Association of Ideas
في درج مبحث من مباحثه في «الفهم الإنساني» ثم عقب عليه الفيلسوف هتشنسون الإنجليزي، فقال بأننا قد «نرغب» في بعض الأشياء التي تكون بذاتها «ملذة»، وقد نميل إلى أشياء أخرى تكون وسيلة للالتذاذ، أما الأشياء التي نرغب فيها لأنها وسيلة إلى اللذة، فقد دعاها «الرغبات الثانوية» وقضى بأنها تتحول فتصبح من حيث القوة والأثر في منزلة الأولى، فإننا بمجرد أن ندرك منافع المال أو السلطة، في إرضاء بعض رغباتنا الأصيلة، لا نقف عند حد الرغبة في الانتفاع بهما، بل نتحول إلى حبهما لذاتهما. ثم ظهر مؤلف لرجل من رجال الدين يدعى «جاي
Gay » ما لبث أن نسي دراكا، غير أن الواقع أن هرتلي أخذه أساسا لما كتب في شرح هذه النظرية، ولقد خرج جاي على ما كتب هتشنسون وأنكر أن في الإنسان أية حاسة أدبية فطرية، أو مبدأ أخلاقي أصيل في جبلته ، يدفعه إلى حب الخير، ولكنه سلم بأن الإنسان الراشد - أي الذي بلغ سن الرشد - تتكون فيه حاسة أدبية، كما يقول هتشنسون، وحاول أن يوفق بين هذا الرأي ومبدأ الفيلسوف لوك في «الرغبات الثانوية».
وفي سنة 1747 ظهر كتاب هرتلي الذي أوسع نطاق هذه النظرية وشرحها أمتع شرح، وطبقها أقوم تطبيق، وضرب مثلا بحب المال، فقال: إن المال في ذاته ليس فيه من جمال أو لذة، ولكنه لما كان الأداة التي تمكننا من الاستمتاع بالجمال وجلب اللذات وإكفاء الكثير من رغباتنا، تحول الحب إليه بالذات، ثم تطرف «المال» في الاستيلاء على النفس، فقضى على كل المثاليات التي كان يرغب الإنسان في الوصول إليها من طريق المال، باعتباره وسيلة، وتفرد هو بالبقاء دونها حتى لترى البخلاء يضحون بكل معاني الجمال وينبذون كل لذائذهم في سبيل المال، وكذلك الحال إذا نظرت في حبنا للقوة والسلطة، فإننا إنما نحب القوة لأنها بديا وسيلتنا إلى إكفاء كثير من رغباتنا، وما نلبث غير بعيد حتى يشترك حبنا للقوة مع هذه الرغبات، ثم نستدرج إلى حالة نطرح فيها هذه الرغبات ونشغف بالقوة لذاتها كل شغف، ونهيم بها كل هيام، وعلى هذا فقس كثيرا من ظاهرات الخلق الإنساني. أما پافلوف فقد تلقى هذه الظاهرة كنظرية، وأخرجها بتجاريبه علما صرفا.
على أن الفلسفة القديمة لم تهمل النظر في هذه الظاهرة كما قدمنا، فقد تضمنها المذهب القوريني، ونماها أنقريز ثم تلقاها أرسطوطاليس، فتجد في مذهبه الأخلاقي آثارا منها، وطبقها بعض الأبيقوريين على الصداقة، فقالوا بأننا إذا أحببنا أصدقاءنا أول شيء لما تبعث صداقتهم فينا من شعور اللذة، فإن هذا يتحول مع الزمن إلى حب الصديق من أجل ذاته، بعيدا عن كل الاعتبارات الأخرى.
أما ما تطورت إليه هذه النظرية في العصر الحديث؛ فينحصر في تجاريب العالم پافلوف الروسي كما قدمنا، ولقد حصر هذا العالم الكبير كل تجاريبه في الكلاب، فإنه من المعروف أن الكلب إذا رأى قطعة من الحلوى سال لعابه، فكان پافلوف يستغل هذه الظاهرة ويدخل في فم الكلب أنبوبة حتى يتستطيع أن يعرف بالضبط مقدار اللعاب الذي يسيل من فم الكلب عند مرأى الحلوى. وسيل اللعاب في الفم عند تناول الطعام أمر غير اختياري، ولذا سمي فعلا عكسيا؛ أي إنه أحد تلك الأفعال التي يؤديها الجسم بقاسر ذاتي، ومن غير أن يكون لتجاريب الحياة فيها أقل نصيب
وهنالك كثير من الأفعال العكسية بعضها أصيل، والبعض الآخر مؤصل، ومن هذه الأفعال ما يمكننا مشاهدته في الأطفال ، ومنها ما يتأصل على قدر من العمر، ومرور من الأيام، فالطفل يعطس ويتثاءب ويتمطط ويرضع ويحول عينيه نحو النور، ويأتي غير ذلك من الأفعال في مختلف أطوار عمره وظروفه، من غير أن يكون في حاجة إلى أن يتلقاها عن غيره، وكل هذه الأفعال تدعى الأفعال العكسية، أو بالأحرى - كما دعاها پافلوف - أفعال عكسية أصيلة
Unconditioned Reflex Actions
وهي بذاتها التي كانت تدعى من قبل الغرائز
Instincts ، والغرائز المركبة كغريزة بناء الأعشاش في الطير، تلوح كأنها جملة مندمجة من أفعال عكسية، والأفعال العكسية في الحيوانات الدنيا قلما تؤثر فيها تجاريب الحياة، فإن البعوضة تستمر تحوم حول الضوء، حتى بعد أن يحترق جناحاها، وعلى الضد من ذلك تجد الحال في الحيوانات العليا، فإن تجاريب الحياة فيها لها في هذه الأفعال العكسية الأصيلة تأثير بالغ، ولا يخرج الإنسان عن حكم هذه القاعدة، ولقد حصر پافلوف تجاريبه على سيل اللعاب في فم الكلاب، فخلص من تجاريبه بالقاعدة الآتية التي استخلصها من تحول الأفعال العكسية الأصيلة:
অজানা পৃষ্ঠা