بل إن للعرف سلطانه الكبير كذلك على الأمم والحكومات، فلا تجرؤ على التعديل فيه إلا بقدر، حذر ما يكون من العامة وأشباه العامة، ومن المثل المخجلة لنا كأمة إسلامية ما تعارفناه من الاحتفال رسميا بالمحمل والتبرك بالجمل، حتى ليمروا مقوده بين أيدي الوزراء والكبراء، بين ابتسامات السخرية من كثير من المحتفلين والمدعوين، وبرغم زراية الأجانب عن الدين وعن الوطن الذين يذيعون هذا المنظر وأمثاله في بلادهم، رغبة في الحط منا والنيل من عاداتنا وديننا.
ولولا جماعة من المصلحين أنار الله بصائرهم، وعرفوا السيئ مما تواضعت عليه أمتهم، فندبوا أنفسهم لمحاربته، مستهينين بالآلام مستقبلين برحابة صدر ما ينالهم من عنت وإرهاق؛ لبقينا حتى اليوم في غمرة من الضلالة، مأتاها ما كان عليه الأسلاف من سيئ التقاليد.
ومع هذا فكم للعرف من حسنات! كم من مصل، ومخرج للزكاة، وممتنع عن شرب الخمر، لا لشيء إلا خضوعا لعرف أهله وبلده وخشية لوم الأهلين! ولقوة سلطان العرف وموافقته للصالح كثيرا اعتبره فقهاء الحنفية حجة، ورأوا أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، حتى قال قائلهم:
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
ولهم في ذلك تطبيقات مختلفة في مسائل الإيمان وغيرها. (7-4) عدم صلاحيته مقياسا
مع تسليمنا بأن العرف يحض على كثير من خصال الخير، ومع اعتبار بعض الفقهاء حجيته في حوادث ومسائل مختلفة، فإننا نقول: إنه لا يصلح أن يكون مقياسا أخلاقيا للأمور الآتية:
الأول:
يشترط في المقياس الأخلاقي أن يكون عاما لا يختلف باختلاف البيئة والعصور، والعرف ليس له هذه الصفة، فأخص صفاته الاختلاف؛ لأن لكل أمة عرفها ولكل قوم تقاليدهم، بل إن العرف ليختلف كثيرا في الأمة الواحدة إذا تقدم بها الزمن ، وكثير من الأعمال التي كان العرف يأمر بها في الزمن الأول ويراها خيرا أصبح يستهجنها ويعدها شرا، والأمثلة لذلك أكثر من أن يتناولها الحصر.
من هذه الأمثلة وأد البنات الذي كان عادة متعارفة لدى العرب الجاهليين، حتى جاء الإسلام فأبطلها وصار لا يفكر أحد في إتيانها. والرق كان متعارفا عليه عند الشعوب القديمة، وبمجيء الإسلام وانتشار المدنية تبين ما فيه من مناقضة للإنسانية وأنه عمل غير شريف، فقضي عليه لذلك أو كاد. وكان للأب عند الرومان حق الحياة والموت على أبنائه، وهذا ما لا يقره الرومان ولا غير الرومان اليوم. وما تعارف عليه حتى الآن أهل إسبانيا من اتخاذ محاربة الثيران وسيلة للتسلية والرياضة، ينكره أهالي مستعمرة جبل طارق الإنجليزية وهي الجزء الجنوبي من إسبانيا نفسها. وأهل «برنو» يرون أن المرء لا يستحق أن يتزوج بفتاة إلا إذا قتل إنسانا وألقى رأسه عند قدميها، فهذا القتل هو سمة للنبل والشجاعة عندهم لا يقره قانون سماوي أو وضعي، بل ولا عرف غيرهم من القبائل الأخرى،
অজানা পৃষ্ঠা