الفصل الثالث
في أن التوكل لا ينافي التعلق بالأسباب
وأن الزهد لا ينافي كون المال في اليدين
ومقصود هذا الفصل يحصل بالكلام على مقامين:
المقام الأول مقام التوكل
التوكل في اللغة عبارة عن إظهار العجز والاعتماد على الغير، وخص بما يكون الاعتماد فيه على الله تعالى:
وفي الاصطلاح عبارة عن دوام حسن ملاحظة القضاء والقدر في جميع الحوادث دون اقتصار النظر على الأسباب الطبيعية، ودوام حسن الملاحظة بجامع التعلق بالأسباب ولا ينافيها. وحينئذ فحركة العبد ببدنه أو بتدبيره إما لجلب نفع كالكسب أو حفظه كالادخار أو دفع ضر كمقاومة الصائل أو قطعه كالتداوي: فأما جلب المنافع ودفع المضار ورفعها فإمضاء الأسباب إليه إما مقطوع به وهي الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله تعالى ارتباطًا مطردًا. وأما مظنون ظنًا يوثق به وهي المسببات التي ارتبطت ارتباطًا أكثريًا بحيث لا يحصل بدونها إلا نادرًا. وأما موهوم وهمًا لا يوثق به ولا يطمأن له.
فأما المقطوع بإفضائه والمظنون إفضاؤه من الجلب والدفع والرفع كمد اليد إلى الطعام الحاضر واستصحاب الزاد في السفر في البراري المقفرة والمتنحي عن مجرى السيل وعن مفترس الأسد وترك النوم تحت الجدار المائل وإغلاق الباب وعقل البعير والتداوي بالأمور المجربة، فكل ذلك لا ينافي التوكل، وإهماله مراغمة لحكمة الله تعالى في نصب الأسباب وعدم الاكتفاء بالقدرة المجردة، وجهل بسنة الله وعادته. فمن ترك الوقاع ومد اليد إلى الطعام وإبلاغه بإطباق أعالي الحنك على أسافله، وانتظر أن يحصل له ولد كما ولدت مريم ﵍ أو أن يخلق الله له الشبع بغير أكل أو يرسل ملكًا فيمضغه ويدخله في فيه فهو مجنون جاهل بالشريعة، لأن الاكتساب لإحياء النفس واجب، والاكتساب لنفقة الزوجة والبعض أصلا كان فرعًا في الثالث الصحيح واجب أيضًا، ولأن إهمال العيال حرام وإهلاك النفس جوعًا حرام وإغلاق الباب عليه وسد طريق العلم به وامتحان قدرة الأرزاق حرام، وتصبير النفس على الجوع لمن لا تطيق نفسه من
ذلك وتضطرب عليه حرام كما قال
1 / 8