أراك متململا، كأن نظرية «العلة الأولى» كما بسطناها لك غير مقنعة لعقلك، تكاد تقول من أوجد هذه العلة الأولى التي تستطيع المستحيل؛ أي: إيجاد شيء من لا شيء؟
صه، هل يمكنك أن تنتهي من الأسئلة ؟ إذا علمت أن علة عليا خلقت هذه العلة الأولى ألا تسأل: «ومن خلق هذه العلة العليا؟» - إلى ما لا نهاية له من الأسئلة؟
إذن أنت حر بين أمرين. فاختر أحدهما.
إما أن تفرض أن ما وراء الكون المادي علة أولى لا سابق لها أوجدت هذا الكون كما تراه وكما علمته، وتكم فم عقلك عن التساؤل المتسلسل اللامتناهي.
أو أن تستغني عن هذه العلة الأولى التي لا تحل المسألة وتقف عند هذه النقطة: إن الوجود = مادة متجاذبة دوارة موجودة - أو واجبة الوجود - ولا لزوم لموجد لها؛ لأنه إذا كان لا بد من وجود موجد لها وجب أيضا أن يكون لهذا الموجد موجد أيضا، ولا بد من موجد له ... إلى ما لا نهاية له من تسلسل الإيجاد، وإذا قلت إن هذا الموجد واجب الوجود ولا لزوم لموجد له، فلماذا تزيد سلسلة الوجود حلقة لا حاجة بك إليها؟ ولماذا لا تقول: إن المادة المتجاذبة الدوارة واجبة الوجود ولا لزوم لموجد لها؟
لا أفهم ما الداعي لفرض العدم ثم إيجاد المادة من العدم. لا أفهم لماذا نعقد المسألة بفرض العدم سابقا للوجود. لا أفهم لماذا استنبطنا فكرة العدم. ولا أدري ماذا نعني بالعدم. ومن يستطيع أن يفهمنا ما هو العدم؟ أليس طبيعيا وبديهيا أن نقول: إن الكون «موجود» بلا سبب، بل إن وجوده هو العلة الأولى لكل حدثان فيه، ولا معنى لفكرة العدم بتاتا، «الكون موجود» والسلام؟! (6) العقل الأول
لعلك تقول: إن هذه المادة المتجاذبة الدوارة غير عاقلة، ولكن تنظيم هذا الكون يدل على وجود عقل فوقه منظم له، فالعلة الأولى تمتاز على المادة بكونها عاقلة، ولذلك لا بد من افتراض وجودها علة لوجود المادة، وإحداث تجاذبها ودورانها.
أراك تجعل للعقل شأنا أعظم من شأنه الحقيقي في هذا الكون الأعظم.
لقد علمت أن العقل السامي - الإنساني - ليس إلا حاصلا من حاصلات كتلة خليات حيوية؛ هي الدماغ ، أعني أنه وليد أربعة عناصر من عناصر المادة الأرضية. فمهما تراءى لك شيئا عظيما فما هو إلا تفلة تفلتها الهيولي صدفة على هذا السيار الأرضي. فهل تريد أن تجعل هذه التفلة أنموذجا لعقل يدبر الكون برمته؟
فإذا كان للكون مدبر كما نود فلا نفرض له عقلا شبيها بعقل الإنسان الذي لم يكن إلا لمعة ضئيلة في الكون كلمعة الحباحب في الليل الدامس؛ فإذا شئت أن تسمي مدبر الأكوان قوة عاقلة فحذار أن تتوهمه ذا عقل من طبيعة عقلك، وإلا عجز عن إدارة هذه الأكوان مهما عزوت لعقله من السمو.
অজানা পৃষ্ঠা