» وهي صورة حقة، تقوم على فلسفة سقراط، ولكن أفلاطون لم يؤمن بما استنتج من فلسفة أستاذه إيمانا صريحا كاملا. (9) أرسطبس والكلبيون
في المدارس التي تكونت بعد سقراط والتي ادعت كل منها أنها تقوم على مذهبه، أو بالأحرى على ناحية بعينها من نواحي مذهبه؛ نزعة من أعجب النزعات العقلية، فقد يخيل إليك وأنت تتصفح تاريخ هذه المذاهب - إذا كنت ممن يجلدون على التأمل - أنها عبارة عن جملة أفعال «عكسية» أخذت تتوالى سراعا وتتطور دراكا، فيظهر أول ما يظهر الميغاريون وعلى رأسهم «إقليدس»، فيدرسه أرسطبس ثم يظهر أنطثنيز ويكون مذهب الكلبيين، فيدعو للرجوع إلى الطبيعة، فيعقب عليه أرسطبس ويقول باللذة الراهنة، فيكون مذهبه بمثابة فعل عكسي يخفف من حدة المذهب الكلبي، ولا تلبث غير بعيد حتى تجد أبيقور يدعو إلى الناحية السلبية من اللذة، فيقول: إن الخير الأسمى ليس في اللذة بل في التحرر من الألم، وإن اللذة العقلية هي أسمى اللذات جميعا، ثم يأتي أفلاطون فيقول بأن الخير الأسمى - أي السعادة - إنما ينحصر في «التبصر» ثم تقع في خاتمة المطاف على المعلم الأول أرسطوطاليس، الذي يقول بأن الخير الأعلى الذي يجدر بالإنسان أن ينشده هو فاعلية النفس، على أن تكون هذه الفاعلية مقودة بالفضيلة، فإذا تعددت الفضائل وجب أن تتبع الفاعلية أرفع هذه الفضائل، فكأنك تقرأ في تدرج الفكرة في هذه المدارس تاريخ علم الأخلاق في مختلف أوضاعه.
وإذن نقول إن أرسطبس ومذهبه وأتباعه كانوا بمثابة فعل عكسي ظهر ليكسر من حدة مذهب الكلبيين، كما يتدخل الضمير في الفعل النفسي، فيحدث فيه أثرا عاكسا، أو كما تحاول الإرادة أن تقمع شهوة من الشهوات بشهوة أخرى، وهذا يحملنا على أن نعرف القارئ بمن هم الكلبيون.
هم أصحاب مذهب فلسفي في الأخلاق أتباعهم قليلو العدد، ولكنهم كانوا ذوي أثر عظيم في الفلسفة القديمة، أما اسم المذهب فيقال بأنه مشتق من اسم بناء في أثينا كان يدعى «القونوسرغس
Cynosargus »، وبين جدرانه نشأ المذهب أو من الكلمة اليونانية لاسم «الكلب
Canis » وهي إشارة سخرية إلى ما انتحل رجال المذهب من صفات الخشونة والخروج على العرف، أما «القونوسرغس» تعيينا فقاعة كبيرة كانت تدعى قاعة الهجائن
The Hall of The Bastards .
ومهما يكن من أمر هذا الاشتقاق والتساؤل أصحيح هو أم غير صحيح؛ فإن الكلبيين قد اتفقوا على أن يتخذوا الكلب شعارا ورمزا،
33
ولعل لهم في ذلك مرمى بعيدا، فالبقرة كانت معبود المصريين، وهي لا تزال مقدسة في الهند، ولعل تقديسها في الهند ذو صلة فكرية بعبادتها في مصر، ففي الهند يعتقدون أنها عماد الزراعة، وصورة مجسمة للطاعة والخضوع والقيام بالواجب، ولهذا قدسوها منذ أقدم الأزمان، وتلاحقت الأجيال على هذه العقيدة، والكلب من أقدم الحيوانات الأليفة التي عاشرت الإنسان منذ فجر التاريخ، وعاونته في الحراسة والصيد، ومقاومة الوحوش الضارية، فكان الكلب أكبر معوان للإنسان في حالاته البدائية ليضرب بقدمه في معارج المدنية، وفيه فوق ذلك صفة أنه «طبيعي» لم يتمدين كالإنسان، وفيه أنه يكفي حاجاته بنفسه، وفيه أنه أمين وفي مسالم متحرر من كثير من الدنايا الخلقية، فلا يبعد مطلقا أن تكون اعتبارات كهذه، هي التي حملت الكلبيين على أن يتخذوا الكلب شعارا لهم، وإذا صح هذا كان الكلبيون أفطن من المصريين والهنود على السواء وأقرب إلى الحكمة.
অজানা পৃষ্ঠা