قال مسيو بواسيه: «لا يرغب علماؤنا الشبان أن يزعجوا أنفسهم كثيرا بتكرار ما قيل قبلهم بعد أن يقضوا أياما كثيرة في المكتبات ومخازن المستندات مطالعين الأوراق القديمة، وهم يرون أن طرفة الآراء شاهدة على عمق الأبحاث، فيحاولون إعادة الاعتبار إلى من حكم عليهم من الأعيان، جاعلين فخرهم في تبديل الآراء الدارجة.»
وهكذا أمكن أن يقرر كون نيرون خير الأبناء وأكثر الأباطرة إنسانية، وكون روبسبير رجلا كثير الحلم نزوعا إلى جعل الناس يعتنقون أفكاره بالإقناع، وهكذا يحاول أساتذة شبان أيضا أن يثبتوا لنا كون جان درك ولويس الرابع عشر لم يتصفا بأية مزية كانت، وأن دبلكس لم يكن غير دسيس خسيس، إلخ، ويسعى آخرون أن يثبتوا لنا كون شكسبير وكرني ولارشفوكلد قد اقتبسوا أفكار كتاب سابقين فقط. •••
واليوم نرى ببطء - ولكن مع اطمئنان - كون دراسة التاريخ تصبح من عمل العلماء، مع أنها كانت من عمل الأدباء فقط، ويقوم التدقيق التاريخي مقام أهواء الخيال.
والعلم هو الذي يسوغ على الخصوص ترك الأفكار الغريبة المنتشرة في زمن روسو عن صلاح الإنسان صلاحا أصليا، وعن كمال المجتمعات الفطرية، أي ترك هذه الأفكار التي وجهت محركي الثورة الفرنسية.
وقد استطاع علم المستحاثات وعلم وصف الإنسان برسمهما تطور الإنسان جسما وذهنا أن يستبدلا بالمباحث الأدبية وثائق صادقة يتلاشى أمامها جميع تفصيلات رجال البيان.
وعاد لا يبقى للمؤرخين حصرا غير حل النصوص والمخطوطات، وليس هذا عملا غير نافع تماما لا ريب، ولكن ما أشد شحوبه بجانب النتائج التي تسفر عنها استقصاءات العلم الحديث!
وفي التاريخ حل مبدأ التطور التدريجي محل التحولات المتقطعة والمفاجئة، والأمر كما لاحظه مسيو سنيوبوس حول الزمن المعروف بعصر النهضة، فقد قال: «إذا كانت قد وجدت نهضة في الفنون لم يمكن وقوعها في غير عهد شارلمان في القرن التاسع، لا في القرن السادس عشر، فقد جدد المأثور في القرن التاسع وعاد غير منقطع، ولا تبعث الفنون والآداب، ولكنها تواصل تطورها، حتى إن فن البناء بلغ أعلى مراتب إبداعه وقوته في فرنسة في أوائل القرن الثالث عشر مع الفن القوطي.» •••
وتسيطر على الحادثات العلمية سنن وثيقة تجعل إدراك الأمور قبل وقوعها أمرا سهلا، وهكذا يمكن أن تعين حركة السيارات ومحلها في زمن ما، وأن يعين تاريخ الكسوف الصحيح، إلخ.
ولا يعرف التاريخ مثل هذا الإحكام، فالعلل التي توجب الحوادث هي من الكثرة - ومن البعد أحيانا - ما يحظر عليها معه مثل تلك البصائر حول علم الفلك.
ومعرفة المستقبل، وإن كانت تتعذر في الأحوال الخاصة التي تتكرر على وجه واحد نادرا، تصبح سهلة نسبيا حول الأحوال الجمعية، ومن ذلك أن علم الإحصار ولد من تطبيق هذا المبدأ، وتبدو نبوءاته من الصحة كنبوءات علم الفلك، أجل، لا يمكن تعيين الوقت الذي يموت فيه فرد من جيل ما، غير أن وضع جداول عن الوفيات يؤدي إلى تحديد عدد من يموتون من أفراد ذلك الجيل في كل سنة، وفي الغالب يسمح انتظام بعض الحوادث الاجتماعية بأن ينبأ بها منذ إحلال البصائر عن الجمع محل البصائر عن الفرد.
অজানা পৃষ্ঠা