خامسا: «يكون ماديا ومعنويا»، ويقصد بالمادي غاية جزئية خاصة، وبالمعنوي مبدأ عام يراد تحقيقه، وذلك كما إذا تقدم رجل يرشح نفسه للنيابة، فقام في وجهه جماعة يسعون لسقوطه لرجعيته، وآخرون يبغون إسقاطه أيضا ولكن لعدم تدينه مثلا أو رغبة في نجاح مرشح آخر لهم، فالمقصد المادي لجميع المناوئين واحد وهو عدم نجاحه، إلا أن لهذا المقصد معنى عند هذا الفريق غيره لدى الفريق الآخر، وذلك المعنى عند الفريق الأول عدم نجاح رجل رجعي في آرائه ومبادئه، وعند الفريق الثاني عدم نجاح رجل غير متدين، أو مساعدة لمرشح آخر، وإن كانت الغاية المادية واحدة عند كلا الفريقين وهي سقوط ذلك المرشح في الانتخاب.
وبإعدام الحكومة للقاتل يتحقق المقصدان؛ المادي وهو قتل الجاني القاتل، والمعنوي وهو تحقيق مبدأ «القصاص حياة.»
ومن هذه الظواهر والأقسام للمقصد يتبين لنا أنها مع اختلافها وتعددها يجمع بينها أمر مشترك هو التوجه لتحقيقها، وبذلك يظهر معنى تعريفنا السابق له، وهو أنه «كل ما تتجه إليه الإرادة لتحصيله.» (3) الباعث (3-1) معناه
يرى الحكماء أن من العلة ما يسمى «علة فاعلية»، وهي الأمر المؤثر في وجود الشيء، وذلك كتأثير عمل الأعصاب، واليد في حركة الأخذ والعطاء، وكصانع الكرسي بالنسبة له. ومنها ما يسمى «علة غائية»، وهي الأمر الذي لأجله قام الفاعل بالفعل، أو بتعبير آخر قد يكون أقرب للاصطلاح: هي الأمر المؤثر في فاعلية الفاعل للشيء، كالتأديب في ضرب الوالد لابنه، والرغبة في تخليد ذكرى عظيم في إقامة تمثال له.
على هذا النحو نتكلم في «الباعث» فنقول: إن منه باعثا دافعا، وهو ما يساوي العلة الفاعلية، وباعثا غائيا، وهو ما يساوي العلة الغائية، فإذا حركتك الشفقة إلى مد يد المساعدة لطفل ينتفض من البرد فكسوته ثوبا، كانت الشفقة هي الباعث الدافع، ودفع البرد عنه هو الباعث الغائي، والأخلاقي إنما يعنى ببحث الثاني دون الأول.
لا يحتاج دارس الأخلاق إلى بحث الباعث الدافع؛ لأنه إما أن يتسيطر على المرء ويسلبه إرادته ويدفعه للعمل دفعا، وحينئذ لا يكون هذا العمل محلا للحكم الأخلاقي؛ لأن متعلقه الأعمال الصادرة عن وعي وتفكير وإرادة، فمن ملكه الغضب مثلا حتى أعماه عن القصد وأخرجه عن الوعي، ودفعه لما لا يليق من قول أو فعل، يكون مسئولا أخلاقيا لو كان في مكنته الحيطة قبل الغضب الذي سلبه تفكيره، كما قدمنا عند الكلام على موضوع علم الأخلاق، هذا إذا كان الباعث الدافع مسيطرا بهذه المثابة. أما إذا لم يقو على هذا النحو، وكان للمرء معه قدر من التفكير في إصدار الفعل أو عدم إصداره، فلا يكون هو وحده حينئذ الذي دفع العمل، وقصاراه أن يجعل المرء أكثر استعدادا للعمل من غيره، أو بعبارة أخرى: يكون جزءا من الباعث لا الباعث كاملا.
وإذا كان الباعث بين حالتين لا يعدوهما، إحداهما تخرج صاحبه عن المسئولية فلا يكون العمل محلا للحكم الأخلاقي، والأخرى لا يكون فيها قويا فيكفي وحده للحمل على العمل، فلا حاجة إذن بدارس الأخلاق لبحثه، وإنما حاجته ماسة لبحث النوع الثاني وهو الباعث الغائي حتى يصدر حكمه عن بينة، بعد تعرف غايات الفاعل وبواعثه، التي هي مناط الحكم الأخلاقي.
والآن، بعد أن وضح معنى الباعث بنوعيه، نتكلم عن العلاقة بينه وبين المقصد؛ لنتبين ما يصلح منه أن يكون باعثا. (3-2) العلاقة بين المقصد والباعث
ومن السهل أن نقرر بعد أن علمنا أن المقصد هو ما تتجه الإرادة لتحصيله، وأن الباعث الغائي هو الغاية التي تجذب المرء لعمل معين؛ أن كل باعث بهذا المعنى يكون مقصودا؛ لأن كل ما جذب الإنسان لعمل خاص يكون دائما شيئا يراد تحصيله، ولكن إذا صح أن نقول: إن كل باعث مقصد، هل لنا أن نقول أيضا: إن كل مقصد باعث؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال، نتروى فنرى أننا نقصد كثيرا من نتائج أعمالنا الحتمية، ولكن لا نعتبرها غاياتنا التي جذبتنا إلى هذه الأعمال وقمنا بها لأجلها.
অজানা পৃষ্ঠা