ونحسب أن طبيعة التصوف هونت على الغزالي هذه المعضلة التي غاص فيها جبروت أرسطو فلم ينته منها إلى قرار.
إن قطع العلائق والغايات على ديدن المتصوفة هو الذي هداه إلى عمل الله بغير غاية، فإذا كان العبد يعمل بغير غاية فأحرى بالمعبود أن يعمل لأنه قدير منعم، ولا بد للقدرة من عمل، ولا بد للإنعام من عطاء يفيض به المنعم سبحانه وتعالى ويتلقاه المخلوق، صنيعة الإنعام. •••
وآية الملكة الفلسفية عند الغزالي الفيلسوف رأيه في السببية وقدرته على التخلص من خداع التكرار، ولو تتابع من أول الزمان، فلا يلزم من سبق صياح الديك لطلوع الفجر أنه سببه الذي لا ينفك عنه، ولو تكرر كل يوم في كل مكان، وكل ما يلزم أنهما يحدثان معا، وأنهما قرينان متتابعان، وهكذا كل قرينين، وكل متتابعين في جميع الحوادث التي يقال: إنها أسباب ومسببات، أو كما يقول: «إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا، وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر.»
إلى أن يقول ما فحواه: إن هذه الظواهر قد ترجع إلى مقارنات أخرى تخفى علينا، ونص عبارته: «من أين يأمن الخصم أن يكون في المبادئ للوجود علل وأسباب تفيض منها هذه الحوادث عند حصول ملاقاة بينها، إلا أنها ثابتة ليست تنعدم، ولا هي أجسام متحركة فتغيب، ولو انعدمت أو غابت لأدركنا التفرقة وفهمنا أن ثم سببا وراء ما شاهدناه وهذا لا نخرج منه على قياس أصلهم.»
رحم الله أبا حامد. ما أبعد نظره! وما أوسع رحابه! وما أقدره على الفرض المحتمل! بل على الفرض الصحيح الذي أثبته العلم بعده وسبق هو شأو العلم فرآه في أطوائه بعين البديهة الصادقة، والفهم النافذ واللب الرجيح!
لقد كان الأقدمون يذكرون خواص النار، والهواء، والماء، والتراب، ويلزمونها صفات الخفة والثقل، وصفات الرطوبة واليبوسة، وصفات الحركة والسكون؛ ويرجعون في ذلك إلى اقتران الريح باللهب، واقتران الماء بالبلل، واقتران العلويات بالسفليات، إلى غير هذه المقارنات التي يحسبونها أسبابا ومسببات، وما هي إلا دليل على حصول شيء مع شيء، ولا دليل فيها على حصوله بسببه وفعله الذي لا ينفك عنه.
فما الذي ظهر بعد ذلك بحكم العلم والتجربة؟ ظهر أن في المبادئ - كما قال أبو حامد - عللا وأسبابا تفيض منها هذه الحوادث غير اقتران النار والهواء واقتران الماء والتراب.
ظهر أن هذه الظواهر جميعا من أثر موجودات أخرى تسمى النوى والكهارب، وظهر أنها لا تنعدم ولا تغيب في حركات الرياح والأمواء والأتربة والنيران، ولهذا لم تنقطع عن مشاهديها انقطاعا يريهم الفارق بين وجودها ومغيبها.
وسيظهر غدا وراء النوى والكهارب حقائق أخرى عن المغناطيسية والكهرباء والجاذبية ترينا أن الفعل لشيء آخر في تركيب العناصر غير كهاربها ونواها وغير سالبها وموجبها، وغير ذريراتها وأمواجها.
ولهذا بادر العلماء المحققون في عصرنا هذا فقرروا أن العلوم الطبيعية وصفية استعراضية، وليست مفسرة ولا تعليلية
অজানা পৃষ্ঠা