وما كان أرسطبس أول فيلسوف أساءت إليه الأقدار، وما كان أول إنسان ظلم حيا وميتا.
أصول الفلسفة اليونانية ومذهب اللذة والألم
تترامى الأشعة التي بعث بها الفكر اليوناني القديم من أغوار الماضي السحيق سنية وضاحة، فتضيء الظلمات التي ناءت بكلكلها على المدنيات المختلفة منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى اليوم، ولا جرم أنك لن تقع على شيء تحت الشمس لا يمت إلى الفكر اليوناني بسبب، كما يقول العلامة جلبرت مري الإنجليزي؛ فكان من أثر ذلك أن تطرف البعض من مقدمي المفكرين في العصر الحديث، إلى القول بأن الفلسفة اليونانية، بل وكل الآثار التي صدرت عن الفكر اليوناني «أصيلة» غير مدخولة بعناصر غريبة من الفلسفة أو العقيدة أو الفكر، وأنها لم تلقح بأي أثر من الآثار التي نشأت قبل مدنية اليونان في الشرق.
ولا شك في أن الذين يذهبون هذا المذهب لهم المبررات التي تؤيد نزعتهم، ولهم الأسباب التي يرتكزون عليها في الحكم بأن الفكر اليوناني «أصيل» نشأ في عقول الإغريق القدماء، وعنها صدر من غير أن يكون للحضارات الأخر أثر فيه قليل أم كثير.
فإن العظمة التي نشهدها في أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأرسطبس وديمقريطس وأبيقور، دع عنك فيثاغورس وطاليس وأبقراط وجالينوس، لعظمة تفوق كل ما تقدمها من صور النبل الإنساني، إن لم نقل إنها تفوق كل ما عقبها حتى اليوم، مع قياس الفارق بينهم - وهم رواد الفكر - وبين المحدثين - ورثة هؤلاء الرواد العظام - والفاصل لا يقل عن خمسة وعشرين قرنا من الزمان.
ولك أن تقدر بعض الآثار التي ظهرت خلال تلك القرون؛ بأن تعي أن الإنسانية شهدت فيها نشوء النصرانية والإسلام، وشهدت نشوء ما لا يحصى من مذاهب الفلسفة والعلم والأخلاق، فلم تفلت ناحية من هذه النواحي من التأثر بمبتكرات الفكر اليوناني، تأثرا عميقا بالغ المدى. فلا عجب إذن أن يكون لهذه العظمة أثرها في المغالاة التي نقع عليها في تقدير بعض الكتاب آثار اليونان، تقديرا ينفون به كل علاقة فكرية تربطهم بالحضارات الأخر.
ومهما يكن من أمر اليونان وتأثرهم أو عدم تأثرهم بما سبقهم من منتوج الفكر البشري، فإن الأمر الذي لا نشك فيه أقل شك أن أثر اليونان فيما تبعهم من المدنيات بالغ أقصى المدى؛ في حين أن تأثرهم بما سبقهم من المدنيات تافه قليل .
ومن هنا نستطيع أن نقول بغير حرج: إنهم بحق رواد الفكر الإنساني والمعرفة على اختلاف صورها، وعلى تباين ملابساتها.
فالمدنية اليونانية أرقى المدنيات القديمة، هذا إلى أنها خلاصة ما وصل إليه التثقيف العقلي في الأعصر القديمة.
أما تأثر اليونان بما سبقهم من الحضارات فإن ثقات المؤلفين قد اختلفت فيه مذاهبهم وتدابرت آراؤهم، غير أن كفة القائلين بأن الفكر اليوناني قد اغتذى وكسب من غيره، ترجح كفة القائلين بأن الفكر اليوناني «أصيل» نشأ في ثرى اليونان، وتكيف في ثنايا العقل اليوناني، غير مدخول بأي لقاح خارجي أو وراثة أجنبية.
অজানা পৃষ্ঠা