وليست الأحاديث عن الأزمنة التي عقبت تلك أكثر صحة في الغالب، وإذا كنا لا نجادل فيها فذلك لأنها تلوح أقل بعدا من الصواب. ويعد أصلح مؤرخي الرومان مثل تاسيت، التاريخ فنا يجب أن يزين الكاتب، والتاريخ خاصة هو عند هذا الأخير «عمل الخطيب». وهؤلاء المؤرخون كانوا يعالجونه كخطباء إذن، فيرتبون الوقائع ترتيبا يسوغون به رأيهم أو يزودون الأعقاب بأمثلة حسنة، وكذلك لم يترددوا قط أن ينسبوا إلى المحاربين والأبطال والأباطرة أقوالا، وأن يضعوا في فمهم خطبا رائعة، ومناجيات نفسية أيضا، كالتي جعلت على لسان أوتون وفسبازيان، إلخ. وكانت هذه الأقاصيص الوهمية تؤلف استنادا إلى بضع قطع من الحقيقة تجمع مصادفة وإلى كثير من الخيال، فتعدها الأجيال صحيحة بقوة التكرار.
ولم ينقض مبدأ التاريخ الروائي بانقضاء قدماء المؤرخين، فقد عاش بعد جميع الانتقادات، وقد ظل باقيا قويا حتى في أيامنا، ومن السهل إيراد أمثلة مشهورة على ذلك، فإذا عدوت وصف المنظر لم تجد سطورا كثيرة صحيحة في «حياة يسوع» لرينان على ما يحتمل، ولكن يا لها من قصة مقبولة!
ومع ذلك فإن نجاح مثل هذه الكتب لا يقوم إلا على روائيتها، وفي التاريخ يبحث القارئ العادي على الخصوص عن المغامرات العجيبة المروية بشاعرية الدعاء والغضب والتفاؤل، أي: بموسيقا الكلمات المسكرة. ولرينان الباع الطويل في هذا المضمار، فليس لهيامه حد في «دعاء الأكروبول». حتى إنه يهذي فيه بعض الهذيان: «فيا كورا: أنت وحدك فتاة، أيتها العذراء: أنت وحدك طاهرة، أي إيجي: أنت وحدك قديسة، أيا نصرة: أنت وحدك قوة!» ومن الواضح أنه لا يوجد لهذه الكلمات غير معنى مبهم، ولكن القارئ يجد هذا الجمع من الأوصاف الرفيعة، وتساعد هذه الغنائية على بيان قدرة الخيال المبدعة. ولم تكن أثينة حينما زارها رينان غير قرية عفراء قذرة، وقد رآها من خلال ذكرياته الكلاسية مع ذلك، فكتب يقول: «إن ما ألقته أثينة من أثر في يفوق جميع ما أحسسته في حياتي بدرجات، فمكان واحد، لا مكانان، هو ما يتجلى فيه الكمال، ذلك هو المكان، ولم يحدث قط أن تمثلت نظيرا له.» فيا له من شاعر! سيقرأ زمنا طويلا، ولكن كما تواصل قراءة «ألف ليلة وليلة». أي من غير أن يصدق كثيرا، وذلك مع الاحتراز إلى الغاية من تصويراته وتصنيفاته. والواقع أنه ليس من تصوير الأمور تصويرا صحيحا أن يوصف نيرون بالمشعوذ، وأن يقال مع التوكيد إن مرك أوريل رمز لنهاية العالم القديم الذي ظل باقيا قرونا كثيرة بعده في الحقيقة، ومن الممتع على وجه آخر - ولكن مع الصعوبة - أن يبين كيف تحول هذا العالم بدلا من بيان نهايته.
وبالتشويهات الحماسية والمسرحية ننال وهم حقيقة يعرف المؤرخ الفيلسوف جيدا أنه لا يستطيع بلوغها.
ثم إن من الواضح أن المؤرخ كلما كان متفننا قل تدقيقه، فالواقع أن عيانه الشخصي البالغ الشدة يقوم مقام الحقائق، ويكفي عدد قليل من المبادئ غير الثابتة لتزويد خياله.
ويدل هذا الدور الخصيب الذي يمارسه الخيال في الأقاصيص التاريخية على السبب في كون إدراك الحادث عينه يختلف باختلاف المؤرخين تبعا لمبادئ كل زمن. •••
كان الأغارقة في عصور البطولة على الأقل يجعلون الآلهة تتدخل في الأعمال البشرية بلا انقطاع، ففي كل صفحة من قصص أوميرس تبصر عمل أهل الألنب، وليس أقل من هذا ظهور الرب في الكتب اليهودية، وكان الرومان يخلطون الآلهة بحوادث البشر.
ويسفر انتصار النصرانية عن مبدأ لاهوتي خالص في التاريخ، ويتحرك هذا المبدأ قرنا بعد قرن.
قال غيزو: «تصفحوا تاريخ ما بين القرن الخامس والقرن الثامن عشر، تجدوا أن علم اللاهوت هو الذي يسيطر على الروح البشرية ويوجهها، فتطبع جميع الآراء بطابع علم اللاهوت، وينظر إلى المسائل الفلسفية والسياسية والتاريخية من الوجهة اللاهوتية دائما ... والروح اللاهوتية من بعض الوجوه هي الدم الذي جرى في عروق العالم الأوروبي حتى بيكن وديكارت.»
وتدل الكتب التاريخية التي ألفت في ذلك الزمن الطويل على درجة ما يمكن العوامل الدينية أن تؤثر به في أفكار الناس، وعلى مقدار بساطة المبدأ العام عن الكون في ذلك الحين.
অজানা পৃষ্ঠা