انفعال عاطفي إنساني زاخر حتى لكأن القصيدة قد استحالت إلى وجدان خالص مع استفادتها من الموضوع في تحقيق الوحدة العضوية التي يتكامل بها العمل الفني، ونجحت الشاعرة في أن تغذي نفوسنا بالأحاسيس نفسها التي استشعرها وجدانها بفضل طاقتها التصورية القوية، بل نجحت في أن تغمر أرواحنا بفيض من مشاعر الأسى المتأسي الرفيع، ومن الإنسانية الشجاعة المستبسلة.
وأما من الناحية الموسيقية فالقصيدة مستقيمة النغم المبني على تفعيلة الرجز دون تقيد بوحدة البيت الموسيقية؛ تلك الوحدة التي لا تشعر بلزومها إلا في شعر الخطابة والمحافل أو شعر الوجدان الخالص أحيانا، وأما الوجدان المختلط بموضوعه والمصبوب في تضاعيف القصة فوحدته الموسيقية هي القصيدة كلها، ومع ذلك حرصت الشاعرة على أن تقسم هذه الوحدة الموسيقية الطويلة إلى وحدات تكاد تحكي الحركات المتتابعة في السيمفونية الموسيقية، وقد جزأت هذه الوحدات الموسيقية وفقا لأجزاء القصة ومراحلها المتتابعة كما تجزأ السيمفونية سواء بسواء وفقا للمدلول العاطفي لكل حركة من حركاتها.
المضمون والصورة
على ضوء التطور التاريخي لنظرية الشعر نستطيع أن ننظر الآن في مقومات هذا الفن، وهي في مجموعها لا يمكن أن تخرج عن المضمون والصورة؛ أي عن المادة الأولية التي يصبها الشاعر في قصيدة، والصورة التي يبني بها قصيده، والبحث في المضمون الشعري يعتبر من المباحث الجديدة؛ إذ إن النقد التقليدي والتاريخ الأدبي المتوارث كانا يبحثان دائما، في أغراض الشعر وأهدافه أكثر مما يبحثان في مضمونه، فالعرب القدماء مثلا كانوا يقسمون الشعر بحسب أغراضه فيجعلونه مدحا وهجاء وغزلا ورثاء ووصفا وحماسا وما إليها، دون عناية كبيرة بالمضمون الذي يصبه الشاعر في كل من هذه الأغراض حتى رأيناهم يقولون مثلا إن المدح ثناء على الحي والرثاء ثناء على الميت، دون مناقشة لطبيعة المضمون الذي يجب أن يصبه الشاعر في قصيدة الرثاء، وهل يحسن أن يكون هذا المضمون تفجعا على الميت وحزنا لوفاته أو مدحا له وتسجيلا لفضائله، وتفلسفا سطحيا حول الموت والحياة والقضاء والقدر، أو مزجا بين كل هذه العناصر أو تغليبا لأحدها على الآخر.
وباستطاعتنا أن نعثر على تقسيمات مماثلة في آداب الأمم الأخرى القديمة، مثل أدب اليونان؛ حيث نرى شعره الغنائي ينقسم أحيانا بحسب صورته الموسيقية، فيكون منه شعر ال
Elegie
অজানা পৃষ্ঠা