ونحن البشر في حياتنا المدنية نولد وننشأ في وسط المدينة أو الريف، فإذا كنا أطفالا تشابهت تقاسيمنا وملامح وجوهنا كما تشابه سلوكنا إلا القليل جدا، والذي تبرزه فروق الوراثة؛ فنحن في الطفولة مواد بشرية خامة لم تتبلور أو تتجوهر.
ثم ندخل المدارس ونحترف الحرف، ويؤثر الوسط الخاص أثره في كل منا فنختلف؛ هذا تاجر وذاك محام، وهذا حوذي وذاك مزارع، وهذا كاتب موظف وذاك مهندس حر، وكل من هذه الحرف يطبع طابعه في تقاسيم النفس والجسم، ثم تمضي السنوات، عشرون أو ثلاثون سنة، ونحن نلتزم حرفة بسلوكها وأخلاقها التي تقتضيها، وبمرور هذه السنين نتكشف كالزهرة من التعميم إلى التخصيص، ومن الحال الخامة إلى حال التبلور، وكأن هذه الاختبارات التي تمر بنا تصهرنا وتخرج منا الجوهر الخاص. أجل، هو الجوهر، ولكنه جوهر الحرفة وليس جوهر الشخصية.
لذلك عندما نتأمل أحد الناس الذين التزموا حرفة ما ثلاثين أو أربعين سنة لا نكاد نخطئ في تعيين حرفته دون أن نحتاج إلى سؤاله عنها؛ لأنها تخبرنا وهو يتحدث؛ لأن لهجة الحرفة غالبة عالية، كما نجد من إيماءاته واختيار أحاديثه جميع الأمارات التي تعلن عن حرفته.
وبخلاف هؤلاء نجد أن ذلك الشخص الذي تقلب في حرف كثيرة، فهو بقال، ثم سمسار، ثم كاتب، ثم صانع، ثم مزارع. مثل هذا الشخص لا يتبلور؛ فإذا قعدنا إليه لن نعين حرفته؛ ذلك أن اهتماماته الحرفية لا تتجمع في بؤرة، بل تتشعع هنا وهناك؛ ولذلك أيضا لا يترك في أذهاننا - من حيث الحرفة - صورة معينة.
ولسنا بهذا الذي ذكرنا نؤثر ذلك الملتزم لحرفة ما على الآخر الذي تقلب وتغير، وإنما نريد أن نبين أن هناك تبلورا أو تجوهرا نكسبه من الحرفة التي نلتزمها سنين كثيرة، كأن الحرفة قد استصفت جوهرها وعينته ونحت عنه الزوائد.
وعندما نتقدم في السن، ونكون قد عنينا بتربية أنفسنا وتنمية شخصيتنا، نجد أننا أيضا نتبلور ونتجوهر، ولكن ليس من حيث الحرفة فقط، بل من حيث الشخصية. وصحيح أن الحرفة هي بعض المؤثرات في الشخصية، ولكن هناك مؤثرات أخرى عديدة إلى جانب الحرفة، هي تبلورنا وتجوهرنا.
اعتبر شابا فجا خاما، واعتبر أيضا رجلا في الخمسين قد نضجت أخلاقه وأينعت شخصيته، وقارن بين الاثنين، تجد أن الأول لا يزال في التعميم؛ فهو «أحد الشبان»، أما الثاني فقد تخصص وله مغزى، وهو رمز إلى أشياء عدة لها قيمتها الاجتماعية أو الثقافية.
وهذه الرمزية وهذا المغزى هما ثمرة الحياة الحيوية؛ الحياة الفنية التي قضيناها ونحن نقصد إلى غاية، ونتبع نهجا، ونكسب الاختبارات وننمو بها. وهي جميعا تصهرنا، وتحيل التبر إلى المعدن الخالص.
وإذا كانت غايتنا أن نصل إلى الشخصية اليانعة، وأن نتبلور إلى الفكرة الجوهرية، وأن يستحيل وجودنا في مجتمعنا إلى مغزى، فإن التزام الحرفة الواحدة قد يكون عندئذ معرقلا أو مبطئا؛ لأنه يحد من حيويتنا واختباراتنا. أجل، يجب أن تكون الحرفة بعض ما يكون شخصيتنا وينميها ويبرز المغزى في حياتنا، ولكن يجب ألا تكون هي كل شيء.
وفن الحياة يقتضينا أن نرقى إلى السنين، ونسير في التعمير ونحن على الدوام في ازدياد التبلور والتجوهر، ننفي الزيادات ونطلب الخلاصة. وفي حياتنا أشياء كثيرة من هذه الزيادات التي تنمو علينا كما تنمو صغار المحار والودع على السرطان في البحر؛ فتعوق سباحته، وتتطفل على جسمه؛ فهناك - مثلا - التزامات «اجتماعية» تبعثر وقتنا، وهناك «مشاغل» مالية تستهلك طاقتنا الحيوية، بل هناك مطامع نشأت ونمت معنا، بقوة التكرار وحكم العرف الاجتماعي، إذا تأملناها بعد الخمسين ألفيناها عقيمة تشغلنا عن الجوهر والخلاصة، وتمنعنا من أن نعيش المعيشة الوجدانية اليقظة فيما بقي لنا من عشرين أو ثلاثين سنة.
অজানা পৃষ্ঠা