وواضح أنه يريد من قوله: «وإن تجارب المعلمين ... إلخ» أن تلك الصفات التي تورث هي الناشئة عن مؤثرات طبيعية؛ لأنها التي يكون أثرها بطيئا.
وبعد، فإن القائلين بعدم وراثة الصفات المكتسبة لينكرون طلوع الشمس وهي تصليهم نارا حامية! وإلا فليفسروا لنا كيف ينسل العربي، الذي توطن السودان مثلا زمنا طويلا حتى نالت البيئة الجديدة من بشرته، أولادا يمتون إليه بسواد أجسامهم. على أن القوة التي تحفز الناس إلى التقدم لينالها الضعف إلى حد كبير إذا اعتقدوا أن هذه الصفات - وكثير منها ثمرة جهادهم في الحياة - لا ينتقل شيء منها إلى أبنائهم الآتين على ممر الدهور. (ط) الوراثة والتربية
ما أثر الوراثة في التربية؟ وهل هي نوع من القدر الذي لا مفر منه، أو للتربية مجال كبير في فل حدتها وتهذيب آثارها والانتفاع منها؟ ذلك ما نتكلم فيه الآن: (أ)
للوراثة أثر سيئ في كثير من الأحوال، يظهر ذلك في أولاد المدمنين على الخمر والمرضى المشوهين، إلا أننا نجد من الحق أن نذكر مع هذا فضلها وما لها من أياد كبير أثرها، فنظام المجموع العصبي الكبير الخطر، والجهاز الصوتي، والحواس وما تسديه إلينا من نفع، والغرائز التي لا غنى عنها في حفظ المرء ورفاهيته؛ كل ذلك وما إليه للوراثة فيه أثر غير منكور، فهي قوة قد تأتي بالضار كما قد تمدنا بالنافع، ومن هنا تظهر الحاجة الماسة للمربي الحكيم، فهو القادر على أن ينتفع بما يأتي به من حسنات، كما في يده أن يفل من حدتها ويخفف من شدتها إن جنحت للطريق الأخرى. (ب)
وكثيرا ما يتساءل الباحث في المجتمع الإنساني وتطوره عما إذا كان للوراثة - على كثرة ما خصص لها العلماء من بحوث وأنفقوا فيها من جهود - من أثر في رقي الإنسانية المشاهد الملموس، هنا نقول إن الوراثة لا تقف بآثارها على ما تقدم ذكره، بل إن منها نوعا آخر هو وراثة التقاليد والأخلاق، والعلم والمدنية والحضارة، وسائر أساليب الآباء والأجداد في معيشتهم ووسائلهم التي كانت لهم عونا في أزمانهم، بذلك يتيسر أن نبدأ حياتنا من حيث انتهى أسلافنا، وأن نبني على ما شادوه لنا، وبهذا تتقدم العلوم والمعارف وترقى المدنية، والنتيجة تقدم المجتمع عامة نحو الكمال.
نظن الفرق في القوة الجسدية ليس كبيرا بيننا وبين أهل القرون الخالية، لكن الفرق جد كبير بين مدنيتنا ومدنيتهم، وبين علومنا المؤسسة على البحث الصحيح ومعارفهم الساذجة التي أساس أكثرها الحدس والتخمين، وبذلك أمكن لنا ما نشاهده من مخترعات ذللت لنا سبل الحياة، والسبب في ذلك واضح ظاهر، فقد ورثنا مدنيات أصحاب الأيام الخوالي من الفراعنة واليونان والرومان والعرب والأمم الإسلامية جميعا. وبعبارة أخرى: ورثنا حضارة الجنس الإنساني حتى هذه اللحظة دون من سبقونا، فبهذا فقناهم ووصلنا إلى ما لم يخطر لهم على بال؛ من نظم وقوانين، ومخترعات جعلت الحياة سهلة ذلولا، ومكنتنا من تلبية نداء المعري حين يقول:
سر إن استطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
وبعد: فإن نظرة واحدة يوازن بها المرء بين حالتنا اليوم وبين حالة من سبقونا بعدة قرون، لتبين لنا أهمية ما حصلنا عليه من الإرث الاجتماعي الذي كان الاحتفاظ به وإنماؤه سببا في توطيد أسس الحضارة وإعلاء صرح المدنية. (ي) رجاء أنصار الوراثة
تبين للعلماء ما للوراثة من أثر كبير في نقل كثير من الأمراض الجسمية والعقلية والخلقية، فشرعوا يفكرون في طريق العمل حتى نكون بمنجاة من آثارها السيئة، وحتى نصل إلى مستوى يكون أقرب بقدر المستطاع إلى الكمال.
অজানা পৃষ্ঠা