إهداء
تصدير
أولا: اليمين واليسار
اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي
ما هي الليبرالية؟
أصول الليبرالية
تطور الفلسفة الليبرالية
الاشتراكية
الماركسية
نقد النظرية الماركسية
الهندسة الاجتماعية الجزئية طريق ثالث
ثانيا: الاستعمارية وما بعد الاستعمارية
الاستعمارية
نموذج لفلسفات ما بعد الاستعمارية
حاشية
القومية العربية في المعمعان
إهداء
تصدير
أولا: اليمين واليسار
اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي
ما هي الليبرالية؟
أصول الليبرالية
تطور الفلسفة الليبرالية
الاشتراكية
الماركسية
نقد النظرية الماركسية
الهندسة الاجتماعية الجزئية طريق ثالث
ثانيا: الاستعمارية وما بعد الاستعمارية
الاستعمارية
نموذج لفلسفات ما بعد الاستعمارية
حاشية
القومية العربية في المعمعان
ركائز في فلسفة السياسة
ركائز في فلسفة السياسة
تأليف
يمنى طريف الخولي
إهداء
إلى المهندس محمد طريف الخولي
هذا المثقف الليبرالي، المولع بالتحليلات الفلسفية للمفاهيم السياسية، وبالفلسفة الأمريكية.
ي. ط.
تصدير
هذه مجموعة دراسات نشرت في مواضع فكرية وثقافية مختلفة، تجتمع في أنها تتناول بالتحليل الفلسفي والنقدي بضعة مصطلحات ومفاهيم مما ترتكز عليه تيارات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، من قبيل الليبرالية والاشتراكية والماركسية والطريق الثالث والديمقراطية والاستعمارية والقومية والمقاومة وما بعد الاستعمارية والنسوية والعولمة وحوار الحضارات؛ بخلاف مفاهيم فرعية تندرج تحت هذه المفاهيم الكبرى أو الركائز، من قبيل العقد الاجتماعي والقوانين الطبيعية والاحتكار وفائض القيمة والعدالة الاجتماعية والفابية والراديكالية والتخطيط الكلي والجزئي والهندسة الاجتماعية وحقوق الأقليات والمهمشين والإمبريالية والمركزية الغربية؛ تسهم جميعها في رسم معالم للفلسفة السياسية الحديثة، بقدر ما أسهمت في تشكيل الواقع السياسي والمسار الحضاري عبر حقب الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
وفي هذا ربما نجد فلسفة السياسة تماثل فلسفة المعرفة العلمية من حيث إنها حوار بين الفكر والواقع أو بين النظرية والتجربة، ومركب جدلي منهما؛ فلا يستطيع أحد الجانبين - الفكر أو الواقع - إغفال الآخر بحال.
وقد جاء تتبع المفاهيم أو الركائز مواكبا لتتابعها التاريخي عبر مسار الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، وكانت الليبرالية هي أول ركيزة فرضت نفسها؛ فقد ارتهنت نشأتها بأفول العصور الوسطى وانهيار النظم الإقطاعية، حتى باتت الليبرالية تمثل معلما من معالم تجربة الحداثة الأوروبية، وتطورت على مدار تطورها، ثم أدى نموها ونضجها إلى ظهور التيار المقابل الذي يحاول تجاوز سلبياتها ومثالبها؛ أي الفكر الاشتراكي، فباتت الليبرالية بإطارها الرأسمالي تمثل فلسفة الأمر الواقع الذي ينبغي الحفاظ عليه، ولعل ارتباط الرأسمالية والليبرالية بالأمر الواقع أو العالم الواقعي المعاش يفسر لنا لماذا كان فيلسوف العلم والمعرفة التجريبية البارز في حقب متتالية من العصر الحديث هو فيلسوف الليبرالية البارز أيضا، فهكذا كان جون لوك ثم جون ستيوارت مل ثم برتراند رسل ثم كارل بوبر.
باتت الرأسمالية تمثل اليمين وما هو كائن، لتمثل المذاهب الاشتراكية اليسار؛ أي النزوع إلى التغيير والنقض وتحقيق ما يراه معتنقوها هو ما ينبغي أن يكون. إنه التقابل بين اليمين واليسار الذي حكم أطر الفلسفة السياسية الحديثة طويلا، حتى تساءل الفيلسوف الليبرالي أشعيا برلين
Isaiah Berlin (1909-1997م) في سبعينيات القرن الماضي عما إذا كان القرن العشرون قد عجز عن إنجاب أية فلسفة سياسية جديدة.
ظل هذا التقابل بين اليمين الليبرالي واليسار الاشتراكي ماثلا، حتى كان الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي، والمتغيرات التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين صوب ما سمي - حقا أو زورا - النظام العالمي الجديد، الذي يفتقر كثيرا للنظامية أصلا، لا سيما بعد ارتفاع وتيرة العولمة وسواها من مفاهيم صاخبة يموج بها الفكر السياسي الراهن، ليمثل ما سمي بالطريق الثالث؛ المفهوم الجدير حقا بالتوقف عنده.
ولعل من أبرز ما يميز الفكر والواقع وجدليتهما في قرننا الحادي والعشرين، هو انتهاء عصر المركزية الغربية وبروز مراكز حضارية أخرى، وعلى وجه الخصوص تمثل نهضة شرق آسيا ومعدلات التحديث والتصنيع والتنمية المتصاعدة هنالك مركزا متألقا ونموذجا يحتذى، ليس فقط مع العملاقين اليابان الرائدة والصين الواعدة، بل أيضا مع بقية النمور الآسيوية المنطلقة بعزم أكيد.
لقد اقترنت المركزية الغربية بالاستعمارية والإمبريالية، وهما نتيجة من نواتج النمو الرأسمالي الذي وطدت له الليبرالية. والاستعمارية بدورها من المرتكزات التي سوف نتوقف عندها، ثم عند أفولها وبروز عصر ما بعد الاستعمارية المرتهن بعصر ما بعد الحداثة، وتحديدا عند واحد من أهم التيارات الفكرية الراهنة؛ أي الفلسفة النسوية وموقفها النقدي الراديكالي الرافض للمركزية الغربية والاستعمارية، ورؤيتها لحقوق الأقليات والطبقات المهمشة والشعوب والثقافات المقهورة، وللعولمة في مقابل القومية، وأخيرا ننتهي عند نقطة ساخنة حقا وهي الدفاع المشبوب عن القومية العربية، كواقع وكمثال.
ولعل الصفحات المقبلة التي تتناول هذه الركائز بالعرض والنقد والتحليل تساهم في ترسيم معالم للفكر السياسي والفلسفة السياسية الحديثة في ذهن القارئ.
وبالله قصد السبيل.
أ.د. يمنى طريف الخولي
منيل الروضة في 15 يناير 2008م
أولا: اليمين واليسار
اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي
بشكل عام، يمثل اليمين موقف المحافظين الراغبين في الإبقاء على الوضع القائم، بينما يمثل اليسار موقف الثوريين الراغبين في التغيير؛ إما التغيير الفابي
1
أي التدريجي، وإما التغيير الراديكالي أي الجذري.
أما بالنسبة لليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي، فقد تبلورت الليبرالية في القرن الثامن عشر لتكون فلسفة نبيلة تدافع عن منطلقات الرأسمالية والحق في الملكية، فقد كانت الليبرالية أصلا من أجل الدفاع عن الطبقة الوسطى، طبقة صغار الملاك (= البرجوازية؛ أي سكان المدن)
2
التي كانت طبقة نامية آنذاك، وللبحث عن الاعتراف الكامل بها، بسائر حقوقها في الحياة والحرية والملكية. هذا في مواجهة طبقة الإقطاعيين التي كانت مهيمنة أساسا على الحياة الاقتصادية، وبالتالي على سائر جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في العصور الوسطى، وقد زوت طبقة الإقطاعيين بانتهاء العصور الوسطى وإشراقة العصر الحديث.
هكذا كانت الليبرالية في أصولها فلسفة الطبقة البرجوازية وفلسفة الملكية، وبالتالي تعني الليبرالية - من حيث هي فلسفة للرأسمالية - أن ترفع الدولة يدها عن وسائل الإنتاج وتترك ملكيتها للأفراد في تنافسهم الحر وصراعهم؛ وذلك تحقيقا للمبدأ المعروف باسم مبدأ الاقتصاد الحر
Laissez faire ، والذي يعبر عنه الشعار الليبرالي/الرأسمالي الشهير: دعه يعمل، دعه يمر، إن العالم يسير من تلقاء نفسه.
بل وتعني الليبرالية في أصولها ألا تتدخل الدولة في العلاقات الاقتصادية بين الأفراد، أو بين الجماعات، أو بين الطبقات؛ فكان التنافس هو الصورة العامة للاقتصاد الليبرالي.
هكذا باتت الليبرالية تمثل اليمين والحفاظ على الأمر الواقع، فتدافع عن الملكية الخاصة والطبقة المالكة (= البرجوازية) وتجسد قيمة التنافس، بينما تمثل الاشتراكية اليسار، فتقوم من أجل الملكية العامة - ملكية الدولة لا ملكية الأفراد - لوسائل الإنتاج لتحقيق العدالة الاجتماعية، وبحثا عن تغيير الأمر الواقع لمداواة عيوبه، بله الثورة عليه وعلى أشكال الظلم والقهر فيه، إنها تدافع عن حقوق الطبقة العاملة (= البروليتاريا) وعن التقارب الطبقي إجمالا وتجسد قيمة التعاون.
وكما سنرى، كانت الماركسية من أشهر صور الفكر الاشتراكي وأكثرها تطرفا، وبالطبع الماركسية هي فلسفة البروليتاريا أو الطبقة العاملة، في حين أن الليبرالية هي فلسفة البرجوازية أو الطبقة المالكة، وفي هذا نلاحظ أن الفكر الاشتراكي عموما والماركسية خصوصا هي فلسفة شمولية، تضع نصب أعينها الطبقة والجماهير، فيضيع الفرد في غمارها، هذا بينما الليبرالية فلسفة فردية، تضع الفرد نصب أعينها وترفع اهتمامها بالفرد فوق اهتمامها بالطبقة، أو على الأقل لا تربطه بعجلاتها وتترك له حرية الاستقلال عنها وعن أهدافها ومطامحها، من حيث تترك له كل حرية متاحة؛ إن الليبرالية هي المسئولة عن سمة الفردية وتقديسها والإعلاء من شأن الفرد، هذه السمة التي تسود الحضارة الغربية.
أما من الناحية السياسية، فكانت غاية النظام الماركسي هي اضمحلال الدولة بوصفها دولة، ولأنها أداة اليمين، أداة الرجعية للحفاظ على البرجوازية؛ على الرغم من أن الماركسية نظام شمولي؛ وكان الفكر الفوضوي اللاسلطوي
anarchism
الذي ينادي بسقوط الدولة تيارا موازيا. وبينما نجد الليبرالية تعظم من شأن الفرد، وتحد من سلطة الدولة أو الجماعة، ومع هذا فإن الدولة في الليبرالية مؤسسة ضرورية لا غنى عنها البتة، ليس بوصفها غاية وإنما بوصفها وسيلة لتحقيق غاية أبعد تتمركز أخيرا حول الفرد، وهي تحقيق الأمن؛ النظام والقانون في الداخل، ودفع الأعداء الأجانب من الخارج؛ وذلك ضمانا للأجواء الصالحة لممارسة الحرية. ثم إن الدولة أداة لتحرير المواطنين من الجهل والمرض، عن طريق اضطلاعها بتقديم الخدمات التعليمية والصحية.
وكان النظام السياسي الماركسي هو الديكتاتورية - ديكتاتورية البروليتاريا - ولو حتى بصفة مؤقتة، ويقوم على أساس أن الجميع ارتضوا أيديولوجيا محددة واستكانوا إلى مذهب فلسفي معين. وفي مقابل هذا نجد النظام السياسي الليبرالي هو النقيض للديكتاتورية، ولأي استبداد بالسلطة أو انفراد بالرأي أو خضوع دوجماطيقي أو إلزام بمذهب معين؛ وذلك على أساس أن المبادئ النهائية التي تمثل الحقيقة الحقة لا وجود لها في إمكانيات البشر، ثمة فقط آراء تتفاوت صحة وبطلانا، وقصارى ما يستطيع الليبرالي تأكيده - كما أشار برتراند رسل
Bertrand Russell (1872-1970م) - هو أن ذلك الرأي يبدو له أصح من غيره؛ وبالتالي لا يغدو اختلاف الرأي مثارا للعداء وللزج في السجون والمعتقلات، ويتسع المجال للتسامح الديني وتحقيق الحرية الفكرية.
ما هي الليبرالية؟
على أساس الدفاع عن الحرية والرأي الآخر تعد الليبرالية أساس الديمقراطية، ويشهد التاريخ أنها هي التي كافحت وجاهدت من أجل إرساء أسس الحكم الدستوري، وأنها هي التي علمت البشر أصوله، ووجوب استقلال السلطات عن بعضها؛ السلطة التنفيذية (= الحكومة والوزارة القائمة) عن السلطة التشريعية (= البرلمان والنواب أي مجلس الشعب في مصر) وعن السلطة القضائية، وأيضا - بل وأصلا - دافعت الليبرالية عن استقلال المواطن نفسه ما دام ملتزما بالقانون، وإطلاق حرياته في كافة المجالات إلى أقصى حد ممكن؛ وأهمها حرية الرأي والدين والفكر والاعتقاد والقول والفعل، وحرية انتخاب من يمثله، وإبداء رأيه في الاقتراع العام؛ مع ضرورة إقرار أكبر قسط ممكن من الوسائل التي تحد من تعسف الحكومات وتطاولها على حرياته. •••
لعلنا لاحظنا أن «الليبرالية» هي «مذهب الحرية»؛ حرية الفرد، وهذا هو على وجه الدقة المعنى اللغوي لمصطلح الليبرالية
Liberalism ، المأخوذ من اللفظة حرية
Liberty
في الإنجليزية و
Liberté
في الفرنسية وسائر البدائل في اللغات الأوروبية ذات الأصل اللاتيني؛ فهي راجعة إلى الاسم اللاتيني حرية
Libertas ، المشتق من الصفة حر
Liber ، التي تشير إلى وضع اجتماعي يفيد منزلة رفيعة وسجايا كريمة، وأساسه الانعتاق من العبودية، وأيضا من الأسر والسجن والجزية، كما تشير الصفة حر
liber
أيضا إلى غياب القهر والقسر والإرغام والإجبار والإكراه، في الفعل أو في الاختيار أو القرار ... إلخ، وسائر معوقات الحرية. الليبرالية إذن هي مذهب الحرية اسما ومضمونا. •••
على أن الحرية في واقع الأمر لم تكن هي الدافع أو المشكلة الملحة. المشكلة الحقيقية التي تستنفر الجميع لحلها، والتي هي أساس كل تنازع أو اختلاف حول يمين ويسار ووسط، هي مشكلة الملكية؛ أي حق الفرد في التملك أو الامتلاك، وليس المقصود طبعا امتلاك المقتنيات الشخصية والسلع الاستهلاكية كالملابس والأثاث وما إليه، بل المقصود ملكية وسائل الإنتاج كالمزارع والمراعي والمصانع والشركات والمتاجر الكبرى والمصارف.
اليمين، أي النظام الرأسمالي، هو الذي يترك ملكيتها للأفراد، وبطبيعة الحال الذي يقضي بكثرة عدد الأفراد وقلة عدد موارد الإنتاج، لن يتملك كل شخص، بل فقط قلة أو طبقة معينة هي طبقة الملاك أو البرجوازيين أو الرأسماليين. أما اليسار، أي النظام الاشتراكي، فهو الذي يرفض هذا، ويصر على أن تبقى سائر موارد الإنتاج ملكا لكل شخص وللا شخص، أي ملكية عامة للدولة أو للجماعة. وبين هذا وذاك نجد الوسط وهو النظام المطبق في معظم دول العالم يجعل بعضا من موارد الإنتاج - خصوصا الأساسية والحيوية والاستراتيجية - ملكا للدولة، ويترك بعضها الآخر ملكا للأفراد في تنافسهم الحر، ويكون تأرجح الوسط تجاه اليمين أو تجاه اليسار تبعا لحجم الموارد المتروكة للأفراد وتلك التي تسيطر عليها الدولة، وأيضا مدى وحدود هذه السيطرة.
لقد قامت الليبرالية أساسا لكي تؤكد حق الفرد في الملكية، وأنها - أي الملكية - غريزة فطرية قد تعلو على كل الغرائز الأخرى؛ لذلك وأدها مستحيل أو على الأقل خطر محقق على الحياة الإنسانية السوية، وقصارى ما يمكن هو تحديدها بحدود وربطها بواجبات والتزامات، كالضرائب والجمارك وحقوق الطبقة العاملة التي لا تملك، وقال الليبراليون في هذا الصدد قولة عجيبة مفادها أن الشخص قد يتسامح في مقتل أبيه ولكنه لا يتسامح في الاستيلاء على ممتلكاته.
في مقابل هذا نجد الماركسية قد سميت الشيوعية
Communism ، أي أقصى صور اليسار أو الاشتراكية؛ لأنها تقوم من أجل إلغاء الملكية الفردية - أي الملكية الخاصة - وإشاعة الملكية بين الجميع عن طريق تحقيق الملكية العامة لوسائل الإنتاج؛ هذه الملكية العامة في رأي الماركسية، وفي الفكر الاشتراكي عموما بمتغيراته الجمة ومذاهبه العديدة، هي المفتاح الذهبي لحل كل المشاكل والخلاص من كافة البلايا والنوائب والتصدعات التي تشوب البنيان الاقتصادي والسياسي، ومن ثم الاجتماعي.
هكذا نجد أن الملكية هي مربط الفرس والمشكلة الأم التي تشغل الجميع ، وباسمها تفرقوا إلى يمين ويسار متصارعين، وهي في الواقع أساس التنظيم الطبقي والاجتماعي عموما، وهي التي ربطت الاقتصاد والسياسة برباط عضوي؛ فالاقتصاد هو علم تنظيم الثروة في المجتمع، والسياسة هي علم تنظيم القوة في المجتمع، والثروة (= الملكيات) هي الوجه الآخر للقوة، حتى إن كلمة سلطة في الإنجليزية
authority ، وبسائر بدائلها في اللغات الهندوأوروبية، مشتقة من الكلمة اللاتينية
auctor
التي تعني المالك أو المحدث أو الممارس للحق؛ ومن هنا كان زيوس عند الإغريق - ونظيره جوبيتر عند الرومان - إله كل الآلهة، لأنه مالك الملك وصاحب السلطة على الآلهة والبشر على السواء.
أصول الليبرالية
في العهود البدائية السحيقة من عمر البشرية، لم يكن ثمة بالطبع بنيان اجتماعي اقتصادي سياسي؛ ذلك لأنه لم يكن ثمة ملكية. وعلى حد تعبير طريف لأحد رواد الفكر الليبرالي هو جان جاك روسو (1712-1778م) أتت المشكلة من أول وغد وضع سياجا حول قطعة أرض، وقال هذه لي ولا شأن للآخرين بها، إنها ملكي! وقبل أن يأتي هذا الوغد لم يكن ثمة ملكيات، ولا حاجة لتنظيمها والحفاظ عليها؛ أجل كان ثمة فوضى، لكن كان الجميع أحرارا متساوين.
وحين استكمل الإنسان خروجه النهائي من فصيلة الحيوان، وبدأ يمارس أولى أنشطته الاقتصادية كالتقاط الثمار وصيد الحيوان ثم الزراعة، عرف قيمة العمل والإنتاج؛ وكان يحدث أن يسطو فرد كسول على إنتاج فرد آخر نشيط، وهو سطو قد يقتضي التعدي على الحياة ذاتها، مما جعل الإنسان على استعداد لهجر هذا الوضع المليء بالمخاوف والأخطار، حتى ولو كان هجرا يقتضي التنازل عن قطاع كبير من حريته للحاكم وللآخرين، إنقاذا للبقية الباقية من هذه الحرية. لقد ارتضى الجميع الدينوية لقوة أعلى تملك حق عقاب الخارجين والفصل بين المتنازعين، فيأتمر بأمرها جميع الأطراف. هكذا عرف الإنسان نظام الحكم والسلطة السياسية في المجتمع، والتي تطورت أيما تطور عبر تاريخه الطويل.
على هذا التفسير الأنثروبولوجي البسيط لنشأة الاقتصاد والسياسة، أي لنشأة تنظيم الثروة وتنظيم القوة في التجمع البشري، ترتكز الأسس الليبرالية، السياسية والاقتصادية على السواء.
فمن الناحية السياسية نلاحظ أن المسألة عقد - ولنضع خطا تحت عقد - بين الحاكم والمحكومين، ليقوم الحاكم بدور معين في تنظيم حياتهم، نشدانا لظروف أفضل للاجتماع الإنساني ولحياة البشر سويا؛ إنها فكرة العقد الاجتماعي التي اهتم بها الفلاسفة الليبراليون، خصوصا جون لوك وجان جاك روسو - وفيما بعد الفيلسوف جون رولز - أيما اهتمام؛ وذلك ليحدوا من طغيان الملوك ويلزموهم بحدودهم، ليخبروهم بأنهم في خدمة الشعب وليسوا ملاكا لقطيع.
وحقا إن فيلسوف الديكتاتورية الإنجليزي توماس هوبز
Thomas Hobbes (1588-1679م) قد سبقهم في الاهتمام بفكرة العقد الاجتماعي، ليصل إلى نتائج مخالفة كثيرا، إلا أن مقتضى الفكرة على كل حال هو أن تفسير نشأة السلطة الحاكمة، وأيضا طبيعتها ودورها أولا وأخيرا، عقد بين الحاكم والمحكومين الذين يدينون له بالولاء والطاعة، فقط ليقوم بدور معين في حياتهم - كما ذكرنا، بحيث إنه إذا عجز أو فشل أو انحرف في أداء هذا الدور الذي خوله له المحكومون، أصبح من حقهم عزله وإبرام عقد جديد مع حاكم آخر.
من هنا انطلقت الليبرالية - مسلحة بفكرة العقد الاجتماعي - لتؤكد رفض حق الملوك الإلهي في الحكم، أو أنهم ورثة الله على الأرض كما كان شائعا في العصور الوسطى الإقطاعية والعصور القديمة. بهذا الرفض الذي أصبح الآن أمرا مسلما به، بل وبديهية في غير حاجة إلى الذكر فضلا عن النقاش، أنجزت البشرية بعضا من أعظم خطوات التقدم الاجتماعي في تاريخ البشر. لقد استبدلت حكم القانون بحكم الفرد، وجعلت الشعوب مواطنين لا رعايا، واستطاعت أن تسير قدما في هذا الصدد مرسية الدعائم الحديثة للحكم الديمقراطي المنشود، وتأكيد حق المواطنين في الإشراف على الحكم من خلال ممثلين مختارين أو نواب، ومبدأ الفصل بين السلطات الثلاث - التنفيذية والتشريعية والقضائية - والذي أصبح الأساس الديمقراطي المكين بعد أن وضع مونتسكيو (1689-1755م) كتابه الخالد ذا الأجزاء الثلاثة «روح القوانين». ودأبت الليبرالية على وضع أقصى ضمانات ممكنة لضبط ممارسة السلطة لعملها، وللحيلولة بينها وبين صور الانحراف السلطوي التي شد ما عانت منها العصور الوسطى والقديمة، كالعسف والظلم والديكتاتورية وتكديس الأموال بلا حدود وبلا قانون.
وعلى نفس ذلك التفسير الأنثروبولوجي البسيط يعود أيضا الاقتصاد الليبرالي ، والذي يمكن أن نعتبر مركزه ومحوره - كما أوضحنا - هو الاعتراف بحق الفرد في الملكية بل وتأكيد هذا الحق.
ولنلاحظ أن الملكية كانت تعني في البداية ملكية ناتج العمل. العمل امتداد مباشر لشخص الإنسان، أما الأرض ومواردها فهبة إلهية وهبها الله لعباده أجمعين. في البداية كان البشر قليلين، والأراضي شاسعة جرداء مواردها وفيرة، أكثرها عادم لا يجد مستغلا أو مستثمرا، لا مشاحنة خطيرة في توزيعها وهي كل موارد الإنتاج آنذاك.
وحتى منشأ الليبرالية في القرن السابع عشر، كان هذا هو الوضع إلى حد ما، مما جعل رائد الليبرالية جون لوك يتحدث عن الملكية بوصفها حق كل فرد في تحويل قطعة جرداء من الأرض بفضل عمله إلى مزرعة مثمرة ومنتجة، أي مورد إنتاج أو وسيلة إنتاج؛ إنه إذن الحق الطبيعي في ناتج العمل الذي لا نقاش فيه، لا من قبل أهل اليمين الليبراليين ولا من قبل أهل اليسار الاشتراكيين، ولا حتى من الشيوعيين الذين رفعوا - ضمن شعارات عديدة لهم - شعارهم الشهير: «الأرض لمن يزرعها»، وإن كان بالطبع شعارا رفع في ظروف مغايرة ولأهداف مغايرة.
بيد أن حياة الإنسان قصيرة، ووسائل الإنتاج مستمرة، وطالما أن حقوق الملكية الفردية مكفولة ومصونة، فسوف يتلقاها الورثة الشرعيون بغير جهد ولا فضل، بغير عمل وجهد، وإذا أضافوا إليها عملا، فقد تركوها لورثتهم مضاعفة، وهي قد تتضاعف بغير عمل؛ فمن طبيعة وسيلة الإنتاج - كالأرض الزراعية وقطيع الأغنام مثلا - أنها مثمرة ولود؛ وتتراكم الثروات وتنمو عبر الأجيال، مما أدى إلى تضخم الملكيات ورءوس الأموال بصورة استنفرت الجميع من أجل التنظير الاقتصادي السياسي، خصوصا بعد ما تفاقم الأمر بالثورة الصناعية.
مع الثورة الصناعية تضاعفت إمكانيات تشغيل رأس المال واستغلال الطبقة العاملة بصورة مهولة، فتبلورت كافة مساوئ النظام الرأسمالي، التي بلغت الذروة بظهور الاستعمار والإمبريالية الحديثة، ثم أدى التقدم العلمي التكنولوجي إلى قيام الصناعات الضخمة المتكاملة التي هي في غير حاجة لمهارات صغار العمال.
هذه الصناعات الضخمة المتكاملة القادرة على ابتلاع صغار المنافسين؛ لقد اكتسبت القدرة على الاحتكار، أي الانفراد بسوق السلعة، وبالتالي التحكم المطلق فيها وفي ثمنها، وهذا أدى إلى جعل الجميع - عمالا أو منتجين أو مستهلكين - فريسة سهلة لجشع أصحاب المال والأعمال، ثم إن الاحتكار الذي استشرى بصورة واسعة مع مطالع القرن العشرين كان كفيلا بأن يفقد الرأسمالية طابعها المميز الذي تنادي به وتدافع عنه الليبرالية، أي التنافس.
هكذا كان النتاج التاريخي لترك الملكيات الخاصة تنمو وتتراكم لا يبعث على الاطمئنان لأسس الليبرالية، خصوصا وأنه من الناحية الأخرى يولد من لن يرثوا شيئا، ولن يجدوا قطعة أرض ليجعلوها بواسطة عملهم وجهدهم وسيلة إنتاج. إن تعداد البشر يتزايد بصورة رهيبة، أو بمتوالية هندسية حسب تعبير مالتوس، والأرض ما زالت كما هي، وربما تعرضت لنحر البحر أو للتصحر، ولم يعد ثمة أية قطعة أرض أو مورد للإنتاج ليس ملكا لشخص أو لهيئة أو لدولة؛ وأصبح من المؤكد أن الشخص المعدم سوف يهلك جوعا قبل أن يجد قطعة أرض جرداء يحولها بواسطة عمله إلى وسيلة إنتاج تعد من ممتلكاته الشخصية؛ والمحصلة أن العمل ذاته قد أصبح مجرد سلعة يبيعها الشخص ليجد قوت يومه، أو أكثر أو أقل؛ ويا ليت هذا فحسب، بل أصبحت المشكلة الملحة هي إيجاد سوق لهذه السلعة المسماة بالعمل، والتي لا تملك الأغلبية العظمى شيئا سواها؛ إنها المشكلة المعروفة باسم البطالة والتي تؤرق العالم أجمع شرقا وغربا.
وقد بدأت مشكلة البطالة تميل إلى مؤشرات خطيرة منذ بداية العصور الحديثة، بل وقبيل أفول عصر الإقطاع؛ إذ انتشرت في تلك الآونة ظاهرة عرفت باسم ظاهرة «التسييج أو التسوير»؛ وهي أن يأتي واحد من الأشراف أو من ذوي البأس والنفوذ ليضع سياجا أو سورا حول قطعة أرض كانت في الأصل مشاعا يقطنها مزارعون ورعاة بسطاء فقراء يستخرجون منها بالكاد قوت يومهم، فتصبح الأرض ملكا خاصا لذلك الذي قام بتسييجها، ويهجرها قاطنوها البسطاء إلى المدن، والمدن تعاني أصلا من البطالة، فأصبح الذين لا يجدون عملا يقتاتون منه جحافل وجيوشا؛ ثم أخذت جحافل البطالة تنمو نموا سرطانيا مع نشأة وتطور التقدم العلمي التكنولوجي الذي استبدل بالصناعات اليدوية أنظمة التصنيع الآلي؛ فهي أولا تستغني عن عدد كبير من العمال، وثانيا تتمكن من استغلال النساء والأطفال بأجور زهيدة، أقل كثيرا من أجور الرجال الأصحاء ذوي القوة والقدرة على التحمل. هكذا تفاقمت البطالة، وتبعا لقانون العرض والطلب الذي سيظل دائما يحكم كل السلع في كل الأسواق، أصبح عمل الطبقة الكادحة - العمال المطحونين أو البروليتاريا - سلعة بخسة لا تكاد تفي بقوت اليوم، ولا أبسط مقتضيات الحياة الكريمة؛ ودع عنك تكوين الملكيات الخاصة والثروات.
لقد تبلورت مساوئ الرأسمالية، فتصاعد النقد الموجه لها؛ ظهر الفكر الاشتراكي لمواجهة ليبراليتها، بمذاهبه العديدة، مثل: الإيكارية والبلانكية والسان سيمونية والطوباوية والراديكالية والأكاديمية والتعاونية والفابية والفوضوية اللاسلطوية والماركسية ... إلخ. هكذا نجد المنظور الأنثروبولوجي ونموه وتطوراته أسهم بدوره في إعطاء التفسير لنشأة الصراع بين اليمين واليسار، ولكن ماذا عن نشأة الفكر الليبرالي وتطور الفلسفة الليبرالية؟
تطور الفلسفة الليبرالية
الليبرالية كما ذكرنا هي «مذهب الحرية»، ولم يعرف تاريخ الفكر ولا حتى تاريخ اللغة مصطلحا أشد هلامية وفضفضة من مصطلح الحرية؛ لذلك لا بد أن نتوقع من الليبرالية أن تعطينا قائمة طويلة من فلاسفة تتباين مشاربهم، ومن تنظيمات سياسية اقتصادية تختلف فيما بينها إلى حد ما.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن كل دول وسط وغرب أوروبا تقريبا تمثل حقب من تاريخها روافد في نهر الليبرالية، ولا تعدم دولة في غرب أوروبا فيلسوفا أدلى بدلوه في التنظير لليبرالية، وتبقى فرنسا صاحبة باع أعظم وقدح معلى، تليها ألمانيا. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد كانت منذ نشأتها الشيطانية المهجنة وحتى الآن معقلا من معاقل الليبرالية، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ودينيا؛ فضلا عن أن الثورة الأمريكية كانت، كرائدتها الثورة الفرنسية، مجرد ترجمة عملية أو محض تطبيق للمبادئ الليبرالية، خصوصا السياسية منها.
لكن على الرغم من كل هذا وذاك، فإن الليبرالية أساسا نبتة إنجليزية أصيلة، إنها أحد الدروس التي تلقتها البشرية على يد هذه الأمة العريقة التي علمتها أصول التنظير السياسي الحديث، ربما من حيث علمتها أصول العلم الحديث والمنهج العلمي؛ فكان أول سك واستعمال وتداول لمصطلح الليبرالية في إنجلترا مع بدايات القرن الثامن عشر.
وقد لاحت بشائر الليبرالية كواقع عملي وكمثال نظري في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، أي مع أفول العصر الإقطاعي وبداية العصر البرجوازي؛ وأرهصت بها بعض من كتابات مفكري هذه الحقبة، وأهمهم الإيطالي ميكيافيللي والإنجليزي توماس مور، وإن كان هذا الأخير قد لوح باشتراكية اقتصادية من بين طيات ليبرالية سياسية واجتماعية.
على أية حال لم تتبلور الفلسفة الليبرالية إلا بعد أن تبلور النظام البرجوازي الرأسمالي ذاته، والذي تعد الليبرالية المتحدثة الرسمية باسمه، أي بعد ذلك بقرنين من الزمان في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، حيث كانت نشأة مصطلح الليبرالية، في إنجلترا كما ذكرنا.
كان مصطلح الليبرالية آنذاك ذا مغزى سياسي بحت، ولا يخلو من روابط مع الثورة على سطوة المؤسسات الدينية، وهيمنتها على سائر مناحي الحياة النظرية والعملية في أوروبا. إنها الثورة التي بدأت منذ بدايات عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ونمت واشتد عودها في القرن السابع عشر باطراد التقدم العلمي، والإيمان بالعقل وقدرة الإنسان ورشده، واستغنائه عن الوصاية، ولم يعد ثمة حرج في الحديث عن حرياته والدعوة إليها والمطالبة بها جهارا نهارا.
الفيلسوف الرائد: جون لوك
كانت الأجواء إذن تنبئ بمجيء الأب الروحي لليبرالية، أي الفيلسوف الإنجليزي جون لوك
John Lock (1632-1704م) فيلسوف المعرفة التجريبية الذائع الصيت، صاحب القول الشهير: «الحياة، الحرية، الملكية» الذي يلخص مبادئ الليبرالية؛ وبالتالي أصبح شعارا لها يؤكد على العلاقة بله الترابط بين الحرية الشخصية والملكية الخاصة.
أكد جون لوك أن الملكية حق من أهم الحقوق الطبيعية التي قامت الدولة من أجل تأمينها، والأصل فيها هو ملكية الإنسان لشخصه، وبالتالي لناتج عمله، على أن الملكية لن تقتصر على هذه الحدود، بل تمتد إلى موارد الإنتاج ذاتها؛ وتفاوت الملكيات في المجتمع راجع إلى تفاوت قدرات الأفراد في العمل، وتفاوت طاقات جهدهم وملكاتهم وإمكانياتهم وذكائهم ومواهبهم.
بهذا التبرير، الذي يبدو مقنعا، للملكية الخاصة الممتدة إلى موارد الإنتاج، وأيضا لتفاوتها بين شخص وآخر، كانت الليبرالية مع إمامها جون لوك؛ إنه يصوغ الليبرالية ويشكلها على أساس فكرة سادت القرن الثامن عشر تعرف باسم «القوانين الطبيعية»؛ ومؤداها أن ثمة قوانين طبيعية تحكم حياة البشر وتجمعاتهم وأنشطتهم، وتنظمها بصورة تلقائية، ويمكن لأي فرد أن يكتشفها باستبطان ذاته، ليجد مثلا أنه هو نفسه في تصرفاته وعلاقاته وتعاملاته الاجتماعية محكوم بقوانين طبيعية، كقانون «المحافظة على الذات» وقانون «التعاون مع الآخرين». والواقع أن فكرتي العقد الاجتماعي والقوانين الطبيعية هما الأساس الفلسفي لليبرالية؛ العقد الاجتماعي أساس السياسة الليبرالية، والقوانين الطبيعية أساس الاقتصاد الليبرالي، وهما بالتالي محورا الفكر الاجتماعي لجون لوك.
وكانت فكرة القوانين الطبيعية هي حيثيات دفاع جون لوك عن الملكية الخاصة، وأنه لا خوف منها مهما تضخمت، فهي محكومة بقوانين طبيعية، أي بحدود تلقائية طبيعية ومعقولة، أبسطها أن قدرة الفرد على العمل محدودة.
هكذا نلاحظ أن الملكية التي دافع عنها جون لوك كانت أساسا ملكية ناتج العمل، حتى إنه جاهر أن الدولة يجب عليها تأمين حدود التفاوت في الملكيات بحيث تضمن ألا يجور شخص على آخر، فيمتلك ما لا يرجع إلى جهده، وأننا إذا افترضنا جدلا أن ملكية شخص ما زادت على ناتج عمله، فإن هذه الزيادة ليست من حقه بل من حق الآخرين.
هذا حسن! ولكن كيف يمكن إلزام الواقع به من دون الخروج على مقتضيات الليبرالية التي أرادها جون لوك؟! يصعب أن تسعفنا القوانين الطبيعية في هذا الصدد.
الفيزيوقراطيون الفرنسيون
وقد حمل لواء الليبرالية في القرن التالي على جون لوك - أي في القرن الثامن عشر - جماعة من الاقتصاديين الفرنسيين، عرفوا باسم الفيزيوقراطيين أي أنصار الحكومة الطبيعية، وهم يمثلون أقوى اعتقاد بفكرة القوانين الطبيعية؛ فكما توجد قوانين عامة تحكم الطبيعة، ثمة قوانين عامة تحكم المجتمع.
أهم القوانين التي تحكم المجتمع قانونان: (1)
قانون المنفعة الخاصة التي تجعل كل فرد يعمل على تحقيق مصلحته الخاصة. (2)
قانون المنافسة الحرة ومؤداه أن كل فرد مجبول على منافسة الآخرين ومحاولة التفوق عليهم.
الثاني، أي قانون المنافسة الحرة ، يمثل ضوابط للأول أي لقانون المنفعة الخاصة؛ بعبارة أخرى قانون المنفعة يكفل تحقيق الصالح الخاص وقانون المنافسة يكفل تحقيق الصالح العام؛ أي أنهما معا يوفقان بين الصالح الخاص والصالح العام في آن واحد.
الله هو واضع هذه القوانين الطبيعية، والله عادل وخير، يريد الخير لعباده أجمعين؛ ومن ثم وجب أن تكون هذه القوانين عادلة فيها الخير للبشر، ويستحيل أن
تركن إليها، فلا تحاول عرقلتها بالقوانين البشرية الوضعية التعسفية. قوانين الله - القوانين الطبيعية - كفيلة بتحقيق الخير والعدل للبشر أجمعين، وأي إنكار لهذا كفر وتجديف.
فلترفع الدولة يدها تماما عن النشاط الاقتصادي، وتتركه للأفراد في تنافسهم الحر بحثا عن منفعتهم الخاصة، أي تترك حريات الأفراد الاقتصادية تحقيقا للمبدأ: «دعه يعمل، دعه يمر، إن العالم يسير من تلقاء نفسه.» وهذا المبدأ الشهير الذي يعد شعار الليبرالية الاقتصادي من وضع فنسنت دي جورناي، وهو واحد من هؤلاء الاقتصاديين الفرنسيين.
ونتيجة لاطراد التقدم العلمي التكنولوجي، وتطور الأوضاع السياسية والاجتماعية وتعقد البنيات، سرعان ما تغيرت مقتضيات الحياة الاقتصادية وأنظمة العمل والإنتاج، مفصحة عن سذاجة فكرة القوانين الطبيعية والركون إليها، وسذاجة تفاؤل جون لوك وأولئك الفيزيوقراطيين الفرنسيين، وأصبحت رؤاهم يشوبها القصور، واتضح أن نظرية جون لوك ببساطة لم تعد تطابق الأوضاع والأحوال.
الاقتصاديون الكلاسيكيون
نهض مع مطلع القرن التاسع عشر جماعة جملتهم إنجليز، تواتروا حتى القرن العشرين، وسموا باسم الاقتصاديين الكلاسيكيين؛ وهم في الواقع من الآباء الشرعيين لعلم الاقتصاد الحديث بأسره، منهم ديفيد ريكاردو وجيرمي بنتام ومالتوس وساي في القرن التاسع عشر، وألفرد مارشال وتشارلز جيد وتشارلز رست في القرن العشرين؛ على أن رائدهم الحق هو مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث (1723-1790م) الذي يعد الأب الروحي للاقتصاد الليبرالي الحديث، وهو في واقع الأمر الأب الروحي لعلم الاقتصاد بأسره، وضع في كتابه الشهير «ثروة الأمم» أصولا للاقتصاد الليبرالي متمشية مع التغيرات الحادة في أوضاع الملكية والعمل والإنتاج، التي صاحبت القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
الاقتصاديون الكلاسيكيون لا يقيمون ليبراليتهم - أو دعوتهم للحرية الاقتصادية - على أساس العناية الإلهية الخيرة وما تبثه في الكون من قوانين طبيعية لصالح البشر، بل على أساس وجود نوع من التوافق الطبيعي بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، كفيل بتحقيق التوازن الطبيعي مهما أطلقنا الحريات؛ مثلا: الصانع يبحث عن أجر أعلى لصناعته كي يحقق مصلحته الخاصة، فيضطر لتجويدها لكي ترتفع قيمتها، فيحقق مصلحة عامة بإيجاد سلعة جيدة الصنع؛ مثال آخر: الصانع يبحث عن سرعة دورة رأس المال - عن عملاء يبيعهم بضائعه لكي يحقق مصلحته الخاصة، ولكي يجتذبهم فإنه يعمل على خفض الأسعار، فيحقق مصلحة عامة؛ وهكذا.
على هذا يمكن بل يجب إطلاق حريات الأفراد في نشاطهم الاقتصادي؛ والتوازن التلقائي الذي يكاد يمثل يدا خفية تحكم السوق، كفيل بتحقيق الانضباط المنشود، ولا حاجة لتدخل الدولة فضلا عن سيطرتها على وسائل الإنتاج.
ولكن ماذا عسى أن يكون هذا التوازن التلقائي سوى قانون طبيعي؟ وهل ثمة اختلاف حقيقي بين القانون الطبيعي والتوازن التلقائي اللهم إلا في المصطلحات؟
على أية حال أسس الاقتصاديون الكلاسيكيون علما يبحث في قوانين هذا «التوازن التلقائي»، فكان ميلاد علم الاقتصاد الحديث في بداية القرن التاسع عشر؛ ليتطور ويتشعب كثيرا، لا سيما بعد أن انضمت إليه جهود الاقتصاديين الاشتراكيين وأشهرهم بالطبع كارل ماركس؛ ليغدو الاقتصاد الآن علما ضخما واسعا متشعبا، متعدد الأصول والفروع، يستوعب الليبرالية والاشتراكية، والوسط بينهما ونقائضهما وما لا علاقة له بكليهما.
ومنذ العقود الأخيرة في القرن العشرين باتت السمة الغالبة على الليبرالية المعاصرة هي أنها تراجعت تماما عن إصرارها على ألا تتدخل الدولة إطلاقا في الأنشطة الاقتصادية، وسلم الجميع بوجوب وضع قوانين توجه الأنشطة الاقتصادية للصالح العام، وتحفظ حقوق الطبقة العاملة التي لا تملك، وأيضا حقوق المستهلكين. إنها الآن تتخذ موقفا وسطا أبعد عن الرجعية المحافظة وأقرب إلى الاشتراكية التي كانت قوة كابحة لها، بلغت مداها مع إعصار الماركسية الذي علا وخبا؛ فماذا عن هذا؟
الاشتراكية
النظريات والمذاهب الاشتراكية عديدة مديدة، لعل أوجه الاختلاف بينها أكثر من أوجه التقارب، ربما كانت الماركسية أشهر وأهم النظريات الاشتراكية، إلا أنها ليست الأوسع انتشارا على أرض الواقع الذي يشهد صنوفا شتى من الأحزاب الاشتراكية، والتطبيقات الاشتراكية والتشريعات الاشتراكية.
فما هي الاشتراكية؟
هي نظام اجتماعي واقتصادي يحاول أن يكون عادلا بأن يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، منعا لاستغلال أقلية من الملاك لأكثرية عاملة؛ قد تتخذ هذه الملكية العامة شكل ملكية الدولة، كاشتراكية كارل ماركس (1818-1883م)، أو الملكية التعاونية كاشتراكية سان سيمون (1760-1825م) في فرنسا وروبرت أوين (1771-1825م) في إنجلترا، التي تؤكد على عدم تركيز رأس المال في أيد قليلة، أو ملكية الجماعة كاشتراكية شارل فورييه (1772-1858م) الذي رأى أن الإنسان خير بطبعه وليس في حاجة إلى القمع، وأن ارتكابه للأخطاء والجرائم بسبب خلل في المجتمع وليس فيه؛ لذلك كان شارل فورييه فوضويا لا سلطويا، حارب مفهوم الدولة، وقال إن شموليتها واتساعها يقودان إلى المركزية والبيروقراطية، ورأى أن ينقسم البشر إلى جماعات صغيرة أسماها «الزمر»، تمثل كل جماعة وحدة إنتاجية تكفي احتياجات أعضائها، ويعمل كل فرد فيها بواعز من ضميره ساعات عمل قليلة، وتكون الملكية مشاعا بينهم.
ثمة أيضا الاشتراكية الفابية، وهي حركة إنجليزية تنتمي لأقدم جمعية اشتراكية في العالم، وتمثل واحدا من أقوى تيارات الاشتراكيات اللاماركسية التي ترفض الثورة الدموية والانقلاب الكلي المفاجئ إلى المجتمع الشيوعي اللاطبقي؛ وقد اتخذت اسمها نسبة إلى القائد فابيوس الذي انتصر على هانيبال عن طريق استراتيجية مؤداها ألا يهاجم الجيش ككل أبدا، بل ينتظر ريثما تأتي اللحظة المناسبة فينفرد بميمنة الجيش، حتى إذا فرغ منها وتركها حطاما انتقل إلى الميسرة ثم المقدمة وهكذا، وفي النهاية كان له النصر.
هكذا يتبنى الاشتراكيون الفابيون استراتيجية تدريجية لتحقيق المجتمع الاشتراكي وإلغاء الفقر، عن طريق التشريع والإدارة وسيطرة المجتمع على إنتاجه وعلى حياته؛ وذلك على أساس أن تكون الاشتراكية أولا ديمقراطية تتحقق عن طريق قبول الأغلبية والقرارات التي تحظى بأعلى نسبة في الاقتراع العام؛ لذلك لا بد أن تكون السبل ممهدة في عقول الجماهير، فينبغي العمل على تنويرها بالحقائق الواقعية عن أوضاع العمال، والدعوة إلى الاشتراكية والإقناع بها، وتكون هذه الاشتراكية - ثانيا - تدريجية حتى لا تسبب قلقلة واضطرابا في الأوضاع؛ وتكون - ثالثا - دستورية سلمية؛ ورابعا لا تعتمد على أية قرارات يعتبرها الجمهور لا أخلاقية، من قبيل استلاب الملكيات الخاصة عنوة، أو مهاجمة الدين والمؤسسات الدينية.
وقد تبلور الفكر الاشتراكي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نتيجة لتفاقم مساوئ النظام الرأسمالي، خصوصا بعد قيام الثورة الصناعية، وبداية الهجرة من الريف، وزيادة حجم الطبقة العاملة، وزيادة إمكانية استغلالها بصورة بشعة، تطرقت حتى استغلال النساء والأطفال بأجور منخفضة وساعات عمل طويلة، تستغرق هي وساعات النوم كل عمر العامل، بلا أية ضمانات أو تأمينات، مما جعل استغلال العمال شكلا آخر من أشكال العبودية.
الماركسية
كان كارل ماركس هو الفيلسوف الاشتراكي الذي استطاع أن يخرج بفلسفته من قاعات البحث الأكاديمي، ويجعلها تدفع من يؤمن بها إلى حد بذل الحياة من أجل تحقيقها، وتؤرق من لا يؤمن بها، بحيث كانت حتى العقد قبل الأخير من القرن العشرين صداع العالم المزمن.
وذلك لأن الماركسية وضعت من أجل تغيير الأوضاع؛ فقد آمن ماركس بأن ما تقاسيه الطبقة العاملة لا يرجع إلى ظلم أفراد لأفراد، بقدر ما يرجع إلى النظام الاجتماعي الفاسد الذي لا بد من تغييره؛ فكان بهذا مخالفا لسنة الفلاسفة في الاقتصار على محاولة الفهم والوعي والتوضيح، دون محاولة التغيير. وقد أكد ماركس أن الإنسان لكي يستطيع أن يغير العالم يجب عليه أولا فهم المادة التي يتناولها فهما علميا، فتصبح سيطرته على تطور المجتمع أشبه بسيطرته على سير الطبيعة. وضع ماركس أساس هذا الفهم بما أسماه المادية الجدلية
Dialectical Marterialism .
المادية - وهي أسبق في فكر ماركس من الجدلية - هي المذهب الذي يفسر كل شيء بالعلل المادية وحدها، وهي هنا مادية تاريخية؛ بمعنى أنها لا تؤمن بأية عوامل غير مادية لتطور المجتمع وتحرك التاريخ، لا علمية ولا فلسفية ولا دينية ولا غيرها، فكل هذا بنية فوقية، ما يحركها ويحرك التاريخ هو البنية التحتية التي تكمن خلفها، وهي العوامل المادية؛ أي الأحوال الاقتصادية التي تتمثل في صورتين:
قوى الإنتاج: أي المصادر الطبيعية كالمواد الخام والطاقة ورأس المال والتكنولوجيا والأيدي العاملة.
علاقات الإنتاج: أي التقسيم الطبقي للمجتمع، فما يضفي على المجتمع طابعه المعين هو نظام العلاقات التي تحكم عملية الإنتاج فيه.
تلك العوامل المادية هي القوة الأساسية التي تحدد هيئة المجتمع وطابع التنظير الاجتماعي والاقتصادي فيه، وتقرر تطور المجتمع من نظام إلى آخر؛ فهي أسلوب الحصول على وسائل المعيشة الضرورية لحياة الناس، أي أسلوب إنتاج الحاجات المادية الضرورية كالغذاء والملبس والمسكن. لقد استفاد ماركس كثيرا من أبحاث لودفيج فويرباخ
L. Feuerbach (1804-1872م) في إثبات هذه المادية، وفي دحض الفكر الديني واعتباره أفيون الشعوب من حيث يجعلها تساعد على تسكين الأمر الواقع الفاسد، ممنيا إياها بالجزاء في الحياة الآخرة.
غير أن ماركس مع كل هذا لم يعتبر المادية التاريخية مذهبا فلسفيا جديدا، بقدر ما كان يعتبرها أسلوبا علميا مفيدا في التحليل الاجتماعي والتاريخي، وقاعدة للاستراتيجية السياسية؛ فهي أساس الفهم العلمي لمسار التاريخ.
وهذه المادية التاريخية تتميز عن المادية التقليدية بأنها جدلية. الجدل أي منطق هيجل هو منهجها، وهذا يعني أنها تنفي أية سكونية عن العالم والطبيعة، وترى في الحركة والتغير الدائمين أساس فهمهما؛ فأي حادث من حوادث الطبيعة لا يمكن فهمه إذا نظرنا إليه منفردا، ويمكن فهمه وتبريره إذا نظرنا إليه من حيث ارتباطه بالحوادث الأخرى، ومن حيث إنه في تغير مستمر وحركة مستمرة.
هذه الحركة - وأية حركة سواء في الطبيعة أو في الفكر - لا بد أن تسير عبر خطوات الجدل الهيجلي الثلاث: (1)
القضية كما هي: أ. (2)
ثم تتحول إلى نقيضها: لا أ. (3)
ثم نصل إلى مركب يجمع خسر ما في القضية وما في نقيضها، ثم يتجاوزهما إلى ما هو أفضل. في كل جانب منهما - من القضية ومن نقيضها - جانب من الحق وجانب من الباطل؛ الحقيقة الكاملة لا توجد في أي منهما، بل في المركب الذي يوفق بينهما ولا يتعارض مع أي منهما، هذا المركب بدوره سرعان ما يصبح في مرحلة أعلى من الجدل «قضية» تنقلب إلى نقيضها، ثم تصل إلى المركب الذي يتجاوزهما، وهكذا دواليك.
وقد قدم هيجل هذا المنهج الجدلي بصورة مثالية متطرفة؛ فهيجل هو الميتافيزيقي الصميم الذي يرى الواقع مجرد انعكاس للفكرة أو للروح، فقد جعل الجدل خطوات صيرورة الروح؛ الذي ينتقل من الروح الذاتي أو الروح في ذاته، الذي يتمثل في الطبيعة؛ إلى نقيضه أي الروح الموضوعي أو الروح لذاته، الذي يتمثل في الإنسان بالقانون والأخلاق والسياسة؛ ثم يصل إلى الروح المطلق الذي يتمثل في الدين والفن والفلسفة؛ الجدل بهذا هو الفكرة إذ تنمي ذاتها، أما الطبيعة فهي انحطاط الفكرة.
غير أن ماركس ورفيقه فردريك إنجلز
F. Engles (1820-1895م) وهما الماديان الصميمان اللذان يريان في الفكرة مجرد انعكاس للواقع، قد نزعا عن الجدل هذه القشرة المثالية، فجعلا جدل الفكرة مجرد الانعكاس الواعي لحركة العالم الواقعي الجدلية، وبذلك جعلا الجدل يقف على قدمه المادية ثم ينعكس منها فيرتفع إلى رأسه المثالي، بعد أن كان مع هيجل يقف على رأسه المثالي وينعكس منها فيرتفع إلى قدميه الماديتين. إن جدل ماركس مادي وهو أساس تطور عمليات الطبيعة وأشكال المادة ومسار التاريخ وأشكال المجتمعات تبعا لتطور عمليات الإنتاج. إنه علم القوانين العامة للحركة، سواء في العالم الخارجي أو في الفكر البشري، وهو منهج للبحث هدفه امتلاك المادة بكل تفصيلاتها، وتحليل أشكال تطورها المختلفة واكتشاف قوانينها الداخلية.
وقد وضع ماركس وإنجلز لهذا الجدل قوانين ثلاثة ومقولات، أو بالأصح استخلصا من جدل هيجل قوانين الجدل، وهي: (1)
التغيرات من الكم إلى الكيف: فالتغير الذي يحدث في العالم هو انتقال من التغيرات الكمية إلى التغيرات الكيفية والعكس، وانتقال الشيء من حالة كيفية معينة إلى كيفية أخرى نتيجة للتغيرات الكمية المتدرجة هو طفرة في مجال التطور، والطفرة هي تحطيم لتدرج التغير الكمي للشيء أو هي الانتقال إلى كيف جديد، مثل تدرج التغيرات الكمية لدرجة حرارة الماء، حتى إذا وصلت إلى مرحلة معينة انتقلت من كيف إلى كيف آخر، من سائل إلى بخار. (2)
صراع الأضداد وتداخلها: سبب التغير والحركة المستمرة في العالم هو التناقض الكامن في الأشياء، وهو ما أسماه هيجل مبدأ السلب. (3)
نفي النفي: سير التطور كله يتم عبر سلسلة من نفي النفي، كل مرحلة تنفي سابقتها، ثم تنفيها هي نفسها مرحلة ثالثة، وهكذا. والنفي هنا لا يعني الفناء، كل مرحلة تنفي المرحلة السابقة وتحفظها في آن واحد؛ النفي الجدلي هو نفي واحتفاظ معا، هدم وتطور أبعد؛ يضرب الجدليون المثل على هذا بقانون الجبر: −1 × −1 = 1.
أما المقولات فهي كثيرة؛ مثل: الكم والكيف والمقدار، العلة والمعلول والتفاعل، المضمون والصورة، الماهية والمظهر، الضرورة والحرية، الإمكان والواقع، الفردي والجزئي والكلي، الهوية والاختلاف، الطرد والجذب، اللامتناهي الزائف واللامتناهي الحقيقي، القوة ومظهر تحققها، الكم المنفصل والكم المتصل، المجرد والعيني ... إلخ. والمجال مفتوح دائما أمام مقولات أخرى يمليها علينا التطور الجدلي.
بهذه الصورة سنجد الدنيا كلها تسير وفقا لإيقاع الجدل الذي لا يفلت من قبضته القوية شيء لا في العالم المادي ولا في العالم الروحي، حتى إن الخلافات التي تقع بين الرفاق داخل الحزب الشيوعي نفسه لا يفسرها إلا ذلك الجدل الهيجلي العظيم! •••
على أساس هذه النظرة الجدلية المادية يكون تناول تاريخ البشرية، فنجده عملية واحدة لا تكرار فيها، تخضع لقوانين يمكن اكتشافها؛ وهي قوانين تختلف عن قوانين العلوم الطبيعية والكيميائية التي تسجل اقترانات وتتابعات لظواهر متداخلة، أينما وكلما تكررت هذه الظواهر. إنها قوانين أقرب شبها إلى علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) وعلم النبات، التي تتضمن المبادئ التي تتم تبعا لها عملية تغيير مستمرة. كل مرحلة في هذه العملية جديدة، تحمل سمات جديدة. وعلى الرغم من كونها جديدة وفريدة وغير متكررة، فإنها مع ذلك تنبعث من الحالة السابقة عليها مباشرة، نتيجة للأسباب نفسها، وخضوعا للقوانين الطبيعية نفسها التي أدت إلى انبعاث الحالة السابقة عليها من تلك التي كانت قبلها.
المجال الوحيد للبحث عن مبدأ هذه الحركة التاريخية هو ذلك المجال الذي يظل مفتوحا للاختبار العلمي التجريبي. ولما كانت الظواهر المراد تفسيرها هي تلك التي تتعلق بالحياة الاجتماعية، فإن التفسير يجب أن يكمن في طبيعة البيئة الاجتماعية، على أن يكون تفسيرا علميا.
لقد ضاق ماركس بالمثاليين الذين يتطلعون إلى التخلص من أوضاع الواقع بواسطة قيم ومثل عليا، ورأى أن أكبر خطأ وقعوا فيه - بسبب من الفردية البروتستانتية - هو إيمانها بأن تغيير ما في أنفسهم من شأنه أن يؤدي إلى قلب أسلوب حياتهم بالكلية. وآمن هو إيمانا راسخا بأن التاريخ تتحكم في مسار أحداثه قوانين حتمية تشبه القوانين التي تتحكم في مسار ظواهر الطبيعة؛ وكما أن السيطرة على الطبيعة تكون بالتوصل إلى هذه القوانين، فإن السيطرة على التاريخ تكون - أيضا - بالتوصل إلى قوانينه التي تمكننا من التنبؤ بما سيكون، والتي لا تقبل ردا ولا استثناء، وإن كانت تقبل تعجيلا.
ها هنا نلاحظ معلما يميز النظرية الماركسية عن سواها من النظريات الاشتراكية، ألا وهو ما تزعمه من خاصة علمية، وبالتالي ما تدعيه من إخبار عن الواقع، الواقع التاريخي. فكما كان نيوتن عالم الفيزياء وكان باستير عالم البيولوجيا، أراد ماركس أن يكون عالم التاريخ الذي يدرسه ويحلله ويفهمه، فيستطيع التوصل إلى القوانين الحتمية التي تحكمه والتي تمكننا من التنبؤ بما سيكون من أحداثه، تبعا لطبيعة العلم ووظيفته.
والقانون الأساسي الذي يحكم حركة التاريخ كما توصل إليه ماركس هو: صراع الطبقات الذي يتطور تطورا جدليا من مرحلة إلى أخرى؛ فمنذ أن انتقلت الحضارة الإنسانية من الشيوعية إلى الملكية بدأ الصراع بين الأحرار والرقيق، ومع الانتقال الجدلي إلى المرحلة الإقطاعية أصبح الصراع بين طبقة ملاك الأرض وطبقة رقيق الأرض، ومع الانقلاب الصناعي أصبح الصراع بين طبقة البرجوازية (أي ملاك رأس المال) وبين طبقة البروليتاريا (أي عمال الصناعة الكادحين). إنه الصراع الدائم بين الحاكمين والمحكومين، بين القاهرين والمقهورين، بين الذين يملكون وسائل الإنتاج وبين العمال الذين لا يملكون ويقومون بعملية الإنتاج.
إن الباعث الأساسي على العمل في حياة الإنسان هو علاقته بالطبقات المختلفة في الصراع الاقتصادي، وهو باعث تزيد قوته لأن الإنسان لا يدركه؛ فهذه العلاقة حرب مستترة، تظهر تارة وتختفي تارة أخرى، حرب كانت تنتهي دائما إما إلى إعادة تشكيل المجتمع بأسره بطريقة ثورية، وإما إلى انهيار الطبقتين معا.
المجتمع البرجوازي الحديث الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي، لم يقض على التناقضات، لكنه أقام طبقات جديدة تحل محل الطبقات القديمة، وأوجد ظروفا جديدة للقهر، وأشكالا جديدة من الصراع بدلا من الأشكال القديمة، وإن كانت أشكالا قد بلغت الذروة في تناقضها، وهذا ما توضحه نظرية ماركس الاقتصادية التي أسماها «نظرية القيمة وفائض القيمة».
نظرية القيمة هي التي قال بها ديفيد ريكاردو (1772-1823م) وخلاصتها أن قيمة السلعة تتناسب تناسبا طرديا مع عدد ساعات العمل - أي كمية العمل - المبذولة فيها. أما نظرية فائض القيمة فقد توصل إليها ماركس، وخلاصتها أن العامل يبيع عمله للبرجوازي مقابل أجره الذي يكفيه الحد الأدنى من ضرورات الحياة، لكن البرجوازي يبيع ناتج العمل بأجر أعلى بكثير مما دفعه للعامل؛ فارق السعر بين أجر العامل وبين ثمن بيع عمله هو ما أسماه ماركس «فائض القيمة»، وهو الذي يبلور مدى استغلال البرجوازي للبروليتاري؛ فالثروات تتراكم بتراكم فائض القيمة، التي تشكل بدورها رأسمالا آخر يفيض عن إشباع حاجات البرجوازي، فيستغله في عملية إنتاج أخرى، أي في توسع صناعي أكبر واستغلال عدد أكبر من العمال، يحقق فائض قيمة أعلى، وهكذا دواليك.
ويبدو التناقض أوضح في أن العامل يبيع عمله كسلعة بثمن بخس، ولما كان عمله يستغرق عمره، فهو محروم من كل وسائل الترفيه والتثقيف، ويصبح العامل نفسه سلعة شقية، ويتناسب شقاؤه تناسبا طرديا مع حجم وقوة إنتاجه؛ كلما زاد الإنتاج، كلما انخفضت قيمة العامل، مما يوضح اغتراب العامل عن عمله الذي يسبب له الشقاء، بينما يسبب للبرجوازية المستغلة رفاهية ونعيما.
وبطبيعة الحال الجدلي، لن يستمر هذا الوضع إلى الأبد ولا حتى طويلا؛ فالبرجوازية شأن أية مرحلة تطور اقتصادي أخرى، تحمل في ذاتها عوامل فنائها، إلا أن البرجوازية تتميز بأنها أكثر بساطة؛ فالمجتمع يسير أكثر فأكثر في طريق الانقسام إلى طبقتين كبيرتين متعارضتين تماما، هما البرجوازية والبروليتاريا؛ فسوف تبتلع البروليتاريا الحرفيين والصناع والتجار - لأنهم لن يستطيعوا الصمود أمام الصناعات التكنولوجية الضخمة - وأيضا الفلاحين، وسوف تنكمش البرجوازية، فتتركز الثروة في أيد قليلة؛ مما سيزيد من حدة الصراع الطبقي وقوته ويعجل بانهيار النظام البرجوازي. سوف يشتد ساعد البروليتاريا ويقوى، فتقهر البرجوازية وتصل إلى مواقع السلطة، وتكون حكومة ديكتاتورية تحافظ على مكاسب البروليتاريا، وتصفي بقايا النظام والعادات البرجوازية، تؤمم كل وسائل الإنتاج، فيختفي الاستغلال والقهر، وتضمحل الدولة نفسها، أو تنتهي بوصفها دولة، لأن الدولة هي أداة الرجعية للحفاظ على النظام البرجوازي القائم. وشيئا فشيئا تنضم الدول الواحدة بعد الأخرى إلى هذا المجتمع - وعلى الأغلب سيكون المجتمع الإنجليزي أو الألماني - الذي سيشمل العالم أجمع في نهاية الأمر، لأنه ذروة التقدم وغايته: المجتمع الشيوعي اللاطبقي، الذي يحكمه مبدأ: من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته. بدلا من المبدأ البرجوازي: من كل حسب قدرته ولكل حسب إنتاجه؛ فيتساوى الجميع مهما كانت أعمالهم.
لكن البرجوازية سوف تستخدم كل الأساليب في محاولة عرقلة مسار التاريخ وتعويض تقدمه المحتوم نحو الشيوعية؛ لذلك من الضروري أن يتحد العمال للقيام بثورة دموية عنيفة، تقهر البرجوازية وتحقق الشيوعية بقوة السلاح، فقط لكي تخفف آلام الوضع وتقصرها، وتختصر المراحل التاريخية المطلوبة للوصول إلى المرحلة الشيوعية، وإن كانت هذه المرحلة على أية حال هي النهاية الحتمية لمراحل التطور الاقتصادي.
فتنت هذه النظرية في عصرها ألباب الكثيرين؛ فقد بدت حلما طوباويا خلابا يؤكد مجيء اليوتوبيا الموعودة للكادحين المطحونين، بعد طول قهر وحرمان. فهل هذا عن حق؟ هل كانت النظرية صادقة؟ لماذا إذن كل الانهيار المدوي لبعض أو لمعظم تطبيقاتها المخلصة؟
نقد النظرية الماركسية
أولا: نقد الماركسية من حيث هي نظرية علمية
في نقد وتقويم النظرية الماركسية نجد أن أول ما يلفت النظر فيها دونا عن سواها من نظريات اشتراكية، هو الزعم بأنها نظرية علمية.
فقد جاء ماركس في عصره الذي بلغ حد الثمل والدوار في الانتشاء بالعلم، وطرح نظريته بوصفها نظرية علمية، وسوف نرى أنها ليست علمية ولا يمكن أن تكون هكذا، أو أنها على أوسع الفروض تحاول أن تتمسح بالعلم وأن يكون لها الشكل العلمي، ولكنها في حقيقة الأمر ليست من العلم في شيء.
فأولا: منهج ماركس مضطرب غامض مبهم، حتمي وتنبؤي وقطعي وجدلي في الوقت نفسه. لقد صارح بأنه يعتمد على الجدل؛ والمنهج الجدلي والمنهج العلمي متضادان لا يمكن أن يلتقيا؛ فالجدل يحذف قانون عدم التناقض وينتقل من الفكرة إلى نقيضها إلى مركب يجمع بينهما أي يقر بهما معا، والعلم لا يسمح بهذا، ومن غير المعقول البتة أن ننتظر من كل قضايا العلم أن تكون جدلية. السمة المميزة للمنهج العلمي هي حذف القضية التي ثبت خطؤها وإحلالها بأخرى أكثر منها صوابا، بغير مبرر للبحث عن نقيضها فضلا عن مركب من القضية ونقيضها، ثم إن عالم العلم كمي، والكمية مجرد عناصر موجودة معا، أي أنها نقيض الوحدة الجدلية. العلم لا يعنيه البتة الانتقال من الكم إلى الكيف، كما يؤكد الجدل. وليس يفترض العلم أية انقلابات جدلية في مسار الطبيعة، بل على العكس يفترض استمرارية ما. جملة القول أن أبسط تحليل منطقي يكشف عن التضارب بين المنهج الجدلي والمنهج العلمي، ولم يكن هذا خافيا عن أي ملم بأساسيات المنطق؛ لذا دأب الشيوعيون على القول إن منهج العلم يناقض الجدل لأنه يكشف عن وجهة النظر البرجوازية.
ولما كان العلم أساسا هو المنهج، وكان منهج ماركس بكل هذا الاضطراب والتناقض، كانت نظريته علمية زائفة؛ إنها تحاول علمنة التاريخ، أي أن تجعله علما كالطبيعة، له قوانين نستخلص منها تنبؤات يقينية، أي تنبؤات ستحدث حتما، لينتهي إلى أن الشيوعية ليست نظرية نقبلها أو نرفضها، أو ننقدها أو نعدلها، بل هي أمر محتوم، سيحدث قطعا شئنا أم أبينا، وقصارى ما نستطيع أن نفعله هو الثورة الدموية التي تخفف آلام الوضع، أي فقط تقصر المرحلة التاريخية التي ستعقبها الاشتراكية، حتما على أية حال. وفضلا عن أننا الآن في عصر النسبية والكوانتم اللتين لم يشهدهما ماركس، فقد أدركنا أنه لا التاريخ علم كالطبيعة، ولا الطبيعة أو أي علم آخر يمكن أن يكون حتميا بمثل هذا المنظور.
وفضلا عن هذا نجد أن مصداق الخلل المنهجي قد أتى من الوقائع التاريخية التي حدثت فكذبت كل تنبؤات ماركس تقريبا، مما يعني أن النظرية ذاتها كاذبة؛ وبالتالي ليست الشيوعية حتما مقضيا كما وعدتنا: (أ)
تنبأ ماركس بأن طبقة البروليتاريا سوف تزداد زيادة غير محدودة، وتنكمش طبقة أصحاب رءوس المال انكماشا غير محدود، وهذا لم يحدث أبدا؛ فقد تعقد اتجاه الصناعة وتغير في حالات كثيرة، وأصبحت تعتمد على الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات والكومبيوتر أكثر من اعتمادها على العمال. زادت أهمية المهارة الكيفية للعامل عن أهمية العدد الكمي للعمال، وبدلا من أن تزداد البروليتاريا، ظهرت طبقة ثالثة لم يلتفت إليها ماركس بحكم طبيعة عصره، وهي طبقة المهندسين والعلميين والفنيين والمحاسبين والإداريين ... ودورها في عملية الإنتاج أهم من دور البرجوازية ومن دور البروليتاريا.
وبسبب من تطور المنتجات وتطور الاحتياجات لم تعد المؤسسات الكبرى تفلس أصحاب الصناعات الصغيرة فتضمهم للبروليتاريا، بل قد تعتمد عليها. المؤسسة الكبرى لصناعة السيارات - مثلا - تعتمد على صناعات صغيرة لإنتاج ما يلزمها من جلود المصانع وغيره. من الناحية الأخرى لم تنكمش طبقة أصحاب رءوس الأموال انكماشا غير محدود، بل على العكس، امتلك أسهم كثير من الشركات صغار المساهمين. (ب)
كذبت أيضا نبوءة ماركس القائلة إن الطبقات سوف تختصر إلى طبقتي البرجوازية والبروليتاريا؛ لم يحدث هذا وليس من المحتمل أن يحدث، ومهما تقدمت الصناعة لن تختفي طبقة المزارعين بالذات، ولن تنضم إلى البروليتاريا، وتظل الحياة الريفية متميزة بطابعها المعين. ويمكن القول إن تاريخ الاشتراكية في أواخر القرن العشرين هو في أحد جوانبه تاريخ الصراع بين الحركة البروليتارية وبين طبقة الفلاحين. لقد عالج ماركس الإنتاج الزراعي بسطحية بالغة، الأمر الذي كلف خمسة ملايين من الفلاحين الروس أن يموتوا أو يرحلوا حتى يتحقق نظامه.
على أية حال لم تسفر التطورات التي أعقبت ماركس عن طبقتين، بل عن الطبقات الآتية: (1) البرجوازية. (2) كبار ملاك الأراضي. (3) الملاك الآخرين. (4) العمال الزراعيين. (5) طبقة وسطى من الإداريين والفنيين. (6) طبقة العمال الصناعيين. هذا فضلا عن طبقة المثقفين التي عدها ماركس برجوازية، وهي ليست هكذا إذا تحرينا دقة في المصطلح. ومثل هذا التطور وهو الأمر الواقع في معظم البلدان، من شأنه أن يحطم اتحاد طبقة العمال الصناعيين أو وضعهم ككتلة متحدة، وذلك لتداخل علاقاتهم بالطبقات الأخرى. (ج)
تنبأ ماركس بأن انتصار البروليتاريا ومجيء الشيوعية سوف يتبعه حتما المجتمع اللاطبقي، وليس هذا محتوما، لا نظريا ولا تطبيقيا؛ نظريا، سوف يتحد البروليتاريون ليواجهوا البرجوازيين، ولنفترض أنهم انتصروا وابتلعت البروليتاريا البرجوازية، فلن يعود أمامها خطر تخشاه وتتحد لتواجهه، بل الأدنى إلى المعقول أن الصراعات والمشاكل الخاصة بالبروليتاريا ستنشأ داخلها فتقسمها إلى طبقات من جديد، ثم إنه في حالة انتصارها سوف يقفز إلى السلطة قادة الحركة الثورية ويشكلون طبقة الحكام الجدد في المجتمع الجديد. إنه مجرد نوع جديد من الأرستقراطية والبيروقراطية. هذا ما تحقق في المجتمعات الشيوعية، ولوحظ البون الشاسع بين طبقة الحكام وطبقة المحكومين. (د)
تنبأ ماركس بأن تراكم فائض القيمة سوف يؤدي إلى زيادة بؤس العمال، زيادة في شدته أي في شدة بؤس العامل الواحد، وزيادة في مداه أي بؤس عدد أكبر من العمال؛ وأكد ماركس أن البؤس مادي وأيضا معنوي، فاستغراق العامل في عمله الشاق الذي يغترب عنه من شأنه أن يزيد من بلاهة العامل ومن تشويه قواه العقلية.
فهل حدث هذا؟ وهل زادت بلاهة العمال؟ كلا بالطبع، بل العكس تماما هو الذي حدث؛ جزء من فائض القيمة الآن يستغل في إقامة مجتمعات سكنية ونواد اجتماعية ورياضية وأنشطة ترفيهية للعمال. تطورت النظم التربوية الحديثة، وأصبح التعليم حقا لكل مواطن، برجوازي أو بروليتاري. وتفجرت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تشد الطبقات كلها في اللحظة نفسها للمادة الإعلامية الواحدة، ثم أتت ثورة المعلومات العظمى وثورة الإنترنت التي جعلتها متاحة للجميع بكبسة زر.
كل هذا فضلا عن الصورة التكنولوجية التي أدت إلى إنتاج بالجملة، فجعلت كماليات كثيرة - فضلا عن الأساسيات - في متناول كل الطبقات. والنتيجة هي نمو الوعي العمالي، وباتت طبقة العمال تسقط حكومات وترفع أخرى، وتطور التكوين الثقافي لطبقة البروليتاريا، ولدرجة لم يكن ماركس يحلم بها. (ه)
تنبأ ماركس بأن الشيوعية ستبدأ في أكبر الدول المتقدمة تكنولوجيا، وبالذات إنجلترا وألمانيا، والذي حدث هو عكس هذا تماما؛ فقد تحقق أول انقلاب شيوعي في دولة كانت متخلفة تكنولوجيا، هي روسيا التي استبعدها ماركس تماما على الرغم من علاقته بالمفكر باكونين (1814-1876م) ممثل الفكر الاشتراكي في البرجوازية الروسية، وأعقبت روسيا دولة أكثر تخلفا هي الصين. وفي الربع الثالث من القرن العشرين توالت انقلابات شيوعية في دولة متخلفة كاليمن الشمالية وأفغانستان. (و)
تنبأ ماركس باضمحلال الرأسمالية وبالتالي مجيء الشيوعية لتحل محلها، ولكن الرأسمالية التي عرفها ماركس وحللها هي رأسمالية عدم التدخل، أي الرأسمالية الحرة حرية مطلقة والتي لا تسمح بأي تدخل أو فرض قيود؛ فحتى لو تدخلت الدولة فهي - تبعا لنظرية ماركس - أداة البرجوازية ولن تتدخل إلا لحمايتها والإبقاء عليها. والأمر الواقع الذي كذب نبوءة ماركس هو أن مثل هذه الرأسمالية اختفت تماما فعلا، ولكن لم تكن الاشتراكية هي البديل الوحيد الذي حل محلها دائما. في معظم البلدان حل نظام الرأسمالية الخاصة المقيدة، أو نظام مختلط يجمع بين الملكية الخاصة والملكية العامة، وحتى في أكثر الدول رأسمالية تتدخل الحكومات بإرشاد والتوجيه والتخطيط والتحريم والإلزام، ومنح التسهيلات ورفع الجمارك والضرائب، وحماية حقوق العمال وشملهم بالضمانات والتأمينات الاجتماعية والمعاشات والتأمين ضد البطالة، بل أصبح للعمال حق الإضراب عن العمل وإجبار أصحاب رءوس المال على رفع أجورهم.
وكانت السويد هي التي قامت بأولى الخطوات الحاسمة في هذا الطريق حين حددت ساعات العمل بثمان وأربعين ساعة في الأسبوع. لقد عاش ماركس حتى رأى بعض الإصلاحات في أحوال العمال، لكنه لم ير في هذا تفنيدا لنبوءته، بل إيذانا بانهيار الرأسمالية.
وكان ماركس في هذا قصير النظر؛ فالتعديل التدريجي والحلول التوفيقية التي أنجزت الكثير وسوف تنجز الأكثر، لم تكن إلا تطويرا لشكل من أشكال الرأسمالية وإبقاء عليها. وإذا رأى العمال أنهم يستطيعون تحسين أحوالهم تدريجيا بالتطوير السلمي، فما الذي يدفعهم إلى المخاطرة بثورة دموية تدمر كل شيء؟!
هكذا كذب الواقع نبوءات ماركس، ليتضح أنها تحاول أن تتعلمن، وأن تجعل العلم التاريخي جدليا رغما عنه وعن الواقع التاريخي، وإذا كانت تنصب على تحليل عملية الإنتاج الاقتصادي، فقد كان يمكنها أن تقتصر على وصف ماضي تاريخ الإنتاج وليس مستقبله الذي يظل في عوالم الاحتمال، وبذلك تكون وظيفة المادية الجدلية هي إيجاد منهج نقدي للمجتمع المعاصر، ولا يمكن أن يكون ما قاله ماركس ذا قيمة إلا إذا كان قد كف عن التنبؤ بالمستقبل وعن تأكيد حتمية مجيء المجتمع الشيوعي اللاطبقي.
ديدن العلم هو الاختبار التجريبي، بمعنى أن نستنبط من النظرية ما يلزم عنها من نتائج وتنبؤات لنواجهها بالواقع التجريبي، فإذا كان ثمة تطابق ظلت النظرية حائزة للقبول، أما إذا كان ثمة تناقض فالنظرية في موقف حرج ويتم تركها أو تعديلها. وقد تناقضت تنبؤات الماركسية إلى كل هذا الحد مع الواقع والوقائع التاريخية، ثم تصدعت البقية الباقية من أركان ادعائها السمة العلمية بعد أن حل الاحتمال - في العلم المعاصر - محل الحتمية التي تقوم عليها الماركسية وتؤكد بها مجيء الشيوعية، حين حاولت أن تتعلمن كعلم عصرها، علم القرن التاسع عشر الذي كان حتميا.
إذن لم يستطع ماركس أن يعلمن التاريخ، ويعلمن مجيء الاشتراكية، أي لم يستطع أن يكون عالما ناجحا؛ فهل استطاع أن يكون فيلسوفا ناجحا؟
ثانيا: نقد الماركسية من حيث هي نظرية فلسفية
انتهينا من نقد الماركسية من حيث هي نظرية علمية، أي بوصفها نظرية ذات مضمون معرفي ومحتوى إخباري عن الواقع، يمكننا من التنبؤ بمقبل أحداثه، واتضح أنها حاولت أن تكون علمية ففشلت، وعلينا الآن أن نناقشها على الأرض التي بقيت لها، أي من حيث هي نظرية فلسفية.
إذا كان النقاش أو بالأحرى الاختبار العلمي التجريبي يعتمد أساسا على الواقع والوقائع، فإن النقاش الفلسفي لا يعول كثيرا على هذا. ليس يحط من قدر النظرية الفلسفية أنها لا تنطبق على هذا العالم الفج المضطرم؛ فالفلسفة سوف تعنى دائما بتصور ما ينبغي أن يكون، وربما تترك ما هو كائن للعلم.
لكن ما هو إذن معيار النقاش الفلسفي والحكم على منازل النظريات الفلسفية؟ المعيار الفلسفي يتكون عادة من شقين؛ الأول هو الاتساق أي اتساق النظريات مع نفسها ومسلماتها وقواعد منهجها، ومع مقولات المنطق ومقولات التفكير بعامة . أما الشق الثاني فهو قوة البرهنة والتدليل، فليس يجوز في الفلسفة إلقاء القول على أعنته وفرض الفروض جزافا، ولا يحق البتة للفيلسوف أن يطرح قضية ليست بديهية واضحة بذاتها ويطلب منا التسليم بها، ما لم يكن قد أتى بالمسوغات الكافية والبراهين المثبتة لها. وحين نناقش الماركسية من هذا المنظور سنجد أنها وقعت في تناقضات كثيرة وزلت قدمها في مواطن عدة.
فأولا: تعتمد الماركسية على الزعم بالحتمية التاريخية، أي القول إن التاريخ يسير في مسار محتوم يمكن قولبته في مراحل أو أنماط أو إيقاعات - هي مع ماركس مراحل جدلية - ومن ثم يمكن التنبؤ به؛ وهذه فكرة قديمة وعتيقة، معروفة منذ أيام هيزيود وهيراقليطس وأفلاطون وفكرة اليهود عن مآل شعب الله المختار، ولم تنقطع أبدا من تاريخ الفلسفة، وظلت مستمرة حتى يومنا هذا، مع فيكو وبوسويه وكوندرسيه وهيجل وشبنجلر وتوينبي ... وغيرهم؛ وعلى الرغم من هذا ومن مرور عشرات القرون من عمر البشرية، لم نجد لها دليلا واحدا مؤيدا أو برهانا مثبتا، فضلا عن انهيار دعاوى الحتمية تحت معاول العلم المعاصر، معاول النسبية والكوانتم، فلماذا يتصور ماركس أن العلم الاجتماعي بالذات هو القادر على تحقيق حلم العهود القديمة بالكشف عما يخبئه لنا المستقبل؟ وأن يحل محل الكهنوت وإنجيل العهد القديم في التنبؤ بمسار التاريخ ومآل البشر؟ ولما كانت نبوءات ماركس لم تتحقق، كان هو إذن نبيا زائفا.
ثم إنها - أي حتمية ماركس التاريخية - جعلته يتناقض مع نفسه ومع قوله الشهير: مهمة الفيلسوف تغيير العالم لا فهمه. فإذا كان التاريخ محددا سلفا بحتمية قاطعة، فكيف يمكن التغيير؟
إن التغيير سوف يقتصر على التعجيل بمجيء المجتمع الشيوعي الآتي حتما، وليس هذا تغييرا حقيقيا؛ كل ما فعله ماركس أن وضع أمامنا بديلين؛ إما أن يبقى العالم طويلا في فوضى ونزاع وصراع، وإما أن يتحد العمال ليقيموا ثورة دموية تعجل بمجيء الشيوعية، وبالطبع ليس من المعقول أن يختار أحد الاحتمال الأول ، هذا بالإضافة إلى الوسائل الدعائية الإعلامية اللاعقلانية لدرجة تمجيد العنف الذي أحاط بها ماركس الاحتمال الثاني . لقد كان ماركس متناقضا مع نفسه بوصفه فيلسوفا عقلانيا حين مجد العنف والحرب الأهلية التي قد تؤدي إلى دمار وخراب شامل، وإلى التضحية بجيل الثورة من أجل أجيال لم تأت بعد، بل ومن أدرانا أن العنف سوف يتمخض عن صالح هذه الأجيال المقبلة؟! الأدنى إلى المعقول أن يؤدي إلى ضياع الحرية وإلى حكم لا يساير العقل، حكم الرجال الأقوياء قادة الثورة الناجحين. ثم إن قهر الطغيان بالعنف يؤدي إلى طغيان آخر، كما بينت الانقلابات التي كانت تحدث كل يوم في البلدان النامية.
ولما كانت الحتمية تلغي أي دور للإرادة الإنسانية، كانت حتمية ماركس تجعله يتناقض أيضا مع نفسه من زاوية أخرى، مع قوله الشهير: «يا عمال العالم اتحدوا!» لكي يخططوا للثورة؛ فاتحاد البروليتاريا من أهم المقدمات الأساسية التي استنبط منه حتمية مجيء الشيوعية.
غير أن الحتمية التاريخية - كما هو معلوم بعامة وكما يؤكد ماركس بخاصة - تعني أن مسار التاريخ مستقل عن إرادة الإنسان؛ فهو محكوم فقط بعلاقات الإنتاج، ولكن ليس هناك اتحاد وتخطيط من دون تدخل عنصر الإرادة الموجهة، فضلا عن أن الاتحاد يعني العقل والصحوة، والعقل المخطط المدبر؛ وإذا تذكرنا أن هذا سيأتي نتيجة لتفاقم بؤس العمال وازدياد بلاهتهم وتشويه قواهم العقلية، أدركنا كيف تناقض ماركس في تنظيره للثورة الاجتماعية.
ثم إنه رأى أن أية ثورة اجتماعية ستؤدي بالضرورة إلى الشيوعية أو بالأحرى تعجل بها، وليس هذا صحيحا، فمثلا ثورة إيران لم تؤد إلى الشيوعية.
وماركس له نظرية أخلاقية، خلاصتها أن ثمة نمطين للأخلاق، أحدهما في صالح البرجوازية يؤدي إلى حفاظ على الوضع القائم عن طريق تمجيد الملكية والتفاوت الطبقي
الطبقي وساعات العمل القليلة لمزيد من الحرية ونبذ الملكية وتراكم فائض القيمة (الأخلاق اليسارية). ويؤكد ماركس على قضية مفادها أن كل بورجوازي يعتنق القيم البرجوازية اليمينية، وكل بروليتاري يعتنق القيم البروليتارية اليسارية، وليس هذا صحيحا دائما، وماركس نفسه برجوازي لكنه يعتنق القيم الاشتراكية مثله في هذا مثل كثير من أنصار الاشتراكية نظريا وتطبيقيا. وهذا الحكم الماركسي تعميم بغير مبرر لتأثير الوضع الاجتماعي على قيم الإنسان، والإنسان ليس نتاجا لطبقته فقط كما يزعم ماركس؛ فثمة مؤثرات عديدة تشكل شخصية الإنسان وقيمه.
إن التفسيرات الماركسية دائما تعميم لجانب واحد وإغفال لبقية الجوانب؛ فكيف يتصور أن الاقتصاد هو المؤثر الوحيد على حركة التاريخ؟! والواقع أن هناك عوامل أخرى لها تأثير أقوى، كالدين الذي ظل العامل الأساسي لنشأة الحضارات وازدهارها وأفولها وقيام الإمبراطوريات وسقوطها طوال العصور الوسطى، وكالعلم وهو السبب الأساسي للثورة الصناعية التي أدت إلى بؤس العمال وأيضا إلى الاستعمار.
وكما أوضح كارل بوبر، العلاقات متداخلة بين الظروف الاقتصادية وبين المعرفة، ويستحيل أن نرجع الأولى (= الظروف الاقتصادية) ببساطة إلى الثانية (= المعرفة). وإن كان يمكن أن نرجح كفة الأولى على الثانية؛ فلو تحطمت كل وسائل الإنتاج وبالتالي انتهت علاقاته، وبقيت لدينا المعرفة، لأمكننا أن نقيم الحياة الاقتصادية ثانية. أما لو اختفت المعرفة تماما وجاءت قبيلة بدائية بكل احتياجاتها المادية والاقتصادية، فلن تستطيع أن تقيم حياة اقتصادية كتلك التي كانت في كنف معرفة متقدمة. المعرفة إذن - وليس الاقتصاد - هي العامل الأكثر حسما وهي البناء التحتي للحياة الاجتماعية.
وبكل هذا الركام من الأخطاء يشكل ماركس أيديولوجية صارمة لمجتمع مغلق، أيديولوجيا تحدد سلفا أسلوب حل كل المشاكل ومواجهة كل المواقف، فلا يقبل المجتمع أية ديمقراطية ولا تبادل آراء ولا حتى محاولة التوصل لحل أصيل مرن لمشكلة طارئة.
إن الماركسية نظرة كلية، تفترض أنها بضربة واحدة - هي الثورة الدموية - ستقلب التطور التاريخي إلى المرحلة اليوتوبية الشيوعية، التي يتصور ماركس أنها نهاية التاريخ وخاتمة العالم.
وعلى هذا نتفهم سر دعوى «نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما التي ترددت وعلا صيتها في العقد الأخير من القرن العشرين، فقد كان الاتحاد السوفيتي أقوى وأمضى تمثيل لتطبيق النظرية الماركسية، وتمثيلا عينيا للسير في طريقها؛ وشهد النصف الثاني من القرن العشرين استعار أوار الحرب الباردة بين اليمين وتمثله رأسمالية وليبرالية الولايات المتحدة الأمريكية والسائرون في فلكها، واليسار وقد انبرى له الاتحاد السوفيتي والسائرون في فلكه، الزاعمون أن المستقبل ملك لهم، أوليست الشيوعية آتية لا ريب فيها؟! وعلى حين غرة انهار الاتحاد السوفيتي، فخرج فرنسيس فوكوياما - المفكر الأمريكي اليميني المتشدد ذو الأصول اليابانية - ليعلن أن هذا هو النصر المؤزر لليمين الليبرالي والقضاء المبرم على غريمه اليسار الاشتراكي، مما يعني أن نهاية التاريخ لن تكون الشيوعية كما زعم ماركس بل هو تلك الليبرالية والرأسمالية التي تجدد نفسها، والإصلاحات المتوالية.
لسنا الآن بصدد مناقشة فوكوياما الذي تثير رؤيته حفيظة العقلاء؛ لأن التاريخ ببساطة لم ينته بعد، غير أن الإصلاح مثل النقد من الأفضل أن يكون على مراحل وقائما على أساس هندسة اجتماعية جزئية تتعامل مع المؤسسات الاجتماعية كل على حدة، بالأسلوب الذي يناسبها، وليس بأسلوب محدد سلفا. الاتجاهات الكلية التي تريد الإصلاح بضربة واحدة قاصمة فاصلة قد لا تصلح شيئا، وقد تؤدي إلى خراب أو فساد شامل، ثم إن النزعة الكلية الاجتماعية مستحيلة منطقيا، فكل تحكم جديد في العلاقات الاجتماعية من شأنه أن يخلق مجموعة جديدة من العلاقات الاجتماعية التي تحتاج هي الأخرى إلى التحكم فيها، وهكذا في سلسلة بغير نهاية؛ لذلك أعلن فلاديمير إيلتش لينين القائد السوفيتي المبرز أن الحزب الشيوعي السوفيتي بمجرد أن تولى السلطة لم يجد في النظرية الماركسية أية تكنولوجيا اجتماعية أو خطط للإصلاح الاجتماعي، فكل بحوث ماركس كانت مكرسة لخدمة نبوءاته التاريخية التي فشلت. •••
ولكن مهما اختلفنا مع ماركس، ومهما كان وضوح الأخطاء في النظرية الماركسية ومواطن الزلل فيها، فإن أحدا لا يستطيع إنكار أن ماركس كان واحدا من أعظم أقطاب الفلسفة، وأن هناك الكثير مما يسجل له.
حاول مخلصا أن يطبق المنهج العلمي العقلاني على أكثر مشاكل الحياة العملية إلحاحا، كانت رغبته متأججة لمساعدة المطحونين المقهورين، وبإخلاص نادر بذل حياته قولا وفعلا من أجل تحسين أحوالهم، ضرب عرض الحائط بفرص حياة عريضة كانت مفتوحة أمامه غير نادم ولا آسف، ولم يلق من دعوته إلا العنت والفاقة التي تسببت في موت نفر من بنيه.
وحين هاجر إلى لندن هربا من الاضطهاد الذي لاقاه في وطنه ألمانيا وفي أوروبا عموما، كان يستجدي من رفيقه وتابعه الوفي فردريك إنجلز رجل الأعمال الثري، وأحد أقطاب صناعة النسيج في معقلها آنذاك، في بريطانيا. أما ماركس فقد كان شغله الأول مكتبة المتحف البريطاني، يقضي فيها جل ساعات يومه بلا ملل ولا كلل، قرأ بنهم محموم كل ما وقع في يديه من بحوث ومراجع وهوامش، ربما كما لم يقرأ أحد مثله، وليس هذا غريبا من شخصية جبارة مثله. كان قد درس التاريخ والفلسفة في جامعة برلين، وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة برسالة موضوعها أكاديمي خالص هو: «المذهب المادي بين ديمقريطس وأبيقور». وبتأثير من المحامي المثقف أوستفالن - والد زوجته المحبوبة - اطلع بحماس على الآداب الكلاسيكية القديمة والفكر الإنساني، ولما انتقد عام 1840 لأنه يحاول تنظيم الاقتصاد وتخطيطه في حين أنه لم يدرس الاقتصاد بما يكفي، انكب بعزيمة حديدية على دراسته ثماني سنوات، فلما جاء العام 1848 كان ماركس أعلم علماء عصره بالاقتصاد.
وهو في كل هذا لم يكن يرى في المعرفة إلا وسيلة لدفع تقدم الإنسان وتحسين أحواله، أحوال الكادحين؛ وإن كان مسار التاريخ قد أثبت أن ماركس أخطأ أكثر مما أصاب.
هذا عن ماركس، أما عن ماركس الفيلسوف فإن الحديث يطول، ويكفي أنه قلب النظرة الوضعية الإستاتيكية للمجتمع والتاريخ، وعلمنا أصول النظرة الحركية الديناميكية التي تنظر إلى مسار التاريخ الإنساني من حيث التغيرات الحدية فيه.
ولا شك أن ثمة مثلا عليا لا ينكرها إلا مكابر منغلق على ذاته غير مبال بالصالح العام، كالعدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروات في المجتمع وتحقيق التقارب الطبقي والحياة الكريمة للجميع مهما كانت أعمالهم ومهما تواضعت قدراتهم، وتقديس قيمة العمل كحق للجميع وواجب عليهم وشرف لهم، ونبذ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ... إلخ، وهي مثل قد تتحقق في المجتمع الاشتراكي أكثر مما تتحقق في المجتمع الرأسمالي الليبرالي، ولا شك أيضا أن ماركس فعل لهذه القيم ما لم يفعله سواه، وأنه جعل الاشتراكية من أهم نقاط التحول في مسار التاريخ البشري الحضاري والفكري، ومن أهم تيارات الفلسفة في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ولكن حين ننشد تحقيق مثل تلك القيم وتحقيق المجتمع الاشتراكي، لم يعد واردا الآن أن نتبع كارل ماركس الذي رحل عنا منذ أكثر من مائة عام، باعا بباع، ولا تزال هناك تيارات اشتراكية متبصرة تفعل فعلها في واقعنا المعاصر، كالاشتراكية الفابية والاشتراكية الديمقراطية والماركسية المعدلة المتطورة دائما في الصين، إنها تيارات متبصرة واعية لمتغيرات الواقع وأخطاء المثال.
لقد تراجعت الليبرالية المعاصرة عن كثير من تطرفها اليميني، مثلما تراجعت الاشتراكية الآن عن كثير من تطرفها لتصب فيما يعرف الآن بالطريق الثالث، وفي هذا يحق لنا اعتبار فكرة الهندسة الاجتماعية التي طرحها كارل بوبر - كفلسفة للتنظير وللتخطيط السياسي - كانت من الشعاب الممهدة حقا لتؤدي إلى هذا الطريق الثالث.
ولا غرو أن يمهد كارل بوبر الطريق الثالث؛ فهو فيلسوف الليبرالية البارز الذي ما فتئ يؤكد أن القيم الاشتراكية بمعية قيم التنوير هي أنبل ما حملته الفلسفة، وقبل وفاته بعامين قال إنه دائما اشتراكي، بمعنى إحساس العاقلين بالمسئولية تجاه الآخرين الأقل منهم حظا ونصيبا في الحياة، بيد أن البشر للأسف لا تحركهم مثل هذه الدوافع النبيلة، ومع ذلك يظل بوبر من أبرز فلاسفة الديمقراطية الليبرالية في القرن العشرين.
والسؤال الآن كيف تمهد الهندسة الاجتماعية الجزئية ذلك الطريق الثالث.
الهندسة الاجتماعية الجزئية طريق ثالث
لئن كان كارل بوبر (1902-1994م) هو فيلسوف العلم ومناهج البحث الأول، فإنه يشتهر أكثر بوصفه فيلسوف المجتمع المفتوح، الذي يمثل واحدة من أنضر صور الديمقراطية الليبرالية؛ ونظرا لسعة مجال السياسة وشيوع جمهورها، فقد حاز بوبر شهرته أساسا من كتابه «المجتمع المفتوح وخصومه» في جزأين (1945م)، الذي طبق الخافقين وترجم إلى أكثر من عشرين لغة، من بينها العربية، ولقي اهتماما واسع النطاق في مجالات ومستويات مختلفة.
اقترن اسم بوبر بالمجتمع المفتوح وصار عنوانا لفلسفته السياسية والاجتماعية، حيث التمثيل العيني لتطبيق منهج العلم العقلاني النقدي على مشكلات السياسة والاجتماع، حيث ممارسة العقلانية النقدية في الفلسفة السياسية كي تكفل للمجتمع طريقا للتقدم مثلما تكفل للعلم تقدما مطردا. تنعكس إيجابيات المنهج العلمي ها هنا في صورة مجتمع مفتوح للرأي والرأي الآخر، ليفوز الحل الأقدر والرأي الأرجح، ويكون الانتقال من المشكلات إلى حلولها في إطار ديمقراطي، ولا أحد يمكنه الزعم بامتلاك الحقيقة، ليصب المجتمع داخل إطارها ويقود الآخرين كالقطيع. لا بد من إفساح كل مجال للرأي والرأي الآخر، ليتغلب الرأي الأقدر على حل المشكلة، وهذا يستلزم الديمقراطية والتعددية والمناقشات النقدية والعقلانية والتسامح؛ باختصار: المجتمع المفتوح، وينقض كل دعاوى الديكتاتورية والانفراد بالرأي والتعصب والتطرف ويستحيل معه صب المجتمع داخل الإطار الشمولي والنسق الموحد؛ لأن هذا مجاف لمنطق العلم ومنطق الواقع ومنطق التاريخ، سواء أكان هذا النسق الشمولي الموحد هو الماركسية أو سواها.
ويمكن القول إن كتاب «المجتمع المفتوح»، وبشكل خاص الجزء الثاني منه، هو أصلا وفروعا نقد للنظرية الماركسية، واعتبره كثيرون أقوى نقد وجه للماركسية.
وفي هذا نلاحظ أن بوبر في إطار نقده للماركسية وللمجتمع المغلق إجمالا، كانت أهم الجوانب التي حاربها بشراسة هو ما تنطوي عليه الماركسية من نزعة يوتوبية كلية؛ النزعة الكلية تتناقض مع النزعة العلمية تناقضا حادا؛ افترضت الماركسية أنها بضربة واحدة - هي الثورة الدموية - سوف تقلب التطور التاريخي إلى المرحلة اليوتوبية والجنة الموعودة للكادحين؛ وهذا في جوهره مواصلة لمسيرة الفكر اليوتوبي الذي يطرح تخطيطا كليا للمدينة الفاضلة أو جلب السماء إلى الأرض، صارفا الأبصار عن الطابع المرحلي لكل بناء معقد، وعن مشاكله التي يتولد عن حلولها مشاكل أخرى غير متوقعة، كما يعلمنا منهج العلم وأصول التفكير العلمي.
وإذا كان التفكير الرومانتيكي هو نقيض التفكير العلمي، فإن هذا المنزع الكلي نحو عالم أفضل إنما هو نوع من «الرومانتيكية الصريحة، بحث عن المدينة المثالية ككل متكامل في الماضي أو في المستقبل».
ربما كان البحث عنها في الماضي أكثر حضورا في واقعنا نحن. في كلتا الحالتين يرى بوبر أن: «عودوا على الماضي المجيد» أو «سيروا نحو مجتمع العدالة الاجتماعية» نداءات إلى العواطف أكثر منها إلى العقل، طابعها الكلي يستلزم إحكام قبضة الاتجاه الواحد والرأي الموحد على المجتمع بأسره، وغلق الأبواب أمام الرأي الآخر وإخماده، وبالتالي لا مندوحة عن أساليب القهر والقسر والعنف. ومع أخلص نواياهم بصنع جنة السماء على الأرض، لا يفلحون إلا في جلب حدود الجحيم؛ لأنه الواقع المضطرم الحي الذي يأبى الانصياع بسائر جزئياته المتكثرة والصب في إطار هندسة كلية شمولية أيا كانت، ليأتينا بكل ما نريد جملة وتفصيلا.
ولكن هل يعني هذا أنه لا سبيل إلى البحث عن عالم أفضل؟
كلا بالطبع، بل يمكن القول إن البحث عن عالم أفضل هو حادي مجمل الجهد الواعي العاقل للإنسان (لبوبر كتاب عنوانه «بحثا عن عالم أفضل») وينبغي أن يظل هكذا، وأن نعمل دائما على تغيير الأوضاع من أجل درء المثالب وحل المشكلات التي تواجه المجتمع والاقتراب دوما من الأهداف المنشودة والمثل العليا، ولكن لا يكون هذا بالأسلوب الكلي الشمولي، والتخطيط المركزي الذي يحكم قبضته على المجتمع المغلق، بل عن طريق ما أسماه بوبر بالهندسة الاجتماعية الجزئية
Social Piecemeal Engineering
المتسقة مع ليبراليته؛ فما هي الهندسة الاجتماعية الجزئية؟ •••
الهندسة الاجتماعية على إطلاقها تعني إنشاء النظم والمؤسسات الاجتماعية أو تكييفها وتعديلها وفقا لخطة مرسومة قبلا، أو بالمصطلح الأنيق نقول تبعا لمخطوطات زرقاء
blue prints
على أن الخطة أو المخطوطة يمكن أن تكون شمولية تنحو إلى قلب المجتمع بأسره من وضع إلى وضع، بصورة حدية متطرفة، بضربة واحدة، أو حتى بثورة دموية؛ وهذه هي الهندسة الاجتماعية الكلية التي رفضها بوبر بشدة.
في مقابل هذا، يمكن أن تكون الهندسة الاجتماعية جزئية؛ مخطوطات زرقاء أبسط وأضيق حدودا، مخطوطة تنصب مثلا على مكافحة البطالة أو مرض متوطن، أو تطوير نظام تعليمي ... إلخ. ولما كانت كل محاولة في واقع الإنسان لا بد أن يشوبها خطأ ما كما يعلمنا التفكير العلمي، فإن مخطوطات الهندسة الجزئية المحدودة تجعل الخطأ بدوره محدودا، درؤه أيسر، والخسران الناجم عنه أقل مخاطرة من المغامرة بتخطيط كلي.
إن الهندسة الاجتماعية الجزئية تتلمس الطريق خطوة خطوة، وتبحث عن أكثر المشكلات إلحاحا، يتبارى الرأي والرأي الآخر للوصول إلى أفضل الحلول، فتحل الديمقراطية محل القمع والديكتاتورية، نقارن النتائج المتوقعة بالنتائج المتحققة فعلا، نترقب على الدوام ظهور النتائج غير المرغوب فيها، والتي لا مفر منها في كل إصلاح بل وفي كل محاولة إنسانية. هكذا يحل التناول العقلاني المرحلي محل التحمس المشبوب والعنف والقسر. ونرفض كل دعوى بحتمية التاريخ - ماضيه ومستقبله - ليترك المجال مفتوحا للتعديلات والتصويبات وفق أية مستجدات في الواقع.
تلك هي الهندسة الاجتماعية القريبة حقا من روح المنهج العلمي بل أيضا من روح التقانة (التكنولوجيا)، حتى يمكن القول إنها الأسس العلمية للسياسة؛ فهي تتوقف على السياسة الواقعية الضرورية لتشييد أو تعديل أو تبديل المؤسسات الاجتماعية وفقا لأهدافنا، سوف تخبرنا بأي الخطوات هي التي يجب اتخاذها فعلا إذا رغبنا مثلا في تفادي الكساد لمؤسسة ما، أو عدالة توزيع الربح الناتج عن مؤسسة أخرى.
المهندس الاجتماعي هنا يتصور شيئا ما يشبه التكنولوجيا الاجتماعية من قبيل تصميم النظم والمؤسسات الاجتماعية الجديدة، وتشغيل وإعادة تركيب ما هو موجود فعلا. النظم الاجتماعية هنا تستعمل بمعنى واسع، فتشمل الهيئات الاجتماعية العامة والخاصة، أي عمل تجاري كبير أو صغير، شركات التأمين والمصارف، الشرطة، مؤسسات الخدمات التعليمية والصحية، الهيئات الدينية والقضائية والإعلامية ... إلخ، كلها تتناولها الهندسة الاجتماعية الجزئية بوصفها وسائل علينا أن نجعلها تحقق أهدافا معينة، ونحكم على كل منها على حدة تبعا لملاءمتها وقدرتها على تحقيق الهدف منها.
طرح بوبر تصوره للهندسة الاجتماعية الجزئية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في محتدم الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، فبدت كأسلوب ترقيع جزئي متواضع، عزف عنه المتحمسون من كلا الجانبين، التواقون للإصلاح والكمال ككل لا يقبل تجزئة؛ والآن اتضح أن طريقهم أكثر التواء وأبعد منالا، إن لم نقل مستحيل المنال. •••
كما ذكرنا، شهدت بدايات القرن العشرين انتهاء الرأسمالية المطلقة، رأسمالية «دعه يعمل، دعه يمر، إن العالم يسير من تلقاء نفسه» بلا أي توجيه أو تدخل من الدولة، إنها الرأسمالية التي كانت سائدة في عصر الثورة الصناعية وحاربتها الاشتراكيات الصاعدة آنذاك، وتنبأ ماركس بأفولها، وهذه هي نبوءته الوحيدة التي تحققت وإن لم تحل محلها الشيوعية كما زعم. على أية حال كان اختفاء تلك الرأسمالية المتطرفة أو تكييفها أو تعديلها تقدما إيجابيا بلا شك، وبوبر نفسه يعلن ارتياحه لانتهاء مثل هذه الرأسمالية.
ومثلما شهدت بدايات القرن العشرين انتهاءها، شهد العقد الأخير منه نهاية الاشتراكيات المتطرفة وانهيار الأنظمة الشمولية المغلقة باسم الاشتراكية في شرق أوروبا. لقد ثبت فشل التطرف من كلا الاتجاهين، اليمين واليسار على السواء؛ وتتقدم الهندسة الاجتماعية الجزئية حين تقنينها وصياغتها وتوجيهها وفق أهداف ومثل عليا، وتبدو حلا في متناول كل الأطراف، يصعب أن يستأثر بها أحد الطرفين، إنها فكرة عالجها فيلسوف ليبرالي اقترن اسمه بتطوير ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين في اتجاه خطوط الاشتراكية الديمقراطية التي ما فتئ بوبر يثني عليها.
لهذا نجد الهندسة الاجتماعية الجزئية التي عالجها فيلسوف ليبرالي قد أتت في جوهرها أقرب إلى الاشتراكية الديمقراطية، بل والاشتراكية الفابية التي عرفت كيف تزرع القيم الاشتراكية في صلب الحضارة الإنجليزية، معقل الرأسمالية، حيث ينازع حزب العمال حزب المحافظين ويتغلب عليه كثيرا ويمسك بزمام الحكم.
وفي هذا نلاحظ أن زعماء كلا الحزبين الأكبرين في بريطانيا يقرون بأنهم متأثرون ببوبر الذي هو أشهر وأهم فلاسفة إنجلترا المعاصرين، وبفلسفته السياسية والاجتماعية التي يرونها أول تطوير حقيقي وتغيير لمسار الليبرالية منذ وفاة جون ستيوارت مل، أيضا في إنجلترا العام 1873م.
إنهم الآن يتحدثون كثيرا عن الطريق الثالث، بعد ما رأيناه من أفول التطرف الرأسمالي اليميني والتطرف الاشتراكي اليساري على السواء، وظهر مصطلح الطريق الثالث وكاد يفرض نفسه حتى ظهور مصطلح العولمة كغول ينذر بابتلاع كل ما عداه، وذي صخب عال يطغى على كل ما سواه؛ ودون أن ندور في متاهات العولمة، نكتفي بإيجابيات التفكير العلمي وقد تمثلت في الهندسة الاجتماعية الجزئية، كآلية فعالة في صلب الطريق الثالث، الذي يبدو طريقا مربحا لكلا الجانبين.
ثانيا: الاستعمارية وما بعد الاستعمارية
الاستعمارية
وجه قبيح لليبرالية الغربية
رأينا لوك يرفع شعاره الشهير: «الحياة، الحرية، الملكية» الذي يلخص مبادئ الليبرالية، وكان بهذا يؤكد على اعتبار سوف يصبح من أهم أسس الليبرالية، وهو العلاقة بين الحرية الشخصية والملكية الخاصة؛ فالاعتراف بمجال خاص (= مجال الملكية الفردية) يستقل فيه الفرد دون تدخل يتطلب أن تتوزع الملكيات ولا تتركز في يد واحدة، ولو كانت يد الدولة. هكذا رأت الليبرالية أن الحرية تتطلب تنوع الملكيات، لتصبح الملكية شرطا لحرية الأفراد.
والواقع أن الملكية في الليبرالية ليست شرطا للحرية بل هي الحرية ذاتها، أو هي بتعبير هارولد لاسكي الذي يجسد به الليبرالية الأمريكية المعاصرة: الملكية هي الحرية التي تحققت.
هكذا حين رفع لوك الشعار «الحياة، الحرية، الملكية» كان يبلور خلاصة الليبرالية وهي أن الإنسان هو المالك الوحيد لحياته، ولامتدادها الذي هو العمل، والعمل يتجسد ناتجه في ملكية خاصة هي التمثيل العيني للحرية، فتكون غاية الحكومة هي الحفاظ على الملكية الخاصة، ويغدو الوطن فقط لأصحاب الضياع والعقارات ومن يملكون. أما الأجراء الذين لا يملكون غير قدرتهم على العمل، فقد أكد لوك في أكثر من موضع أنهم ناقصو الأهلية والتعقل، ولا يمكن أن يشاركوا في الحياة السياسية ولا في حقوق المواطنين وحرياتهم؛ فما شأنهم بالوطن ما داموا لا يملكون فيه شيئا؟! وهكذا حيث لا ملكية فلا حرية ولا مواطنة ولا إنسانية؛ فكان من الطبيعي أن يتنامى الفكر الاشتراكي فيما بعد ليدافع عن حريات وحقوق ومواطنة الذين لا يملكون.
حرية الذين يملكون هذه تجعلنا لا نصدق ببساطة على زعم الليبرالية أنها مذهب الحرية وأقوى المدافعين عن حرية المواطن أو حرية الإنسان من حيث هو إنسان؛ ولا غلو إذا قلنا إن حرية الإنسان وكرامته هي هدف الفلسفة السياسية الحديثة أصلا وغايتها جملة وتفصيلا، كل مذهب من مذاهبها يحاول تحقيق هذا الهدف من الزاوية التي اتخذها ومن المنظور الذي تبدى له، الكل يحاول، وليس الكل يصيب، ولكن جميع مذاهبها تنطلق صوب هذا الهدف.
ورب معترض: حتى الفاشية والنازية؟!
أجل حتى الفاشية والنازية؛ فالأولى أي «الفاشية» لم تقتنع بحرية وكرامة لمواطن في وطن ضعيف مقهور، فانشغلت بعزة الدولة انشغالا أعماها عن عزة الفرد، لتقع في الخطأ التقليدي، خطأ الوسيلة التي تلهي عن الغاية.
أما «النازية» فلم ترفع الدعوة بسيادة الجنس الآري وتحقير الجنس السامي إلا حين أمعنت الدولتان الليبراليتان الكبريان إنجلترا وفرنسا في مدهما الاستعماري واقتسام المعمورة فيما بينهما وكأن العالم ملك لهما وحدهما، فانطلقت الصرخة الألمانية النازية: نحن هنا! جعلها الضغط الليبرالي الاستعماري من أمام ومن وراء صرخة هوجاء رعناء غير متريثة الخطى أو مأمونة العواقب.
وبطبيعة الحال ليس يعنينا الآن محاكمة النازية والفاشية، بل يعنينا لفت الأنظار إلى حقيقة كشمس الجنوب مشرقة ومحرقة، وهي أن «حركة الاستعمار» كانت من الثمرات اليانعات لليبرالية، وكوابح الاستعمار التي رانت على الكواهل هي الأيادي البيضاء لليبرالية الغربية على العالم الذي أصبح ثالثا، المواطن فيه إنسان من الدرجة الثالثة.
ومن منطلق موقعنا في العالم الثالث الذي ذاق الأمرين - ولا يزال - من وبال الاستعمار والتبعية للغرب، لا نستطيع أن نغض النظر عن هذا الوجه القبيح لليبرالية، حين نتطلع إلى الاستفادة من إيجابيات الليبرالية أو وجهها الجميل.
على هذا يكون التفهم العميق لليبرالية حين نضعها داخل أطرها الأوروبية لننتبه إلى أن ما يميز الليبرالية حقا ليس الحرية والكرامة، بقدر ما يتمثل في أنها - كما رأينا - صيغت أولا كواقع أوروبي، ثم صيغت لاحقا كنظرية، لعل هذا هو مكمن قوتها، فهي بعكس النظريات الاشتراكية والماركسية التي هي صياغة للنظرية أولا ثم بحث عن تطبيقها؛ لذلك قيل إن اليمين الليبرالي هو فلسفة الأمر الواقع، وانتصاره على غريمه الاشتراكي هو نهاية التاريخ؛ وإذا كانت الديمقراطية القائمة على العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين هي أهم الإيجابيات، فإنها ليست حكرا على الليبرالية أو صنيعتها بقدر ما كانت اتجاه العصر الذي قامت الليبرالية بالتنظير له. وأهم فلاسفة العقد الاجتماعي جان جاك روسو قد شن حملة شعواء على قدس أقداس الليبرالية: الملكية الخاصة.
كان نمو النظرية الليبرالية، منذ أن بدأت دفاعا عن طبقة صغار الملاك الناشئة حديثا مرورا بليبرالية التجاريين والفيزوقراطيين في فرنسا ورأسمالية عدم التدخل والاقتصاديين الكلاسيكيين، هو ذاته تطور الحضارة الغربية الحديثة منذ انهيار الإقطاع وازدهار الحياة في المدن وظهور البرجوازية «وصولا إلى مرحلة الثورة الصناعية وانفجار المد الاستعماري وما تلاه من صنوف التبعية للغرب». إن الاستعمار هو الوجه القبيح لليبرالية.
لقد كانت الفترة منذ نهاية حروب نابليون بونابرت عام 1815م حتى قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م هي أظهر فترات الحكم الليبرالي خاصة في إنجلترا، وهي ذاتها الفترة التي اجتاح فيها الاستعمار عالمنا الثالث كمهمة اضطلعت بها الدول الليبرالية، إذ أفرزتها آليات الليبرالية؛ وأكدتها أهداف الليبرالية وباركها أقطاب الليبرالية.
وحتى مع جون ستيورات مل وكتابه الرائع «في الحرية» الذي يعد تاج الأدبيات الليبرالية، نجد أن مل نظرا لموقعه الشخصي في شركة الهند الشرقية يندد باحتلال الهند، ومع هذا يفسح صفحات في كتابه المذكور ليدافع عن حق وواجب الدول المتقدمة في احتلال الدول المتخلفة؛ لأنها بمثابة القاصر!
إذ كان من الضروري أن يتجه الفكر الإنجليزي - الليبرالي جدا - بمجامع نفسه لتأكيد المد الاستعماري، طالما أنه يؤمن مصادر المواد الخام للصناعات الغربية وفتح الأسواق لمنتجاتها، والحيلولة دون ظهور صناعات تزاحمها في البلدان المتخلفة التي لا بد وأن تبقى هكذا، لينفتح المجال على مصراعيه - فقط في عالمهم الغربي - للمبادرة الفردية وهامش الربح والتنافس الخلاق ... إلى آخر مثاليات الاقتصاد الليبرالي، الذي تهدف سياساته إلى تأكيد حقوق الإنسان، فقط الغربي أو الأبيض. أما إنسان الدول المحتلة، في الهند أو مصر أو الجزائر ... إلخ، فلم تتوان الدول الليبرالية عن سحب كل حق له - فضلا عن حق وطنه - في الحرية والاستقلال والكرامة، والحياة أحيانا، كما في حالة شهداء حركات وحروب التحرير. وسلاما على عبد الحكم الجراحي طالب جامعة القاهرة - جامعة فؤاد الأول آنذاك - الذي قضى نحبه من التعذيب في سجون الاحتلال الإنجليزي فقط لأنه قاد مظاهرة تنادي بأن تكون مصر حرة مستقلة.
والآن يبدو طبيعيا جدا ومتوقعا أن تنزع الولايات المتحدة الأمريكية اليوم إلى الاضطلاع بالدور الذي قامت به إنجلترا وفرنسا بالأمس، وهو السيطرة على مقدرات العالم وتنظيمه وتوجيهه بما يتفق مع مصالح الغرب، وطبقا لآليات العصر طالما أن أمريكا قد ورثت عن إنجلترا وفرنسا عرش الليبرالية.
وبالمثل حين اندفعت الليبرالية الغربية لتأسيس المشروع العنصري الإسرائيلي، والعمل على تكريس تفوقه وبقائه، فإنه يستوي في تبرير موقفهم هذا أن إسرائيل حاملة لواء الديمقراطية الليبرالية في الشرق الاستبدادي المتخلف، أو أنها أقوى وأبهى إنجازات المشروع الاستعماري وأعلى أشكاله.
فتجلجل الصيحة بحقوق الإنسان في الانتقال والإقامة حيث يريد، ليكتسب أي شخص في العالم - عدا الفلسطينيين المكدسين في مخيمات البؤس - حق الإقامة في فلسطين! طالما انتمى لشراذم اليهود. ولا تقلق حقوق الإنسان الليبرالية قيد أنملة ولا تغير توجهاتها لتكسير عظام الفلسطينيين وتعذيبهم وهدم منازلهم وطردهم من أراضيهم، طالما أن في هذا ما يؤكد الأهداف النهائية للحضارة الغربية ومدها الاستعماري، أي تأكيد هيمنة المشروع الحضاري الغربي كمشروع أوحد، وهو ما بات قاب قوسين أو أدنى مع تصاعد صيحات العولمة. •••
على أية حال يظل التقدم المتوالي خاصة من خصائص الحضارة الإنسانية، وليس اليوم كالأمس أبدا، وبالتالي ليس وضع الاستعمارية الغربية اليوم كما كانت منذ قرنين ماضيين، على الرغم من وجود بعض امتدادات وانعكاسات لها مع الإمبريالية الأمريكية وتصاعدها البشع مع المحافظين الجدد.
لقد كانت نهاية الحرب العالمية الثانية لحظة فارقة في تاريخ المشروع الاستعماري الغربي الأوروبي، لتعلن إفلاسه. وفي أعقاب هذه الحرب وكنتيجة لها خرجت الدولتان الاستعماريتان الكبريان إنجلترا وفرنسا متهالكتين غير قادرتين على مواصلة الزحف الاستعماري. ومن الناحية الأخرى تعاظم شأن حركات التحرير والمد القومي في الدول المحتلة.
وتزامن مع هذا تصاعد النقد الموجه لقيم الحداثة الغربية والتنوير. لم تعد الحداثة كما كانت قبل الحرب، مسلما بها بوصفها طريق التقدم الواحد والوحيد والتمثيل العيني لكل إيجابيات الحضارة الإنسانية.
ومن ثم شهدت الفلسفة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين تيارات دأبت على نقد قيم الحداثة والتنوير وإعلان أوان انتهائها أو إفلاسها، والبحث عن طريق آخر ومنظومة قيمية أخرى، تعرف هذه التيارات باسم تيارات ما بعد الحداثة.
وفي إطار نقد الحداثة وصياغة توجهات ما بعد الحداثة شهدت الفلسفة الغربية دعاوى نبيلة صادقة مع النفس ومع الواقع تنحو باللائمة على المشروع الاستعماري البائد وجرائمه، وتؤكد على ضرورة انتهاء تلك المرحلة التي كان الزحف الاستعماري الغربي يرسم خريطة العالم وشكل العلاقات بين الثقافات والحضارات. إنه عصر التحرر القومي والتسليم بحق كل الكيانات الحضارية في الوجود المستقل.
ولعل الفلسفة النسوية التي ظهرت في أوروبا وخصوصا فرنسا وأينعت وازدهرت في أمريكا إبان العقدين الأخيرين من القرن العشرين، من أبرز التيارات التي أتت في سياق ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية؛ وامتازت النسوية بحدة هجومها على الاستعمار وفضحها لزيف مزاعمه.
فما هي النسوية وكيف كانت فلسفتها السياسية فلسفة بعد استعمارية متقدة حقا؟
نموذج لفلسفات ما بعد الاستعمارية
الفلسفة النسوية
1
ما هي الفلسفة النسوية؟
في سبعينيات القرن العشرين ظهر لأول مرة ما يعرف بالفلسفة النسوية
Feminism
كإضافة حقيقية لتيارات الفكر الغربي، تقوم بشكل أساسي من أجل رفض المركزية الذكورية
Androcentrism
ورفض مطابقة الخبرة الإنسانية بالخبرة الذكورية واعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم والفلسفة والتاريخ والحضارة جميعا، وتجد النسوية لإبراز الجانب الآخر للوجود البشري وللتجربة الإنسانية الذي طال قمعه وكبته.
وفي هذا تعمل الفلسفة النسوية على خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية هرمية (هيراركية) سادت لتعني وجود الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع؛ امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الأشكال الاستعمارية والإمبريالية، وكما تقول لوريان كود: الظلم الذي نراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في معالجة شعوب العالم النامي. إنه تصنيف البشر والكيل بمكيالين.
وتعمل الفلسفة النسوية على فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء المتناغم الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازنا وعدلا. أمعنت الفلسفة النسوية في تحليلاتها النقدية للبنية الذكورية التراتبية، وتوغلت في استجواب قسمتها غير العادلة، وراحت تكسر الصمت وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل إنها تولدت عن عملية إعطاء أسماء لمشكلات لا اسم لها، وعنونة مقولات لا عناوين لها.
وبهذه النزعة النقدية المتقدة للوضع القائم في الحضارة الغربية ولمنطلقات التنوير والحداثة، تندرج الفلسفة النسوية في إطار ما بعد الحداثة
modernism-post
وما بعد الاستعمارية
colonialism-post
اللذين يستقطبان أقوى التيارات النقدية للحضارة الغربية.
ولئن كان ظهور الفلسفة النسوية إنجازا لافتا للحركة النسوية، فإن امتدادها إلى مجال الإبستمولوجيا وفلسفة العلم ضربة استراتيجية حقا أحرزت أكثر من سواها أهدافا للحركة النسوية والفكر النسوي، وجعلت الفلسفة النسوية استجابة واعية وأكثر عمقا للموقف الحضاري الراهن.
فقد كان العلم الحديث أكثر من سواه تجسيدا للقيم الذكورية، وأحادي الجانب باقتصاره عليها واستبعاده لكل ما هو أنثوي، فانطلق بروح الهيمنة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها واستغلالها مما تمخض عن الكارثة البيئية، واستغلال قوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى، وجاءت العولمة لتنذر بعالم يفقد تعدديته وثراءه وخصوبته. وتأتي فلسفة العلم النسوية لترفض التفسير الذكوري الوحيد المطروح للعلم بنواتجه السلبية و«تحاول إبراز وتفعيل جوانب ومجالات وقيم مختلفة خاصة بالأنثى، جرى تهميشها وإنكارها والحط من شأنها بحكم السيطرة الذكورية، في حين أنها يجب أن يفسح لها المجال وتقوم بدور أكبر، لإحداث توازن منشود في مسار الحضارة والفكر».
2
وكبديل عن الإبستمولوجيا التي تقطع علاقتها بالميتافيزيقا وبالقيم لكي تكون علمية على الأصالة، تريد الإبستمولوجيا العلمية النسوية أن تكون تحريرية، تمد علاقة بين المعرفة والوجود والقيمة، بين الإبستمولوجيا والميتافيزيقا لتكشف عن الشكل العادل لوجود البشر في العالم،
3
وترى العلم علما بقدر ما هو محمل بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بد أن يكون ديمقراطيا يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر؛ إنها الانفتاح على الطبيعة والعالم بتصورات أنثوية تداوي أحادية الجانب، لا تنفي الميثودولوجيا العلمية السائدة أو تريد أن تحل محلها، بل فقط أن تتكامل معها من أجل التوازن المنشود، فالنسوية ضد الاستقطابية والمركزية.
هكذا، تحاول الفلسفة النسوية أن تضيف إلى العلم قيما أنكرها، فتجعله أكثر إبداعية وإنتاجا، أكثر دفئا ومواءمة إنسانية، مستجيبا لمتطلبات واقعه الثقافي ودوره الحضاري، وتجعل فلسفة العلم ذاتها تطبيقية مرتبطة بالواقع الحي النابض، بحيث يمكن القول إن فلسفات العلم التقليدية جميعها تبلور إيجابيات العلم وتستفيد منها، تأخذ من العلم، أما الفلسفة النسوية فهي تحاول أن تضيف إلى العلم ما ينقصه ويجعله أفضل.
بدأت الفلسفة النسوية في السبعينيات بداية واعدة متقدة، وشهد ذلك العقد فيضا من الإنتاج النسوي في سائر فروع الفلسفة، يتحدى أبرز الافتراضات الفلسفية الجوهرية ويقدم بدائل شديدة التفصيل؛ بدأت بما يسمى بفروع الفلسفة اللينة السهلة وهي السياسة والأخلاق والجمال. ومع الثمانينيات كانت الفلسفة النسوية قد وصلت إلى كبد الحقيقة وقلب الأوضاع من جذورها، حين تطرقت إلى ما يسمى بفروع الفلسفة العسيرة الشاقة وهي الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والميثودولوجيا وفلسفة العلوم.
وفي هذا نلاحظ أن فلسفة العلم النسوية لها نظريتها الإبستمولوجية، وأطروحتها الميثودولوجية ورؤيتها الخاصة لمنطق التفكير العلمي، فضلا عن اشتباكها الحميم بالقضايا المستجدة في هذا الصدد، من قبيل قضايا فلسفة البيئة وأخلاقيات العلم وقيم الممارسة العلمية، وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى وبالأشكال الثقافية المختلفة، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى. إن الفلسفة النسوية في جملة توجهاتها فلسفة بعد استعمارية.
النسوية فلسفة بعد استعمارية
هكذا نجد أن ما يستوقفنا بإزاء الفلسفة النسوية هو أولا وقبل كل شيء هو موقفها النقدي الرافض للاستعمار الغربي ومقاومتها النبيلة والشرسة للإمبريالية؛ وكيف لا يستوقفنا هذا وتاريخنا العربي الحديث قد غلب عليه أن يكون تاريخ الغزو والاستعمار والمقاومة؟ والحق أنه لا الفقر ولا الجهل ولا المرض، بل الاستعمار هو شد ما منيت به البشرية.
ونعود إلى الشغل الشاغل للفلسفة النسوية، أي العقل الذكوري، عقل الهيمنة والسيطرة، بخصائصه التنظيرية والتجريبية. لقد تجسد وتبلور نهائيا في العقل التنويري الحداثي الذي يرابط في سويدائه الإيمان بالسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم وآلياته. مثلت قيم التنوير في الفلسفة الغربية منذ القرن الثامن عشر صلب قيم الحداثة وخلاصة تجربة الحداثة، وهي في الآن نفسه الأساس الأيديولوجي للحركة الاستعمارية؛ فقيم التنوير هي طريق التقدم الواحد والوحيد، والذي قطعه الرجل الأوروبي الأبيض باقتدار، ومن حقه وواجبه أن يفرضه على الشعوب الأخرى المتخلفة طوعا أو كرها، ليغدو الاستعمار حقا للرجل الأبيض، وواجبا عليه.
وكان هذا هو الأساس الأيديولوجي للحركة الاستعمارية البائدة، إنها مركزية النموذج الذكوري للإنسان التنويري الحداثي العاقل ، ولها وجه آخر هو المركزية الأوروبية
Eurocentrism
التي امتدت إلى الشاطئ الآخر من المحيط الأطلنطي، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتعني أن الحضارة الأوروبية والثقافة الغربية تتمتع بالسيادة والتفوق المطلق، وبالتالي تمثل معايير الحكم على سائر الحضارات والثقافات الأخرى، ليكون تقدمها تبعا لمدى اقترابها من النموذج الغربي الذي هو المثل الأعلى للجميع. إنها فردانية الرجل الأبيض، التي تبلغ حد الأنا وحدية
solipsism ، فهو وحده مركز الوجود، أصبح ناموس كل الأشياء، إما أن تكون الرجل الأبيض وإلا فأنت في منزلة أدنى، الثانية أو الثالثة أو العاشرة ... تبعا لمدى الاقتراب منه في التراتب الهرمي الجامع.
سادت مركزية الحضارة الغربية العالمين بفضل المد الاستعماري، وقهرت ثالوث الأطراف؛ قهرت المرأة، وقهرت الطبيعة لتخلق مشكلة البيئة الملحة، وقهرت شعوب العالم الثالث؛ وجاءت الفلسفة النسوية لترفض التراتب الهرمي أصلا في العلم وفي الحضارة على السواء، نازعة إلى تقويض مركزية العقل الذكوري، تحريرا للمرأة وقيمها الأنثوية، وبالمثل تحريرا للبيئة، ثم تشعر بأنها مسئولة أكثر من سواها عن مواجهة الوجه الآخر المتضخم للمركزية الذكورية، أي مركزية الحضارة الغربية.
لقد وجدت الفلسفة النسوية طريقها لكي تكون فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة بقدر ما هي فلسفة لتحرر الثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من نير الاستعمارية والمركزية الغربية، وهي في كل هذا فلسفة بعد حداثية رافضة لقيم الحداثة والتنوير - التي رأيناها قيما استعمارية - من حيث إن الفلسفة النسوية هي فلسفة بعد استعمارية.
لقد نشأت «الموجة النسوية الثانية» التي تمخضت عن «الفلسفة النسوية» في أوان انتهاء الاستعمار البائد الذي يمثل أقوى تجسيد للفلسفة الذكورية. ما بعد الاستعمارية لحظة فارقة في تاريخ النسوية لتتسلح بمناهج لمراجعة الأبنية الغربية في المعرفة والإنتاج، ومزيد من الكشف عما فيها من مركزية جائرة وتراتبية هرمية أدت أيضا إلى العنصرية والاستعمارية في سجل الجرائم الغربية الحافل.
في ما بعد الاستعمارية التقت الفلسفة النسوية الغربية مع المجتمعات التي تحررت من الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التقت في الخلاص من قهر الرجل الأبيض، كلاهما كان آخر بالنسبة له. وبينما ينضم نفر من مفكرينا إلى المارينز دفاعا عن الاستعمار الأمريكي، تفخر النسوية الغربية بدور النساء المكافحات اللاتي شاركن في النضال للتحرر من الاستعمار، شاركن بأنفسهن ولم يقتصرن على إنجاب الرجال المناضلين، فكانت المرأة قوة خفية وقوة ظاهرة في النضال من أجل الحرية وتحقيق الذات القومية.
4
وهنا نلاحظ أن الحركة النسوية في العالم الثالث انصهرت في حركات التحرر القومي، ودخلت بمجامعها في مقاومة الاستعمار.
5
وأمثال شفيقة محمد - أولى شهيدات ثورة 1919م - وجميلة أبو حريد وسناء المحيدلي، والمستشهدات الفلسطينيات وفاء إدريس وآيات الأخرس وريم الرياشي ... إلخ، يمثلن انتصارا وتبيانا وبرهانا للنسوية أقوى وأمضى من كل ما عرفه الفكر أو الواقع على السواء.
اشتبكت النسوية الجديدة وفلسفتها للعلم بالقضايا الشائكة المتعلقة بالهوية واللغة والقومية. في مرحلة سابقة، قالت الأديبة المجددة فرجينيا ولف إنها ضد القوميات، وبوصفها امرأة فهذا العالم كله هو بلدها، وبحثت النسويات الاشتراكيات - وسواهن - عن التكتل في مواجهة القوميات، ولكن فيما بعد تسلحت النسوية بالتحليل العابر للثقافات، من أجل استكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة. قد تستخدم أدوات معرفية مأخوذة من الثقافة الغربية، لكن الثقافات تتحاور مع بعضها، لا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى؛ فالنسوية قامت أصلا من أجل تقويض كل أشكال التراتب الهرمي كما اتفقنا.
ثم تنامت أهمية مفهوم الجنوسة أو النوع
Gender
وبات واضحا أهمية مسألة القومية في بحث قضية الجنوسة، التي لا تنفصل عن وضع النساء في مجتمعات العالم الثالث بعد نجاح حركات التحرر القومي. بحثت النسوية السياقات الثقافية والقوميات المختلفة، بعضهن يحجمن عن استعمال مصطلح العالم الثالث؛ لأنه يعكس التراتب الهرمي الذي يسعين إلى تقويضه، وظهرت الدعوة لاتحاد نساء الشمال ونساء الجنوب لمواجهة الأخطار الثقافية والاقتصادية للعولمة.
وفي إطار حرص النسوية على تحرر الثقافات والقوميات، تتقدم آن ماك كلينتوك التي عنيت بدراسة حركات المد القومي ومدى نجاحها في قهر الاستعمارية وكيف كانت مدفوعة بالرغبة الصادقة في التقدم والاستنارة، وتلتهب بالرموز القومية كالعروض العسكرية والأعلام والأناشيد وأصناف الطعام والانتصار في مباريات كرة القدم، وكم هو ممتع كتاب ماك كلينتوك الذي يعالج قضايا التفرقة في السياق الاستعماري من منظور الجنس والجنوسة!
6
حيث توضح أن الجنوسة ليست سؤالا عن جنس العامل بل عن القهر والنهب الإمبريالي، وسؤال العرق ليس سؤالا عن لون البشرة، بل عن قوة العمل المسلوبة بفعل الإمبريالية.
ولا تنفصل الإمبريالية عن غزو ثقافي وقهر ثقافة الآخر وتدمير وحشي للثقافات البدائية، وإحلالها بالثقافة الغازية المنتصرة، وبالتالي تنطوي مقاومة الإمبريالية على مقاومة ثقافية، ومحاولة الإبقاء على ثقافة الأنا وحمايتها من الضياع، وعلى نقد للثقافة الإمبريالية. واستعملت ماك كلينتوك تعبيرين مجازيين، هما الزمان المنطوي على مفارقة مكانية والمكان المنطوي على مفارقة زمانية؛ الأول يكون حين تمثل تاريخ الكرة الأرضية بأسرها من نقطة واحدة - غربية طبعا - تشوه معظمه في حين تبدو وكأنها الموضوعية التامة، أما المكان المنطوي على مفارقة زمانية فتكون حين يتحدث الغربيون عمن يبدون أمامهم رجعيين متخلفين، فيحكمون على النساء وسكان المستعمرات والعمال بأنهم خارج المكان المتحضر والحداثة. إنها ألاعيب من الرجل الأبيض وتشويه للأمور كي يمارس الهيمنة والسيطرة. من هنا عملت الكاتبة ذات الأصول الفيتنامية ترينه تي منه-ها
Trinh T. Minh-Ha (1952م-؟) على تحليل ثقافات الشرق الأقصى خصوصا الصينية، مبرزة العناصر النسوية فيها لتؤكد على أن القضية النسوية تتحقق بالقضاء على هيمنة الثقافة الغربية ومركزيتها.
في ما بعد الاستعمارية يجب أن ينتهي عصر المركز والأطراف، قهر الآخر وتوجيهه وفرض الوصاية عليه ليسير وفقا لرؤى ومصالح الأقوى أو السيد، لا بد من ظهور فلسفة جديدة تنقض تلك المركزية الجائرة وتقر بقيمة وحقوق تلك الأطراف، وبالتالي تصون الحقوق التي أهدرت للمرأة وللطبيعة ولشعوب العالم الثالث. وكانت فلسفة العلم النسوية محاولة جادة للسير في هذا الاتجاه وهي تبحث عن ديمقراطية العلم والتعددية الثقافية فيه والاعتراف بالآخر، فيكون العلم إنجازا إنسانيا مشتركا مفتوحا أمام أي حضارة غربية كانت أم شرقية، وأمام أي إنسان رجلا كان أم امرأة. وفي نقدها للموضوعية التقليدية ومزاعم تحرر العلم من القيمة، كانت تكشف عما يكمن خلف تلك المزاعم من مركزية الرجل الأبيض والحضارة الغربية، وإلغاء الثقافات والأعراق والأجناس الأخرى . بدأت البشائر مع توماس كون الذي أثبت أن نسق العلم الغربي الراهن ليس كيانا منغلقا على ذاته واحديا، بل ظاهرة اجتماعية نشأت وتطورت كمراحل داخل المنظومة الثقافية العامة للمجتمع؛ وتأتي فلسفة العلم النسوية مقتفية خطاه لتوضح أن هذا يعني أن ثمة أنساقا معرفية في أزمنة أخرى وأمكنة أخرى، وبالتالي لا مركزية للعلم الغربي أو الحضارة الغربية، كما أكد فييرآبند.
شنت الرائدة الكبرى ساندرا هاردنج حملة شرسة على المركزية الغربية والعقبات الإبستمولوجية للإمبريالية. رأت الحرب العالمية الثانية بما حملته من كوارث هيروشيما وموت ودمار رهيب قد كشف عن زيف التسليم الوضعي بالعلم والفصل بينه وبين التكنولوجيا والعوامل الاجتماعية، مثلما كانت هذه الحرب هي نهاية مشروع إقامة مستعمرات غربية. إنه عصر ما بعد الاستعمار الذي يدعونا إلى الوصول لنماذج أكثر دقة للأنساق المعرفية ولدور الذات العارفة، نماذج أكثر ديمقراطية تكشف عن علم هو نتاج لثقافات متعددة؛ وذلك عن طريق تنضيد العقبات الإبستمولوجية الناجمة عن التحرر والتطور في العالم الثالث، وإعادة النظر في مفهوم عالمية العلم، وأخرجت كتابيها الرائعين «هل العلم متعدد الثقافات: ما بعد الاستعمارية والنسوية والإبستمولوجيا» (1998م)، و«نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري ونسوي» (2000م)، وصادرت منذ البداية في كتابها الرائد «سؤال العلم في النسوية» على أن استبعاد المركزية الذكورية من العلم هو استبعاد للعنصرية والاستعمارية والرأسمالية، وإذا كان الكفاح ضد هذا بدا أهم من الكفاح النسوي ضد السيطرة الذكورية، فإن قضية المرأة لا تنفصل عن كل هذا. وحق قول ساندرا هاردنج إن الفلسفة النسوية منزع نقدي «مثلها في هذا مثل كل حركة نقد لوضع قائم ينطوي على أشكال للظلم والغبن، مثل كل أشكال الكفاح ضد العنصرية والاستعمارية والرأسمالية، ومثل الحركات الثقافية المضادة وثورة الشباب في الستينيات، وحركات الدفاع عن البيئة ومناهضة الجهود العسكرية. كل هذه الاتجاهات النقدية توقفت عند مثالب استغلال العلم، لكن النقد النسوي يلامس عصبا عاريا».
وأخيرا لا نملك بإزاء هذه الفلسفة الرائعة النبيلة أو بالتعبير النسوي الفلسفة الجميلة، إلا القول بأنها كانت تملك حيثياتها في العقود الأخيرة من القرن العشرين ما دام الاستعمار بدا آنذاك وكأنه ملف أغلق نهائيا، شأنه شأن العبودية ووباء الطاعون وما إليه، والموجع حقا أن عاد الاستعمار العسكري السافر مجددا مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، في العراق وأفغانستان، فضلا عن الهم المقيم والحزن القديم في فلسطين، ولا عزاء للفلسفات بعد الاستعمارية وسيدات النسوية الغربية. أما بالنسبة لنا في المشرق العربي فلا عزاء للسيدات ولا للرجال.
انتهى الاستعمار الأوروبي ليصعد الاستعمار الأمريكي، مصداقا لقول شاعر القوم أمل دنقل: لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت، قيصر جديد.
حاشية
القومية العربية في المعمعان
ربما كانت الصفحات القادمة دفاعا مشبوبا عن مفهوم القومية العربية في معمعان القرن الحادي والعشرين، إلا أنها على أية حال لا تخلو من تحليلات فلسفية، فضلا عن أن مفهوم «القومية» بشكل عام و«القومية العربية» بشكل خاص، من ركائز الفكر السياسي ومن معالم الفلسفة السياسية الحديثة؛ على أية حال، فقد جعلناها محض حاشية ختامية.
1
القومية العربية في المعمعان
لم نفق بعد من قارعة العولمة التي نزلت على أم رءوسنا، لتغدو شغلنا الشاغل وهمنا المقيم ليلا ونهارا، وحتى وقت قريب كان يصعب أن يمضي يوم دون أن يعقد مؤتمر أو ندوة أو أمسية ثقافية أو ملتقى على أعلى مستوى لمناقشة موضوع العولمة، واحتلت موقعها في صدر عناوين المطبوعات، تنافست سائر الجهات المعنية، وأحيانا غير المعنية، لإصدار الكتب والبحوث والدراسات والمقالات حول العولمة، وبات من الضروري أن يستقر رأي المتبصرين والمستنيرين وأولي الأمر على أن العالم أصبح قرية كونية واحدة، وبالتالي أصبحت العولمة شريعة العصر وقانون الوجود، تيار دافق لا مندوحة عن أن نمخر عبابه ونجيد السباحة فيه. من يتوانى ليتمسك بأهداب القومية والهوية والوطنية وتحقيق الذات، ودع عنك المقدسات والأعراف والقيم المطلقة وما إليه، فهو متخلف يخوض في أطلال دوارس، عاجز عن مواكبة روح العصر، وسوف يجرفه التيار العولمي الدافق، ليلقي به في مقلب نفايات التاريخ.
بدت أصوات المعارضين صيحات غوغاء أو همج متخلفين، حتى الذين أثبتوا بمناهج راقية أن العولمة التي يتحدثون عنها سوف تزيد الفقير فقرا والغني غنى، وتزداد الهوة بين الشمال والجنوب وبين العالم المتقدم والعالم المتخلف، ويزداد العالم ظلما وبؤسا، ضاعت أصواتهم في معمعان العولمة ولم يصغ إليهم أحد، ومثلهم الباحثون عن التنوع الثقافي الخلاق الذي يثري عالم الإنسان ويكسبه طابعه المميز. لقد باتت العولمة قوة كاسحة ولا سبيل إلا للحاق بركبها بقصارى ما نستطيع.
1
وقبل أن نفيق من هول العولمة، فاجأتنا قارعة الشرق الأوسط الكبير، وكأن الشرق الأوسط الصغير لم يعد يكفي لابتلاع وهم القومية العربية والعالم العربي والوجود العربي، ولا العولمة كفيلة بهذا، والكل منشغل الآن بالشرق الأوسط الجديد.
وعلينا أن نصادر على المطلوب، وأول المطلوب أن نتحرر من وهم تآمر الغرب علينا، نحن العرب والمسلمين.
لا تفكير مرضي في التآمر؛ العالم الغربي المتقدم بحكم تقدمه لا يريد إلا الخير والفلاح والصلاح للعالمين، والإنقاذ من براثن التخلف. كان الاستعمار الأوروبي البائد يستهدف العمران والعمار والتحديث، وكنتيجة جانبية يأتي تأمين مصادر المواد الخام لمصانعه والأسواق لمنتجاته، وتمتلئ خزائن أوروبا وتحكم السيطرة على المواقع الاستراتيجية لجيوشها وطرق التجارة العالمية. والآن قد آل عرش الهيمنة الغربية إلى الإمبريالية الأمريكية الراهنة، وهي بقروضها ومعوناتها ومبادراتها وضرباتها الوقائية واحتلالها العسكري والخراب والدمار وتدمير نظام الحكم في الدولة وتسريح الجيوش ونهب المتاحف ومقتنيات التراث الإنساني وخزائن البنوك؛ أمريكا بهذا لا تنشد إلا الديمقراطية والتعددية والحرية والمساواة وتمكين المرأة وتطوير التعليم وتأهيل الشباب لسوق العمل، وكنتيجة جانبية يأتي تأمين مصادر البترول ومواقع المصالح الاستراتيجية، ثم الخلاصة المستصفاة التي تجسد وتجرد كل الأهداف المعلنة والخفية، الظاهر منها والباطن، الناتئ والغائر، المكشوف والمستور؛ أي سؤدد دولة إسرائيل.
ينبغي أن نتقبل كل هذا حرصا على الحداثة والتقدم والوفرة والحرية والتعددية والديمقراطية، وكل ما تشتهي الأنفس وتقر به الأعين، وإن لم نقبل فلن تعني عروبتنا إلا شاهد قبر ولن يعني إسلامنا إلا التخلف والرجعية والسلفية والإظلامية وقهر المرأة ...
علينا أن نتقبل كل هذا على الرغم من أن لغتهم الإنجليزية تحوي كلمة سباب ليس لها مقابل في اللغة العربية، وهي
quisling
التي تعني على وجه التحديد القاموسي الدقيق: خائنا يبيع وطنه بأن يتعاون مع الاحتلال ويقبل الاشتراك في حكومة تشكلها قوات الاحتلال؛ وبالتالي فإن مجلس الحكم العراقي الذي نصبته أمريكا في أعقاب الغزو والاحتلال ليضم شراذم بعضهم شخصيات تافهة، وآخرين دخلاء لم يروا العراق إلا في أبريل 2003م، وعلى رأسهم فتى أمريكا المدلل أحمد الجلبي بصحيفة سوابقه الزاخرة وسطوه الشهير على بنك البتراء في الأردن وأحكام السجن الصادرة ضده؛ جميعهم «كويزلنج»، بل إن متابعة أخبارهم ولقاءاتهم تجعلنا نحن أيضا «كويزلنج».
لا غرو، ما دام العالم الغربي المتقدم لم يترك مفردة في قاموس الجرائم إلا وارتكبها من أجل تحرير العراق من الديكتاتورية وإسباغ الديمقراطية والتعددية والعلمانية عليها، كل الجرائم، بدءا من أفظع الجرائم وأكثرها هولا التي ترتكب في حقوق إنسان جوانتانامو والمعتقلات العراقية - بعد السجون الإسرائيلية - ومرورا بالكذب والغش والتضليل والتزييف والتزوير (مستندات شراء العراق اليورانيوم من النيجر) والرشوة والخروج على القانون الدولي والنصب على الدولة (الأسعار التي وردت بها شركة تشيني البترول إلى القوات الأمريكية في العراق) والتجسس على الأمم المتحدة وقتل آلاف البشر وتدمير حياتهم وبلدهم وتبديد تراث إنساني لا يعوض وانتهاء بالجريمة الأم وهي السطو المسلح على دولة ثرية.
وحتى هذه اللحظة ما زال الجميع يضربون أخماسا في أسباع، ومع كل الشفافية التي تكفلها الديمقراطية، لا يعرف شخص واحد في أمريكا لماذا اتخذ بوش قرار الحرب على العراق، ولا يملك بوش نفسه إجابة محددة على هذا السؤال! ولا يهم أن يملك ما دام يستعد بمنتهى الديمقراطية لخوض الانتخابات من أجل فترة رئاسية أخرى، وما دام بلير متربعا على عرشه الذي علم البشرية معنى الديمقراطية ولا يزال.
وفي كل هذا ينبغي أن نصادر على المطلوب وهو أن الغرب يعني التقدم، أي الديمقراطية والتعددية والعلمانية والمعرفة والحرية وحقوق المرأة ... ولا بد من الذوبان في هذا التقدم لو أردنا البقاء. وإذا بحثنا أمر الإسلام، فالموقف التنويري التقدمي يفرض المصادرة على المطلوب، أي العمل على إثبات أن هذه المنطلقات التقدمية كائنة بصورة أو بأخرى في الإسلام، لتسهل سبل الذوبان في أطر التقدم، ويتحقق المنشود، وأي شيء غير هذه المصادرة على المطلوب هو معاداة للتقدم والتنوير وللتسامح والسلام وحوار الحضارات، ومعاداة للسامية أيضا.
لكننا اخترنا طريقا آخر غير المصادرة على المطلوب، طريقا قد يبدو استفزازيا، أولا لن خوض في أمر تلك المنطلقات؛ لأن المناهج الفلسفية تجعل أمرها يطول، خصوصا أن الفلسفة تعلمنا أنه لا تسليم قبليا بأية مقولة، مثلما تعلمنا أن مناهج المصادرة على المطلوب تفضي إلى تحصيل حاصل ولا ينجم عنها مكسب معرفي. سوف نبحث أمر الإسلام والغرب كما يطرح نفسه كتقابل بين كيانين حضاريين، لنسأل لماذا كان هذا التقابل إشكالية ملحة، ونسأل في هذا سياق التطور الحضاري. •••
هكذا قد يبدو أن إشكالية الإسلام والغرب، قبل أن تكون إشكالية التقدم والتخلف، هي إشكالية الأنا والآخر، أو منظومة التقابل بين الشرق والغرب، أو بين الحضارة العربية والإسلامية وبين الحضارة الأوروبية والأمريكية، وأن الطرف الثاني في موقع القوة واختار تحجيم الطرف الأول. وتلح الإشكالية وتغدو أزمة بل كارثة ساحقة ماحقة بعد أن تماهت الفوارق بين التبعية والاستقلال الحضاري، وترسم بديلا موقفا هامشيا هو التنازلات تلو التنازلات التي أصبحت تلامس حدود ثوابت الهوية، ووضع القومية موضع الاستفهام والعروبة موضع التشكيك والإسلام رديفا للرجعية، وبعد طول النضال والكفاح صارت التبعية تجلب وأحيانا تشترى!
مبادرة الشرق الأوسط الكبير حلقة أخرى ولعلها ليست الأخيرة في سلسلة طويلة، فقبلها كانت العولمة كما أشرنا، العولمة سبقها «النظام العالمي الجديد» الذي ظهر في مطالع تسعينيات القرن العشرين في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية. وفي إطار النظام العالمي الجديد ظهرت «الحرب الثقافية» ضد الثقافات المغايرة على العموم والثقافة الإسلامية على الخصوص بهدف تحجيمها والحيلولة دون وصولها إلى وضع ينازع الثقافة الغربية. والجلبة المحيطة الآن بالشرق الأوسط الكبير، أحاطت آنذاك بمقال و. س. لنيد «الدفاع عن الحضارة الغربية» بمجلة السياسة الخارجية الأمريكية، عدد 84، 1991م، ومقال صمويل هتنجتون الشهير جدا «الصدام بين الحضارات» بمجلة الشئون الخارجية، 1993م، حيث ناقش هتنجتون نظرية صراع الحضارات، واعتمد مفهوم «الحرب الثقافية». وخلاصة هذا المفهوم أنه بعد انتهاء الحرب الباردة بين الرأسمالية والشيوعية السوفيتية، ستكون الخطوط الفاصلة بين الحضارات هي خطوط القتال في المستقبل، بين الغرب وبين الحضارات غير الغربية الست، وأولها حضارة الإسلام. ويخلص هتنجتون إلى دعوة الغرب إلى الاتحاد كي يتصدى لهذا الخطر الزاحف من الشرق الإسلامي إلى الغرب والشمال. كما هو معلوم في إطار الحرب الثقافية المعلنة وغير المعلنة، ألح مفهوم «حوار الحضارات» وصار آنذاك شغلنا الشاغل وهمنا المقيم.
لماذا نغوص في هذه الجزئيات الراهنة، ولا نرسل النظر أبعد قليلا؟! ليس إلى الحروب الصليبية التي هدفت إلى تحرير القدس من المسلمين (ونعجب لماذا لا يحررونها الآن من اليهود، واليهود هم الذين صلبوا المسيح وليس المسلمون!) ولا إلى الحلم الذي اشتد في أعقاب فشل الحروب الصليبية خصوصا في القرن الثالث عشر حلم القضاء على الإسلام والذي أسرف في التعبير عنه روجرز بيكون جد فرنسيس بيكون نبي العلم الحديث. نرسل النظر إلى الحقبة الحديثة من الحضارة العربية، التي جرى الاتفاق على أنها بدأت بالحملة الفرنسية. هكذا كانت فاتحة علاقتنا بالحداثة الغربية هي تلك الحملة الاستعمارية التي فشلت لكن نجح بعدها المشروع الاستعماري الغربي نجاحا طبق الخافقين، ليخلق مشكلة المشاكل وهي الحداثة أو المعاصرة في العالم العربي والإسلامي، والتي تتلخص في أن الغرب جعل نفسه بالنسبة للعالم الإسلامي النار والنور؛ نار من حيث هو معتد محتل مستعمر مسيطر مستغل مستنزف للموارد عنصري صهيوني، ونور من حيث استملاكه للعلم ولحصائل الحداثة، ويزيد الطين بلة أن الثانية علة للأولى.
كان الاستعمار الأوروبي والإمبريالية الأمريكية التوجه السياسي لعلاقة الغرب بالعالم الإسلامي، وبالارتكان عليه اتخذ الغرب بمعية حليفته وربيبته الصهيونية موقفا من تقدم وسؤدد العالم الإسلامي، موقفا يلقي الرعب في قلوبنا ويجعلنا نتوجس دائما في النوايا مهما ارتدت مبادرة الشرق الأوسط الكبير من مسوح براقة.
ويمكن أن نعود بهذا الموقف من تقدم العالم الإسلامي إلى جذور أبعد، زرعت في أعماق الوعي الغربي خطورة التفوق الإسلامي على مصالحه خصوصا إذا اقترن بالدائرة العربية التي يريدونها شرقا أوسط، أي حضارة لا عربية ولا غربية، تكتسح بقايا المخلفات القومية. •••
هذه الجذور نجدها حين تحول البحر المتوسط إلى بحيرة إسلامية تجوبها الألوية العربية المرتفعة، فتختنق موانئ أوروبا ويذبل اقتصادها، ويعتريها الوهن والذبول وتدخل ليل قروسطيتها الطويل.
نذكر في هذا الصدد هنري بيرن
H. Pirnne (1826-1935م)، فقد اشتهر بتفسيراته الثاقبة للعصور الوسطى الأوروبية، وعزو تخلفها إلى التقدم السريع للإسلام الذي أدى إلى الانقطاع عن التراث الإغريقي والروماني وإلى نهاية وحدة حوض المتوسط التي لم تعد إلا مع الحروب الصليبية، وفي كتابه الشهير «محمد وشارلمان» تبدأ العصور الوسطى، لا بسقوط الإمبراطورية الرومانية، بل بالفتوحات العربية وسيطرة المسلمين على موانئ البحر المتوسط الجنوبية وطرق الملاحة والطرق البرية إلى الشرق الأوسط والأقصى، التي كانت سببا في ثراء اليونان قديما، ثم ثراء إيطاليا ووسط أوروبا حديثا.
هذه السيطرة الإسلامية عزلت أوروبا عن مصادر الثروات التجارية، فتدهور اقتصادها ليبدأ عصرها الوسيط؛ والدليل على هذا - فيما يرى بيرن - أن العصر الوسيط المظلم انتهى باكتشاف إيطاليا لطرق برية إلى الصين في القرن الثالث عشر، واكتشاف البرتغال لرأس الرجاء الصالح، ووصولهم إلى شرق آسيا من دون الاحتكاك بالمسلمين. وبالمثل يقول مؤرخ العلم ج. ج. كروثر إن المسلمين حين قضوا على الملاحة الأوروبية في البحر المتوسط قضوا على التجارة الخارجية والمواصلات في غرب أوروبا، وذبلت موان ومدن تجارية على الأنهار في داخل القارة لانعدام موارد التجارة، وتلاشى ما بقي من الحكومة المركزية الرومانية، وأغلقت مكاتب الإدارة والمحاكم والمدارس واختنقت دعائم النظام الإمبراطوري، ولم يبق من الطبقات الاجتماعية إلا كبار الملاك أبناء الأعيان والفلاحين وبعض الفلاحين الأحرار. انتهت الصناعة لعدم تموينها بما تحتاج إليه، وانتهت حركة الإنشاء والعمل باستثناء متطلبات الحياة اليومية. لم يعد هناك حاجة للعبيد، الوسائل الفعلية لإنتاج العمل آنذاك، ولم يعد الوضع يتطلب إلا المشتغلين بالزراعة.
وإن بدا هذا الحديث يخوض في أوضاع ولت وانقضت، تتقدم دراسات إدوارد سعيد بإجابة شاملة على السؤال: لماذا كان الإسلام فقط هو الدين الوحيد الذي يمثل تقدمه ونهضته تهديدا خطيرا للحضارة الغربية وسطوتها وقيمها؟ •••
ومهما تحدثت الفقرة السابقة عن أوضاع ولت وانقضت، يبقى منها أن العروبة هي أرومة الإسلام، وأن الإسلام - عمود العروبة الفقري وعمادها - ليس فقط عقيدة وشريعة وتدين به أمم شتى، بل هو أيضا هوية حضارية ومنظومة ثقافية وإطار لبنية احتلت قصب السبق ورسمت معالم التقدم والمسيرة الحضارية عبر حقبة طويلة من حقب التاريخ، امتدت من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر، وهي في حركة العلم وتقدم العقل البشري تشغل في واقع الأمر كل الفضاء الحضاري الممتد منذ انتهاء عصر العلم السكندري في مصر في القرن الأول الميلادي، أو بالكثير منذ إغلاق مدارس الفلسفة في جنوب أوروبا في القرن الخامس الميلادي وحتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة. وعلى الرغم مما اعترى هذه البنية من وهن وشحوب وذبول، وما ألم بها من كوارث خارجية وأمراض داخلية، رغم هذا ما زالت بنية قائمة بشكل أو بآخر؛ لذا تظل مسألة الإسلام والغرب مطروحة.
لقد كان الوحي القرآني فعل توحيد فذ، مثل نقطة تحول متفردة، لم يكن استمرارا لأي مسار كان قبله، نثريا أو شعريا، إنه كما قال طه حسين - الأستاذ العميد - ليس شعرا ولا نثرا، بل قرآنا. ولعل ظهور الوحي في سيرورة الحضارة العربية/الأنا، يماثل - كما قال علي حرب في كتابه «الحقيقة والتأويل» - ظهور الفلسفة في سيرورة الحضارة الغربية، منعطف جذري وتغيير حاسم من حيث الرؤية التي أتى بها والمنهاج الذي استنه.
أجل يمثل الوحي القرآني منعطفا جذريا يحدد هوية العروبة، صحيح أن هذه المنطقة تتميز بسعة الموروث الثقافي قبل الوحي بزمان سحيق، وأمامنا في مصر الحلقة الفرعونية والحلقة القبطية، ولا تزالان ماثلتين حتى في الوجدان المسلم، ما زلنا نعيش رموزا من الحقبة الفرعونية؛ مثل شم النسيم، السبوع، الفول المدمس، ذكرى الأربعين لأن التحنيط كان يستغرق أربعين يوما ، بل ما زال ثمة الحانوتي أي الحنوطي رغم اندثار التحنيط. أما الحلقة القبطية فلا يزال الفلاح المصري - سواء أكان مسلما أو مسيحيا - يعيش حتى الآن في تقويمها وينظم وقائع حياته وفقا للشهور القبطية المطابقة لمناخ مصر وبيئتها الزراعية، وشبيه بهذا
صحيح.
لكن ألم يمثل الوحي الإسلامي بسرعة غير مسبوقة دائرة حضارية استوعبت كل هذا لتتمثل مرحلة شكلت كل المسار التاريخي اللاحق للأنا؟!
ثم كانت لغوية الحدث القرآني، ونحن الأمة الوحيدة التي لا تزال تتحدث بلغة تراثها القديم وكتابها المقدس، وكما تثبت الفلسفة التحليلية المعاصرة، ليست اللغة قالبا أو وعاء يملأ بالفكر مثلما تملأ السلة بالفاكهة؛ اللغة لحمة في نسيج الفكر وخامة من خامات الوعي.
وقد مارس جلال الحدث القرآني نوعا غريبا - لعله غير مسبوق - من فقدان الذاكرة التاريخية، ترسخ بلغوية الحدث وهجران البلدان المفتوحة للغاتها القومية التي هي إطار تفاعلاتها السابقة الطويلة مع واقعها، والنسيج الذي تمثلت فيه قيمها ونواتج حضارتها. وبخلاف الأديان السماوية التي عد الإسلام ذاته امتدادا وتطويرا لها، نجد أن كل ما بقي في الوعي الجمعي من حاصل تاريخ ما قبل الوحي، إما نماذج شاخصة للطاغوت والجاهلية والشرك وما يتوجب نقضه، وإما خيالات باهتة وأمساخ شائهة لفرعون الجبار وإرم ذات العماد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. ولما تنامت حديثا البحوث التاريخية والأنثروبولوجية والأركيولوجية تجلت ذخائر أصول القوميات، أمكن استيعابها وتمثلها، ولكن في إطار ووعي كان قد استقر في إطار الظاهرة القرآنية.
لقد كانت استراتيجية الإسلام البارعة حقا هي اعتبار ذاته امتدادا للأديان الأخرى، هذا ما جعل الإسلام دائرة حضارية قادرة على استيعاب الدوائر الأخرى. وبمعية اللغة العربية سهل أن يغدو الإسلام صلب أصلاب القومية العربية، وهذا ما أكده الرواد المنظرون للقومية العربية ومعظمهم من مسيحيي الشام، إنهم يسلمون بأنهم مسيحيون لكن يعيشون في إطار هوية حدد الإسلام معالم لها، كان مكرم عبيد يقول دائما إنه مسيحي دينا ومسلم وطنا. وكما هو معروف يزخر الفكر العربي الحديث بالمشاريع العديدة التي تروم تنهيض وتنمية الواقع العربي اعتمادا على تجديد منطلقات الخطاب الديني. وشهد البحث عن المركزية الشرقية لتعارض المركزية الغربية. ويتحدث القبطي الأصيل أنور عبد الملك في «ريح الشرق» عن الدائرة الإسلامية من المغرب حتى الفلبين، ونلاحظ أنها دائرة الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي حين كانت تقود مسيرة التقدم الحضاري، وهي الآن - بعد أن سقطنا في قاع الهزائم والقهر والتخلف - هي الدائرة نفسها للشرق الأوسط الكبير.
هكذا كانت مشكلة الإسلام والغرب أنه ليس دينا وشريعة فحسب، بل إطار لهوية حضارية، وكان باستراتيجيته البارعة قادرا طوال تاريخه على استيعاب واحتواء دوائر حضارية أخرى. من هنا كانت العروبة هي أرومة الإسلام والإسلام هو صلب أصلاب العروبة.
وهذا ما يجعل القومية العربية مختلفة عن تصور القوميات الأوروبية في العصر الحديث والتي كانت دعامة قوية من دعامات تأكيد العلمانية وإقصاء الدين تماما عن السياسة والمجتمع المدني. والواقع أن الاختلاف بينهما جذري إلى أبعد الحدود، ويكفي الإشارة إلى أن القومية في الغرب باتت مفهوما رومانتيكيا مستهجنا ومتخلفا، وإذا أخذت مأخذ الجد باتت جريمة، وهذا طبيعي ما دام مفهوم القومية ليس في صالح الغرب والثقافة الغربية؛ إذ تعني اصطناع حدود سياسية، لتتصارع القومية الفرانكوفونية مع القومية الأنجلوسكسونية، وتنافسهما القومية الجرمانية، وتطل برأسها أصول الفايكنج والصرب، في خطر داهم على وحدة الثقافة والحضارة. أما القومية العربية فهي في الوضع المعاكس تماما، إنها معامل مكين لخلق وتأكيد وحدة حضارية ثقافية، ذات ماض عريق وحاضر مضطرم وباحثة عن مكان تحت الشمس، وتظل القومية العربية على الرغم من كل شيء وحدة ثقافية قائمة. أما أن المشروع السياسي لا يعكس هذا الواقع الثقافي أو المصالح الحضارية فتلك هي الأزمة.
وإذا نزعت الهجمات الاستعمارية والإمبريالية الغربية إلى تحجيم الإسلام والحضارة الإسلامية، فإنها تنزع إلى القضاء المبرم على القومية العربية. وإن بدا مشروع الشرق الأوسط الكبير يريد أن يعلن وفاة القومية العربية وانتهاء أمرها تحت وطأة التقدم الكاسح لمعايير ومصالح الغرب، التي هي معايير التقدم والفلاح والصلاح، فإن هذا - مرة أخرى - حلقة أخرى وليست أخيرة في سلسلة طويلة، لعلها تبدأ بالشرق الأوسط الصغير. •••
مع مطالع القرن العشرين تفككت الإمبراطورية العثمانية وانهارت الخلافة الإسلامية، وألح التفكير في الشكل المنتظر لهذه المنطقة من العالم، فظهر مشروع القومية العربية والعالم العربي، وفي الآن نفسه ظهر مشروع القومية الصهيونية ودولة إسرائيل في الشرق الأوسط الجديد، وكان تاريخ القرن العشرين من زاوية ما هو تاريخ الصراع - الدامي أحيانا - بين هذين المشروعين.
وبصرف النظر عما يتبدى الآن من نجاح ساحق للمشروع الثاني على أنقاض المشروع الأول، بصرف النظر عن الانتصارات والانكسارات والإخفاقات السياسية، والصدام بين حاكم عربي وآخر أو نظام الحكم في هذه الدولة أو تلك، على الرغم من هذا نقول ما نقوله دائما، وهو أن ثمة واقع أنثروبولوجي أكيد نحياه جميعا شئنا أم أبينا، ما زلنا نحيا الجرح الواحد، وقد بات جرحين فلسطين والعراق، والهم الواحد والمعاناة الواحدة من إسرائيل، من طبع ومن لم يطبع ومن في سبيله إلى التطبيع؛ نتحدث اللغة الواحدة ونقرأ الكتاب الواحد ونشاهد الفيلم والمسلسل التلفزيوني الواحد، نعيش معا لهفة الأمومة ومنزلة الأخ الأكبر وقيم الحياء الجميل، قدسية ثوب الزفاف الأبيض وطقس السبوع والسبع آيات المنجيات، كرم الضيافة وعمق الاحتفال بالأعياد الدينية وشعائر الصلاة، تعلو أصوات المآذن والكنائس ونلتجئ إلى الله في بنية تعبيراتنا اللغوية القصدية والعفوية، نبحث معا عن الغزالي وابن رشد والمتنبي ومحمد عبده، أم كلثوم وفيروز وأشعار نزار قباني ومصرع السندريلا وأغاني كاظم الساهر وهل هو امتداد لعبد الحليم، نفخر معا برواد تحريرنا من الاستعمار البائد وترتعد فرائصنا من أهوال الاستعمار القادم. مع هذا وسواه يسير العالم في زمن العولمة نحو تكتلات شتى ولا مكان فيه للكيانات المتناثرة، بينما تجري الجهود على قدم وساق وعلى الأصعدة كافة من أجل اقتلاع وهم القومية العربية من الأذهان وهي التي تمثل وحدة حضارية وثقافية أعمق من كل تكتل آخر على خريطة العالم. •••
هكذا نجد القومية العربية كواحدة من التجليات الحضارية التي تفرض نفسها، وتحمل المقاربة من ألف مدخل ومدخل، وقد يبدو أكثرها معاصرة وتقدما مدخل التقدم والتخلف، أو مدخل الإرهاب والتطرف ... إلخ.
إننا نحيا في عصر توظيف المعلومة وتشغيلها، وقبل أن نخوض في الجدل الدائر حول القومية العربية ونضعها في مواجهة مع الهوية المصرية الفرعونية أو الهوية الإسلامية على إطلاقها بما تضمه من دول نووية وأخرى شديدة التخلف، باذخة الثراء أو مدقعة الفقر، علمانية صراحة كتركيا أو ثيوقراطية كإيران، في خضم هذا اللغو نجد أن التشغيل والتوظيف إنما يكون من نصيب فكرة واضحة الحدود والمعالم لتمثل تكتلا حضاريا منشودا في عالم التكتلات الكبرى، ولا يتوافر هذا إلا في القومية العربية.
ولا نعتذر عن دفاعنا المستبسل والذي قد يكون استفزازيا لقوى التقدم الكاسحة، دفاعنا عن وجود وبقاء العالم العربي، فعلى الرغم من العواصف العاتية التي تقتلع الآن أعز الثوابت ما زال يراودنا الحلم ببقاء هويتنا الحضارية تحت الشمس، وليس تحت ظلال تقدم الغرب وإسرائيل.
অজানা পৃষ্ঠা