يقوم التاريخ والعدل على ما تمنحه الشهادة من أهمية.
وإلى هذه السنوات الأخيرة، أي: إلى أن أتت المباحث النفسية الخاصة لتلقي نورا غير منتظر على هذا الموضوع، لم تكن قيمة الشهادات ليجادل فيها مطلقا عند افتراض صدورها عن حسن نية، وكان من القاعدة أن يعتقد كلام الشاهد السليم القلب الذي يقص أمورا رآها، أو يروي أمورا عن أناس كانوا قد رأوها، ولم لا يصدق الراوي إذا كان خاليا من الغرض ولم يستحوذ عليه هوى ديني أو سياسي؟ ولم لا يروي الرجل الأمين الذي يقص حادثة شاهدها خبرها بإخلاص؟ أفلا ينطوي الشك في مثل هذه المعارف ذات مرة على عدول عن كتابة التاريخ؟
جاءت مباحث علم النفس التجربي الحديثة لتقضي قضاء تاما على هذه الثقة المتأصلة حول قيمة الشهادة، وقد أثبتت هذه المباحث أن من المتعذر تقريبا نيل رواية غير زاخرة بالخطأ عن أبسط الوقائع التي لا يمازجها أي هوى أو غرض، فالخطأ لا الصواب هو الذي يؤلف القاعدة، ويكون هذا الخطأ خطرا بنسبة اقترافه في الغالب عن حسن نية تامة. وقام الدكتوران إ. برنهيم وبورت وغيرهما بتجارب بارزة حول هذا الموضوع، فرأى الدكتور برنهيم أن من الصعب إلى الغاية نيل رواية صادقة تقريبا عن حادث مشهود.
وليست الشهادات الإجماعية أصلح من تلك، فهي تدل عموما على نتيجة تلقين جماعي صادر عن أحد الناظرين.
وأكثر التجارب إمتاعا حول هذا الموضوع هو ما أتاه الأستاذ في جامعة جنيف: كلا باريد، فلم يكن الأشخاص الذين خضعوا للتجارب في هذه المرة أفرادا أيا كانوا، بل تلاميذ أذكياء جدا، ومع ذلك فإن الشهادات التي حصل عليها تثير الأسى تماما، وكان من أبرز الأسئلة التي طرحت على الطلبة ما يأتي:
أتوجد نافذة داخلية مطلة على مجاز الجامعة واقعة على الشمال حين الدخول ومواجهة لنافذة غرفة البواب؟
أنكرت معرفة هذه النافذة التي كان التلاميذ يمرون أمامها كل يوم من قبل أربعة وأربعين طالبا بين أربعة وخمسين.
وإلى ذلك أضاف المؤلف قوله: «توجب الشهادة الجماعية التي هي من هذا النوع شيئا من القلق واليأس، وذلك أنه إذا كان احتمال الصدق حول أمر مشهود غير متناسب مع عدد الشهود الذين يؤكدون وقوعه، هؤلاء الشهود الاعتياديين الذين سئلوا في أحوال عادية عن وجود شيء اعتيادي، هؤلاء الشهود الذين وجدوا في مكان مألوف لديهم، فأي مقياس للصدق يبقى؟
ونتيجة مثل تلك تثبت إثباتا ساطعا إمكان وجود الحق بجانب فئة قليلة تجاه فئة كثيرة في بعض الأحوال، لا من حيث كون قيمة الشهادة غير متناسبة مع عدد الشهود فقط.
وهنا يسأل: هل القاعدة ألا تعرف الأشياء الفاقدة النفع المحيطة بنا، وهل من المصادفة وحدها - وعلى استثناء - أن تترك هذه الأشياء أثرا على لوح ذاكرتنا الحساس؟ ...»
অজানা পৃষ্ঠা