أكبر الظن أنه كان يجيب بالنفي، ولا يعدو الحقيقة في نفيه شبهة الفلسفة عن نفسه، إذ كان للفلسفة في ذلك العصر مدلول غير مدلولها الذي نفهمه الآن في العصر الحاضر، وغير مدلولها الذي أراده من وضعوا الكلمة تواضعا منهم، ولم يشاءوا أن يصفوا أنفسهم بالحكمة فقنعوا بمحبة الحكمة، وهي معنى كلمة الفلسفة باليونانية كما هو معلوم.
لقد كان معناها في عصر الغزالي أنها كلام يستحق منه الرد، ويظهر تهافته من المناقشة بالحجة والبينة، ولولا ذلك لما اختار لمناقشته اسم «تهافت الفلاسفة» كأنه يعني به تهافت الفلسفة على الإطلاق.
فلو سئل الغزالي: هل أنت فيلسوف؟ لأنكر انتسابه إلى القوم الذين يبطل حجتهم ويدحض آراءهم ويقضي على أقوالهم بالتهافت، وهو الضعف الذي لا يقوى المتصف به على التماسك والثبوت.
لكننا ننظر الآن إلى أقوال الغزالي في مناقشته للفلاسفة فنعلم أنه ناقش الفلسفة بالفلسفة، وحطم السلاح بسلاح مثله، بيد أنه أنفذ وأمضى، فهو على هذا فيلسوف أقدر من الفلاسفة الذين أبطل حجتهم، أو هو فارس في هذا الميدان أو في عدة من سائر الفرسان، ولو أنه تصدى لهذه الصناعة بغير أداتها لما وضحت حجته بين الحجج ولا استطاع أن يكشف بطلانهم ولو كانوا مبطلين.
والواقع أن حجة الإسلام رضي الله عنه لم تكمل له أداة قط كما كملت له أداة الفلسفة، فهو عالم، وهو فقيه، وهو متكلم، وهو صوفي ولا مراء، ولكن هذه المطالب لا تستغرق كل ملكاته ووسائله إلى المعرفة، وقد يبلغ فيها غايتها ببعض تلك الملكات والوسائل، وتبقى له بعدها ملكة لا ضرورة لها في غير الفلسفة وحدها، وأوجز ما يقال عنها بكلمة واحدة: أنها هي ملكة التجريد.
إن المفكرين يختلفون في مناهج التفكير كما يختلفون في غايات التفكير، وإذا أردنا أن نعبر عن الفوارق بينهم بلغة العصر الحاضر قلنا: إن بعضهم قد يصلح للعلم التجريبي ولا يصلح للرياضة، وإن بعضهم قد يصلح للرياضة ولا يصلح لعلم من العلوم التجريبية، وإن العلماء التجريبيين والرياضيين قد يبلغون الغاية في مجالهم ولكنهم يقصرون عن متابعة البحث الفلسفي إلى غايته؛ لأن التفكير في كل باب من هذه الأبواب له أداته التي يتم بها ولكنها لا تغنيه عن أداة التفكير في غير ذلك الباب.
ونعود هنا إلى إجمال الفوارق بينهم في أهم مناهج التفكير التي نعرفها في زماننا، أو التي نعرف نظائرها فيما تقدم من الأزمنة.
فالتفكير العلمي يكفي فيه أن تكون للباحث قدرة على ملاحظة التجارب المحسوسة والمقابلة بين المتشابه منها والمختلف، والإفضاء من هذه المقابلة إلى نتيجة عامة محسوسة، قلما تتعدى الوصف والإحصاء.
والتفكير الرياضي يكفي فيه أن يتفهم الباحث علاقات المدركات الذهنية التي يسلمها العقل فرضا وتقديرا ولو لم يكن لها وجود في الخارج، وأكثر ما تكون الحقائق الرياضية تقديرات ذهنية لا ترى بالحواس، بل لا يتصورها العقل نفسه إلا من قبيل التسليم بفرض لا بد منه، كالنقطة الهندسية التي لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا امتداد، أو كالبسيط الذي يخالف المركب في الأشكال والأبعاد فإن الذهن الرياضي يعقل من هذه الفروض ما لا وجود له في الطبيعة، ولا دليل عليه إلا أنه مستلزم بحكم البداهة، وليس هذا الفرض من ضروب التفكير التي يطبع عليها من طبع على جمع المعلومات بالمشاهدة والتجريب.
والتفكير الفلسفي ملكة أخرى لا تشبه كل الشبه ملكة العلم التجريبي أو ملكة الفروض الرياضية، ولكنها تشترك فيها بنصيب لا غنى عنه، وقوامها الأكبر أن تحسن الفهم في المسائل المجردة، أو المفارقة، كما يقول المتقدمون، وهي بهذا قد تشبه الرياضة إلى حد بعيد لولا أن الرياضة تنتهي إلى الفرض ولا يعنيها أن تتصوره أو تحوم حوله بوجدان أو إلهام، وقد يتعذر على الرياضي أن يفصل بين الممكن والمستحيل، وبين الجائز والواجب، إذا تلبس الأمر بالمألوفات والمتكررات التي تلازم التصور وتلازم التخيل وراء الحس المتفق عليه.
অজানা পৃষ্ঠা