لهذا نجد أن اليونان قد نظروا في الكون عند أول تأملهم في الكونيات بعين لم تغش عليها المجازات ولا الأساطير.
أما الفرق بين فلسفة الشرق، والبدايات الفلسفية الأولى في بلاد اليونان كما وضعها فلاسفة الطبيعة في إيونيا فعظيم، كالفرق بين غابات الهند القديمة التي نشأت في ظلالها صور الفلسفة الشرقية القديمة، وبين شواطئ البحر المتوسط الزاهية العليلة الهواء.
على أن الدين عند اليونان لم يؤثر في الفلسفة إلا من طريق غير مباشر، ذلك بأن العقائد الدارجة كانت من البساطة بحيث تعجز تأملاتها وتصوراتها وأخيلتها عن أن تؤثر في عقل الفيلسوف تأثيرا يثبت فيه على الزمان، ومن هنا كان الأثر الذي خلفته العقائد في بلاد اليونان منابذا في طبيعته للفلسفة.
ولكنك على الرغم من هذا تجد أن العقائد الدارجة قد استطاعت أن تحتفظ في العقل اليوناني ببضعة تصورات، ظلت حية فيه، ومن هذه التصورات تخيل «الصورة» والإحساس بالتناسق، وكان هذا باعثا من أقوى البواعث التي تضع الفيلسوف، الذي يريد أن ينظر في حقائق الأشياء كما هي كائنة؛ موضعا يتعذر عليه فيه أن يستقل بنظره الفلسفي تماما أو أن يفسق كلية عن هذه التصورات، ولا يجعل لها من عقله وتأملاته نصيبا.
ومن هذه السبيل وحدها استطاعت الديانة اليونانية أن تولد في التأمل الفلسفي رغبة ملحة تدفعه إلى النظر الكلي؛ أي في الكليات، وكانت تلك الرغبة في عصور التأمل عند اليونان عضدا قويا، ساعد الفلسفة اليونانية على أن تبلغ قمتها العليا وأن تصل إلى غايتها القصوى.
على أن الدين اليوناني استطاع من ناحية واحدة أن يغذي الفلسفة اليونانية من طريق مباشر؛ إذ أمدها بفكرة «الخلود» وهي عقيدة احتفظت خلال كل التطورات الفلسفية التي تناوبت عليها بأصلها اللاهوتي. فإن أفلاطون مثلا يشير إلى أنها فكرة ترجع إلى الأسرار الأورفية
Orphic
وهي أسرار امتزجت فيها التأملات بالعقائد.
كذلك وجدت الفلسفة اليونانية في الشعر - كما وجدت في العقائد الدينية - أداة للتعبير عن طبيعتها، فإن التأمل الفلسفي في أدق معانيه، قد سبقه في الوجود محاولة «التصور» أن «يصور» لذاته أصل الكون ونشوئه، والدليل على هذا أن هوميروس قد صور في أشعاره أمثالا من الشخصيات الأخلاقية؛ فإن آخيل يمثل الخلق الثابت الذي لا يقهر، وهكتور يمثل الشجاعة والفروسة، وأغاممنون يمثل الهيبة الملكية، ونسطور يمثل الخلق الهادئ الرصين، وأولسيز يمثل الخلق الحريص اليقظ، وفنلوب يمثل خلق الأمانة والولاء الكامل، وهكذا.
أما «هسيودس
অজানা পৃষ্ঠা