شرح وتلخيص
الْمُقدمَة
أَفِي تَنْزِيه الله
تَتَضَمَّن الرَّد على الْجَهْمِية والمعتزلة والمشبهة والحشوية فَهُوَ يَقُول الْحَمد لله الَّذِي مَا سبقه شَيْء فَيكون مُحدثا مخلوقا وَلَا بَقِي إِلَى أجل فَيكون فانيا موروثا فَاتَ الْمِقْدَار وَعلا عَن توهم الأذهان تاهت الْأَلْبَاب عَن تكييفه وتحيرت الْعُقُول عَن إِدْرَاكه فَلَا تَشْبِيه وَلَا تجسيم وَإِنَّمَا هُوَ تَنْزِيه مُطلق يتَّفق وجلال الألوهية
ويصل إِلَى خلق الْإِنْسَان فيذكر أَنه سُبْحَانَهُ خلقه لغير وَحْشَة فِي انْفِرَاد أزليته وَلَا استعانة بِهِ على مَا يُريدهُ من تَدْبيره فَلَا قيمَة لما يرويهِ الحشوية وينسبونه إِلَى الرَّسُول كنت كنزا مخفيا فَأَرَدْت أَن أعرف فخلقت الْخلق فَبِي عرفوني
ويفضي بِهِ القَوْل إِلَى آراء الْجَهْمِية فِي تَنْزِيه الله والمعتزلة فِي الذَّات وَالصِّفَات فَيرد عَلَيْهِم فِي سِيَاق الْمُقدمَة فَهُوَ سُبْحَانَهُ علم مَا كَانَ وَمَا يكون وَمَا لَا يكون لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون وَذَلِكَ لِتَفَرُّدِهِ بِعلم الغيوب فَلَا حَاجَة لِلْقَوْلِ بِصِفَات حَادِثَة وَلَا حَاجَة لنفي الصِّفَات بِحجَّة التَّنْزِيه مَا دَامَ الْعلم وَاحِدًا فِي كل حَال والمتغير تعلقه أَي الْمَعْلُوم إِذْ أَن الْعلم هُوَ انكشاف الْمَعْلُوم على مَا هُوَ عَلَيْهِ
1 / 245
ب فِي الْعقل
وَلَقَد استخص الله آدم وَذريته فَأخذ مِنْهُم الْمِيثَاق بِمَا فطرهم عَلَيْهِ من الْعُقُول الرضية والألباب والفهم ليدبروا بهَا شَوَاهِد التَّدْبِير وَأَحْكَام التَّقْدِير وَلنْ يَسْتَطِيع الْإِنْسَان أَن يقدر نعْمَة الله فِي هِبته الْعقل لَهُ حق قدرهَا إِلَّا إِذا عرف أَن الْعُقُول معادن الْحِكْمَة ومقتبس الآراء ومستنبط الْفَهم وَمَعْقِل الْعلم وَنور الْأَبْصَار إِلَيْهَا يأوي كل محصول
وَلِأَنَّهُ تفرد بِعلم الْغَيْب سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ لَا يعرف صِفَاته ومراضيه ومساخطه إِلَّا هُوَ لذا فقد أرسل الرُّسُل فَكَلَّمَهُمْ تكليما لَا بأداة أَو آلَة بل بِذَاتِهِ فخاطبوا الْعقل البشري بِأَمْر الله ﴿لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل﴾ ففضل الْعقل فِي أَنه الأداة الَّتِي تتلقى عَن الرُّسُل شرع الله وَهَذِه هِيَ وَظِيفَة الْعقل أَن يعقل الشَّرْع لَا أَن يشرع ويبتدع من عِنْده فَلم يكن مُمكنا أَن نعْبد الله حق الْعِبَادَة بِغَيْر رِسَالَة وباسم الْعقل لِأَن الْعقل متلق وَلَيْسَ صانعا
الْقسم الأول
لما كَانَ الْقُرْآن بِهَذِهِ المثابة من الأهمية إِذْ أَنه الْمُهَيْمِن على الْعقل فَلَا بُد من تَعْرِيف بِهِ وبحامله وَهُوَ مَا فعله المحاسبي فِي هَذَا الْفَصْل وَقد قسمه إِلَى عدَّة فقرات
أفضائل الْقُرْآن
فقد أَمرهم بالمكارم ونهاهم عَن الآثام والمحارم وَوَعدهمْ فِيهِ جزيل الثَّوَاب وَضرب لَهُم فِيهِ الْأَمْثَال وَفصل لَهُم فِيهِ الْمعَانِي الدَّالَّة على سَبِيل النجَاة وَأَبَان فِيهِ المشكلات وأوضح لَهُم فِيهِ الشواهد فَهُوَ بركَة لقَوْله
1 / 246
تَعَالَى ﴿كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك﴾ ليعلموا بذلك أَنه يدلهم على النجَاة وينالون باتباعه الزلفى والكرامة وَهُوَ أحسن الحَدِيث تَصْدِيقًا لقَوْله تَعَالَى ﴿الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها مثاني تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم﴾ فَأخْبرهُم أَنه لَا حَدِيث يُشبههُ فِي حسنه وَأخْبر أَنه متشابه غير مُخْتَلف فِيهِ وَسَماهُ بِأَحْسَن الْأَسْمَاء فَقَالَ ﴿لكتاب عَزِيز﴾
وَقَالَ أَن مَا قبله من الْكتب مُصدق لَهُ وَشَاهد وَأخْبر أَنه مَحْفُوظ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه فَهُوَ نور اللَّيْل المظلم وضياء النَّهَار وَيجب الْعَمَل بِهِ على مَا كَانَ من جهد وفاقة
ب فَضَائِل الْقُرَّاء
أما الَّذين يَتلون الْقُرْآن ويتدبرونه فهم أَوْلِيَاء الله الَّذين نعتهم بقوله ﴿تقشعر مِنْهُ جُلُود﴾ وتبكي أَعينهم وتطمئن قُلُوبهم إِلَى ذكر الله ﷿ وَقد ضمن الله لهَؤُلَاء أَن من اتبع مِنْهُم مَا فِي كِتَابه من الْهدى الْإِجَارَة من الضَّلَالَة فِي الدُّنْيَا والسعادة فِي الْآخِرَة والنجاة من الشَّقَاء قَالَ الله ﷿ ﴿فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى﴾
ثمَّ روى أَحَادِيث كَثِيرَة فِي فضل حاملي الْقُرْآن وقراءته فَلَو ذاب أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض حِين يسمعُونَ كَلَام الله ﷿ أَو مَاتُوا خمودا أَجْمَعُونَ لَكَانَ ذَلِك حق لَهُم وَلما كَانَ ذَلِك كثيرا إِذْ تكلم الله ﷿ بِهِ تكليما من نَفسه من فَوق عَرْشه من فَوق سبع سمواته وَإِذا كَانَ كَلَام الْعَالم أولى بالاستماع من كَلَام الْجَاهِل وَكَلَام الوالدة الرؤوم أَحَق بالاستماع من كَلَام غَيرهَا وَالله أعلم الْعلمَاء وأرحم الرُّحَمَاء فَكَلَامه أولى كَلَام بالاستماع والتدبر والفهم فَإِذا اجْتمع هم الْقُرَّاء وَحضر زكتْ أذهانهم وَإِذا زكتْ قويت على طلب الْفَهم واستبانت الْيَقِين وصفت للذّكر
1 / 247
الْقسم الثَّانِي
فِي فقه الْقُرْآن
يَنْبَغِي لتالي الْقُرْآن أَن يعرف ناسخه ومنسوخه محكمه ومتشابهه وعامه وخاصه ومقدمه ومؤخره وموصوله ومفصوله وغريبه وَمَا لَا يعرف مَعْنَاهُ إِلَّا باللغة أَو بِالسنةِ أَو بِالْإِجْمَاع قَالَ ابْن عَبَّاس أنزل الْقُرْآن على أَرْبَعَة أوجه حَلَال وَحرَام وَلَا يسع جَهله وَتَفْسِير يُعلمهُ الْعلمَاء وعربية تعرفها الْعَرَب وَتَأْويل لَا يُعلمهُ إِلَّا الله
الْقسم الثَّالِث
مَا يجوز فِيهِ النّسخ وَمَا لَا يجوز فِيهِ ذَلِك
بعد أَن ذكر أَن فِي الْقُرْآن نَاسِخا ومنسوخا وَرَأى أَن على قَارِئ الْقُرْآن المتدبر لَهُ معرفَة ذَلِك قَالَ إِن فِي الْقُرْآن مَعْنيين لَا يجوز فيهمَا النّسخ وَمن دَان بِأَنَّهُ يجوز فيهمَا النّسخ فقد كفر
١ - صِفَات الله وأسماؤه
فَلَا يحل لأحد أَن يعْتَقد أَن مدح الله جلّ شَأْنه وَلَا صِفَاته وَلَا أسماؤه يجوز أَن ينْسَخ جلّ وَعز وصف نَفسه بصفاته الْكَامِلَة فَمن أجَاز النّسخ فِيهَا أجَاز أَن يُبدل أسماءه الْحسنى فيبدلها قبيحة وَصِفَاته الْعليا فَتكون دنية نَاقِصَة سفلى ومدحه الظَّاهِر فَتكون مذمومة دنية جلّ وَتَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا
٢ - وأخباره تَعَالَى عَمَّا كَانَ وَيكون
لِأَنَّهُ بذلك يكون منصرفا من الصدْق إِلَى الْكَذِب وَمن الْحق إِلَى الْهزْل
1 / 248
واللعب وَإِنَّمَا ينْسَخ أخباره الْكذَّاب أَو الْمخبر بِالظَّنِّ والمحاسبي ينْطَلق من الْمُقدمَة السَّابِقَة ليهاجم طوائف من الشِّيعَة والمعتزلة والحشوية
وَقد سبق أَن أوضحنا أَن الْقرن الأول من عصور الدولة العباسية ساده صراع عنيف بَين الْمُعْتَزلَة والشيعة من جَانب والمحدثين من جَانب آخر وتطرف كل من الْفَرِيقَيْنِ فِي موقفه فَكَانَ كتاب المحاسبي هَذَا لإعادة الْأَمر إِلَى نصابه بَعيدا عَن الغالين والمقصرين المفرطين والمفرطين وَقد رأى المحاسبي أَن القَوْل بالنسخ فِي الْأَخْبَار وَالْأَخْذ بالمتشابه فِي صِفَات الله يُؤَدِّي إِلَى نتائج لَيست من الْإِسْلَام فِي شَيْء
البدوات وحدوث الارادات
إِن النّسخ فِي الْأَخْبَار يُوجب بالْخبر الثَّانِي الْكَذِب فِي الْخَبَر الأول كَمَا يلْزم مِنْهُ البداء والبداء من الْجَهْل وَذُو البدوات جَاهِل بِمَا يكون فِيمَا يسْتَقْبل وَالله ﷾ يَقُول لَا تَبْدِيل لكلماته وَقد أول بعض من يَدعِي السّنة وَبَعض أهل الْبدع ذَلِك على الْحُدُوث فَأَما من ادّعى السّنة فَأَرَادَ إِثْبَات الْقدر فَقَالَ إِرَادَة الله ﷿ أحدث من تَقْدِيره فتقديره سَابق لإرادته
وَأما أهل الْبدع فزعموا أَن إِرَادَة الله ﷿ بهَا كَون الْمَخْلُوق فَزَعَمت أَن الْخلق غير الْمَخْلُوق وَأَن الْخلق هُوَ الْإِرَادَة
وَيرد عَلَيْهِم المحاسبي ردا هُوَ رد الأشاعرة وَالْغَزالِيّ فِيمَا بعد أَن الْعلم هُوَ انكشاف الْمَعْلُوم على مَا هُوَ عَلَيْهِ مَاضِيا وحاضرا ومستقبلا والإرادة تَخْصِيص لزمان وُقُوع الْفِعْل وَأما قَوْله ﴿إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون﴾ وَقَوله ﴿وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا﴾ فَإِنَّهُ لم يزل يُرِيد قبل أَن يحدث الشَّيْء أَن يحدثه فِي وَقت إحداثه فَلم يزل يُرِيد إحداثه فِي الْوَقْت الْمُؤخر فَإِذا جَاءَ الْوَقْت فَهُوَ أَيْضا يُرِيد أَن يحدثه فِيهِ فبإرادته أحدثه فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي فِيهِ أحدثه فإرادته ﷿ دائمة لِأَنَّهُ مُرِيد قبل
1 / 249
الْوَقْت وَفِي الْوَقْت الَّذِي أحدثه فِيهِ فَأَرَادَ بقوله ﷿ ﴿إِذا أردناه﴾ إِذا جَاءَ الْوَقْت الَّذِي هُوَ فِيهِ وَهُوَ لَهُ قبل فِي الْوَقْت مُرِيد فأوقع إِذا على الْإِرَادَة وَإِنَّمَا أَرَادَ الْوَقْت وَهُوَ مُرِيد لَهُ أَيْضا فِي الْوَقْت وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة يَعْنِي الْوَقْت الَّذِي أردناه من قبل إِذا جَاءَ الْوَقْت أهلكناه فِيهِ لَا على البدء مِنْهُ بِإِرَادَة أُخْرَى
السّمع وَالْبَصَر
وَكَذَا السّمع وَالْبَصَر مَعْنَاهُمَا انكشاف المسموع والمبصر على مَا هما عَلَيْهِ لَا بِآلَة وَالْمرَاد من مثل قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّا مَعكُمْ مستمعون﴾ أَن المسموع والمبصر لم يخف على أَن أدْركهُ سمعا وبصرا لَا بالحوادث فِي الله ﷿ وَمن ذهب إِلَى أَنه يحدث لَهُ اسْتِمَاع مَعَ حُدُوث المسموع وإبصار مَعَ حُدُوث المبصر فقد ادّعى على الله ﷿ مَا لم يقل
الْعُلُوّ
والْحَارث سلفي فِي مَسْأَلَة الْعُلُوّ والعرشية فَهُوَ يَقُول أَنه تَعَالَى على عَرْشه بَائِن عَن خلقه وَيرد على أُولَئِكَ الَّذِي يَقُولُونَ أَنه تَعَالَى فِي كل مَكَان بِذَاتِهِ وهم الْجَهْمِية وَأهل الْحُلُول من المتصوفة وَقد عاصر الْحَارِث المنزهة المخطئين كَمَا عاصر جمَاعَة من الحلولية مِنْهُم أَبُو حَمْزَة الصُّوفِي الَّذِي كَانَ لَهُ وقائع مَعَه أما مَا ورد فِي الْقُرْآن من مثل قَوْله تَعَالَى ﴿مَعَهم أَيْن مَا كَانُوا﴾ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَغَيرهَا فَذَلِك مَوْجُود فِي اللُّغَة إِذْ يَقُول
1 / 250
الْقَائِل من بخراسان فَيُقَال ابْن طَاهِر وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَوضِع فَجَائِز أَن يُقَال أَمِير فِي خُرَاسَان فَيكون أَمِيرا فِي بَلخ وسمرقند وكل مدنها هَذَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَوضِع وَاحِد يخفى عَلَيْهِ مَا وَرَاء بَيته وَلَو كَانَ على ظَاهر اللَّفْظ مَا جَازَ أَن يُقَال أَمِير فِي الْبَلَد الَّذِي هُوَ فِيهِ وَلَا فِي بَيته كُله وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَوضِع مِنْهُ لَو كَانَ معنى هَذَا الْكَوْن فَكيف العالي فَوق كل شَيْء وَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من الْأَشْيَاء يدبره فَهُوَ إِلَه أهل السَّمَاء وإله الأَرْض
الحشوية والنسخ فِي الْأَخْبَار
وَافق الحشوية بعض الروافض فِي القَوْل بنسخ الْأَخْبَار دون أَن يقصدوا إِلَى ذَلِك فَقَالَ الْكَلْبِيّ أَنه لما نزلت ﴿إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم﴾ نسخهَا بقوله ﴿إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى﴾ وَمعنى ذَلِك أَن لَو لم يكن نسخهَا أَن الله ﷿ قَالَ ﴿إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم﴾ أَنه أَرَادَ بِهِ أَن يعذب عُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَة والمسيح فَأوجب عَلَيْهِم الْعَذَاب ثمَّ نسخ ذَلِك بعد مَا أوجبه كَمَا أوجب قيام اللَّيْل ثمَّ نسخه ومعاذ الله أَن يكون الله ﷿ أَرَادَ وَأحب تَعْذِيب أوليائه من الْمَلَائِكَة وَلَا الْمَسِيح وَلَا عُزَيْر وَقد تقدّمت فيهم أَخْبَار من الله ﷿ بِالْولَايَةِ قبل أَن ينزل آيَة الْعَذَاب فَلَمَّا نزلت أَيَّة الْعَذَاب لم يرد بهَا من تقدم مِنْهُ القَوْل بولايتهم وَإِنَّمَا أَرَادَ من عبدُوا سوى أوليائه وَكَانَ خَبرا خَاصّا لَا عَاما
ثمَّ ذكر أَمْثِلَة أُخْرَى من الْأَخْبَار الَّتِي ظَاهرهَا الْعُمُوم وَهِي خَاصَّة فِي طَائِفَة مُعينَة أَو وَاقعَة مُعينَة
أَيْن يجوز النّسخ
فالناسخ والمنسوخ لَا يجوز أَن يَكُونَا إِلَّا فِي الْأَحْكَام فِي الْأَمر وَالنَّهْي وَالْحُدُود والعقوبات فِي أَحْكَام الدُّنْيَا
1 / 251
وَلَا يَعْنِي ذَلِك البداء أَو التَّنَاقُض وَلكنه أَمر بِأَمْر وَحكم بِحكم وَهُوَ يُرِيد أَن يُوجِبهُ إِلَى وَقت وَيُرِيد أَن يَأْمر بِتَرْكِهِ بعد ذَلِك الْوَقْت فَلم يزل مرِيدا للْفِعْل الأول إِلَى الْوَقْت الَّذِي أَرَادَ نسخه وإيجاد بدله وَلَا ينْسَخ أمره وَلَكِن ينْسَخ الْمَأْمُور بِهِ بمأمور آخر وَذَلِكَ مَوْجُود بَين الْعباد على تقدم الْإِرَادَة مِنْهُم فِيمَا أمروا بِهِ أَولا ثمَّ نهوا عَنهُ وَأمرُوا بِغَيْرِهِ من غير بَدو وَلَا جهل وَذَلِكَ كَأَن يَأْمر الرجل غُلَامه ليعْمَل فِي أرضه وَهُوَ يُرِيد أَن يعْمل فِيهَا وَقت الزِّرَاعَة ثمَّ يصرفهُ بعد ذَلِك إِلَى خدمته فِي منزله وَكِلَاهُمَا قد تقدّمت بِهِ الْإِرَادَة مِنْهُ
ثمَّ ذكر أَن الْمُعْتَزلَة رغم ضلالهم وافقوا أهل السّنة فِي امْتنَاع نسخ الْأَخْبَار وَجَوَاز نسخ الْأَحْكَام لكِنهمْ أفضوا من هَذِه الْمُقدمَة السليمة إِلَى نتيجة فَاسِدَة هِيَ
القَوْل بِخلق الْقُرْآن
وَلَهُم على ذَلِك حجتان
أَن كَلَام الله مَخْلُوق لِأَنَّهُ ينْسَخ كَلَامه بِكَلَامِهِ فِيمَا أَمر بِهِ وَنهى عَنهُ وَلَو لم يكن مخلوقا مَا جَازَ عَلَيْهِ النّسخ وَلَا التبديل
وَقد رد عَلَيْهِم الْحَارِث بِأَن هَذَا التَّفْسِير مِنْهُم للنسخ تمحل وَجَهل بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيّ إِذْ أَن الله لم ينْسَخ كَلَامه وَإِنَّمَا نسخ مَأْمُورا بِهِ بمأمور بِهِ فأبدل أَحدهمَا مَكَان الآخر وَكِلَاهُمَا كَلَامه وَإِنَّمَا ينْسَخ كَلَامه الأول بِكَلَام مِنْهُ ثَان الْكَاذِب الرَّاجِع عَمَّا قَالَ فَأَما إِذا كَانَا جَمِيعًا مِنْهُ حق وَصدق فَلَا نسخ إِلَّا فِي الْمَأْمُور وَالله سُبْحَانَهُ يَقُول ﴿لَا مبدل لكلماته﴾ وَيَقُول ﴿يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله﴾ فَدلَّ الله ﷿ بذلك أَن فِي تبدل كَلَام الله إِيجَاب الْكَذِب وَالله ﷿ لَا يُبدل كَلَامه وَلَا ينْسَخ قَوْله وَإِنَّمَا ينْسَخ فَرْضه بِفَرْض آخر
1 / 252
ب ﴿مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا﴾ فَقَالُوا مَا جَازَ فِيهِ أَن يكون بعضه خيرا من بعض فَهُوَ مَخْلُوق لِأَنَّهُ إِذا كَانَ شَيْء هُوَ خير من شَيْء فقد فَضله وَالْآخر مَنْقُوص وَقَالَ أَو مثلهَا وَمَا كَانَ لَهُ فَهُوَ مَخْلُوق لِأَن الْمثل يشْتَبه بِمثلِهِ وَمَا جَازَ أَن يَأْتِي بِهِ الله ﷿ فيحدثه فَهُوَ مَخْلُوق وكل مَخْلُوق فَمثله مَخْلُوق لِأَن حكم الْمثل حكم مثله وجهلوا التَّأْوِيل إِنَّمَا قَوْله جلّ وَعز ﴿نأت بِخَير مِنْهَا﴾ بِخَير مَأْمُور بِهِ خير مِنْهَا لَا يَعْنِي خيرا من التَّوْحِيد وَإِنَّمَا يَعْنِي لَهُ فِيهَا خير كَمَا يُقَال الدَّرَاهِم خير من المَال لَا يُرِيد أفضل من المَال وَإِنَّمَا يَعْنِي لَهُ فِيهَا خير أَي يُرِيد الدَّرَاهِم من المَال خير وَمن زعم أَن كَلَامه ﷿ فِي ﴿فاقرؤوا مَا تيَسّر مِنْهُ﴾ خير من قَوْله ﴿يَا أَيهَا المزمل قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا﴾ كَانَ كَافِرًا بِاللَّه ﷿ إِذْ ازدرى كَلَام الله وَزعم أَنه مَنْقُوص دني
الْقسم الرَّابِع مَعَ الْمُعْتَزلَة دفاع والتزامات
دَعْوَى الْمُعْتَزلَة
وَقد ادّعى علينا بعض أهل الْبدع من الْمُعْتَزلَة أَنا نزعم أَن الله ﷿ ينْسَخ أخباره وَصِفَاته فَقَالُوا أَن الله ﷿ أخبر أَنه يعذب الْقَاتِل وَالزَّانِي وشارب الْخمر وآكل مَال الْيَتِيم ظلما وَلم يسْتَثْن مِنْهُم أحدا فزعمتم أَنه جَائِز أَن يغْفر الله لبَعض أهل الْكَبَائِر وَأَنه لَا يغْفر لبَعْضهِم
ويصل الْأَمر إِلَى الصِّفَات فَيَقُول الْمُعْتَزلَة زعمتم أَن الله جلّ وَعز امتدح بِأَن الْأَبْصَار لَا تُدْرِكهُ ثمَّ زعمتم أَن هَذِه المدحة تبدل فِي الْآخِرَة فتراه الْعُيُون وَهَذَا نسخ الْمَدْح لِأَنَّهُ امتدح بِأَن الْأَبْصَار لَا تُدْرِكهُ وَلم يسْتَثْن فزعمتم أَنه تُدْرِكهُ فِي الْآخِرَة نظرا
1 / 253
وَلَو جَازَ أَن يغْفر الله لأهل الْكَبَائِر لجَاز أَن يغْفر للْكفَّار لِأَنَّهُ كَذَلِك قَالَ ﴿وَإِنِّي أعذبهم﴾
وَيرد الإِمَام المحاسبي عَلَيْهِم بِأَنَّهُم أبعدوا فِي الْقيَاس وَإِنَّمَا أَتَوا من قبل الْجَهْل بخطاب الله وتأويله وغفلتهم عَن عُلُوم الْقُرْآن فأخبار الله ومدحه لَا تنسخ لَكِن من الْأَخْبَار عَاما وخاصا وان اتّفق ظَاهر تلاوتها فِي الْعُمُوم فَهُوَ مُخْتَلف فِي مَعَاني الْعُمُوم وَالْخُصُوص
فِي الْوَعْد والوعيد
فَأَما مَا ادعوا علينا فِي الْوَعيد فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِل إِذْ أَن الله جلّ عز أوجب لأهل الْكَبَائِر الْعَذَاب وَهُوَ يُرِيد أَن ذَلِك عَلَيْهِم وَأَنَّهُمْ لَهُ مستحقون وَلم يرد أَن يعذبهم أَجْمَعِينَ فَإِن أَرَادَ أَن يعذب بعض من اسْتوْجبَ فيعذبه بعدله وَيَعْفُو عَن بعض من وَجب عَلَيْهِ بفضله وَقد قَالَ الله تَعَالَى ﴿إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء﴾ فأيسنا من عَفوه عَن الْمُشْركين ورجونا عَفوه عَن بعض أَصْحَاب الْكَبَائِر دونما تعْيين
وَرَأى المحاسبي بعد هَذَا أَن الْمُعْتَزلَة يُمكن أَن يلجأوا إِلَى ظواهر الْآيَات مَعَ أَنهم هم متطرفة المؤولة فتتبعهم فِي ذَلِك وسد عَلَيْهِم الطَّرِيق بحجج من كَلَامهم نَفسه وألزمهم عدَّة الزامات
الزام الْمُعْتَزلَة
يُوجب الْمُعْتَزلَة على الله عِقَاب الْكفَّار وَأَصْحَاب الْمعاصِي كَمَا يوجبون الْمَغْفِرَة لأَصْحَاب الصَّغَائِر غير المصرين وَهَذَا الْإِيجَاب يرى فِيهِ المحاسبي خُرُوجًا على الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة ويرتب عَلَيْهِ عدَّة نتائج
أامتناع الْخَوْف والرجاء
إِذْ أَن مرتكب الْكَبِيرَة مستيقن أَنه فِي النَّار ومجتنبها مستيقن أَنه
1 / 254
فِي الْجنَّة إِذا خَافَ أَحدهمَا أَو رجا يكون شاكا فِي وعد الله ووعيده فيكفر والموحدون لَا يَخْلُو أحد مِنْهُم من أَن يكون مجتنبا للكبائر أَو مصرا على بعض الْكَبَائِر أَو دون ذَلِك أَو كِلَاهُمَا فَحَرَام عَلَيْهِم على قَوْلكُم الْخَوْف والرجاء لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أحد مِنْهُم من أَن يكون من إِحْدَى المنزلتين وَهَذَا الْخُرُوج من الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأَوَّلين والآخرين
ب امْتنَاع الْعَفو
وَكَذَلِكَ الْعَفو فِي الْآخِرَة لَا يجوز أَن يكون من الله جلّ ذكره على مذهبكم لِأَنَّهُ لَا يلقى الله إِلَّا صَاحب كَبِيرَة قد أوجب فِي الدُّنْيَا أَلا يعْفُو عَنهُ وَذَلِكَ عنْدكُمْ إِن اعتقده لِأَن الله جلّ ذكره قد آيسه من ذَلِك أَو صَاحب صَغِيرَة غير مصر على كَبِيرَة يعد مجتنبا للكبائر كلهَا فقد عفى الله عَنهُ فِي الدُّنْيَا وَقد مَاتَ يَوْم مَاتَ وَهُوَ مغْفُور لَهُ من أهل الْجنَّة فَلَا يحْتَاج إِلَى الْعَفو والصفح وَهَذَا الْخُرُوج من الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْقُرُون من الْأَوَّلين والأخرين إمتناع شَفَاعَة النَّبِي ﷺ
لِأَن صَاحب الْكَبِيرَة معذب لَا محَالة فَلَا يَسْتَطِيع الرَّسُول ﷺ أَن يشفع لَهُ وَلَا تغني عَنهُ شَفَاعَته شَيْئا والمجتنب للكبائر مثاب لَا محَالة فَلَا حَاجَة بِهِ إِلَى الشَّفَاعَة وَهَذَا رد للآراء المستفيضة عَن النَّبِي ﷺ وَالْأمة كلهَا جاهلها وعالمها كلهم يرجون شَفَاعَة النَّبِي ﷺ
الْقسم الْخَامِس
فِي ذكر النَّاسِخ والمنسوخ من الْأَحْكَام
بَعْدَمَا خَاضَ المحاسبي معركة مَعَ المشبهة والمعتزلة وَالرَّوَافِض حول
1 / 255
النَّاسِخ والمنسوخ وَالْعَام وَالْخَاص فِي الْقُرْآن أَرَادَ أَن يرسم الطَّرِيق الصَّحِيح الَّذِي يَنْبَغِي أَن يتبع فِي فهم الْقُرْآن وَمَعْرِفَة مَعَانِيه فعقد هَذَا الْبَاب للناسخ والمنسوخ ثمَّ عرض بعد ذَلِك لدقائق ولطائف فِي التَّفْسِير
بَدَأَ المحاسبي هَذَا الْقسم بتقسيم الْقُرْآن إِلَى مكي ومدني ليعرف الْمُتَقَدّم من الْمُتَأَخر وَهُوَ الْأَمر الْقَاطِع فِي معرفَة النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ وَبعد أَن عدد أراء الْعلمَاء فِي عدد السُّور المكية والمدنية عرض لمميزات كل من الْمَكِّيّ وَالْمَدَنِي بإيجاز ثمَّ تحدث فِي النَّاسِخ والمنسوخ فَقَسمهُ إِلَى خَمْسَة عشر بَابا
١ - مَا رفع رسمه من الْكتاب وَلم يرفع حفظه من الْقُلُوب فَأثْبت حكمه بِسنة النَّبِي ﷺ كآية الرَّجْم وَغَيرهَا
٢ - مَا رفع حكمه من الْآيَة بِآيَة أُخْرَى وَبَقِي رسمه ثَابتا فِي كتاب الله ﷿ مِنْهُ ﴿إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ﴾ الْآيَة
٣ - أَن يرفع رسمه من الْكتاب وَيرْفَع حفظه من الْقُلُوب وَحكمه حَدثنَا الْقَاسِم بن سَلام قَالَ حَدثنَا عبد الله بن صَالح عَن لَيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن أبي أَمَامه أَن رجلا كَانَت مَعَه سُورَة فَقَامَ يقْرَأ من اللَّيْل فَلم يقدر عَلَيْهَا وَقَامَ آخر يقْرؤهَا فَلم يقدر عَلَيْهَا فَقَالَ النَّبِي ﵇ إِنَّهَا نسخت البارحة
٤ - أَن يرفع رسمه من الْكتاب وَيبقى حفظه فِي الْقُلُوب وَيرْفَع حكمه من ذَلِك مَا رَوَت عَائِشَة أَنه كَانَ فِيمَا أنزل الله أَلا يحرم إِلَّا عشر رَضعَات وَالْأمة مجمعة على أَن حكم الْعشْر رَضعَات غير لَازم فِي الْكتاب وَالسّنة وَإِنَّمَا اخْتلف الْعلمَاء فِي رضعة أَو خمس رَضعَات وَلم يقل أحد مَا فَوق الْخَمْسَة
٥ - أَن يرفع الرَّسْم وَيرْفَع الحكم لعِلَّة فانقضت تِلْكَ الْعلَّة وَذَلِكَ كَقَوْلِه ﴿وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا﴾
1 / 256
٦ - أَن يفعل النَّبِي ﷺ أَو يَأْمر أمته بِفعل لَيْسَ بِنَصّ كتاب الله ﷿ فينسخه الله بِحكم أنزلهُ فِي كِتَابه فَيثبت الحكم فِي الْكتاب من ذَلِك نسخ الصَّلَاة إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَنَهْيه عَن الاسْتِغْفَار لِعَمِّهِ
٧ - أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْآيَتَيْنِ ناسخة إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى أم غير ناسخة وَإِن أَجمعُوا أَن يستعملوا الَّتِي اخْتلفُوا فِيهَا أمنسوخة أم لَا على التَّجَوُّز وَالِاحْتِيَاط لَا على الْقطع من ذَلِك قَوْله ﴿وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ﴾ ثمَّ قَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ ﴿إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم﴾ فَقَالَ عَليّ وَعُثْمَان أَحَلَّتْهُمَا آيَة وحرمتهما أُخْرَى
٨ - أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْآيَتَيْنِ أناسخة إِحْدَاهمَا أم لَا ويجمعوا على إِثْبَات حكمهَا فِي مَعْنيين مُخْتَلفين من ذَلِك ﴿وَلَا تجْهر بصلاتك وَلَا تخَافت بهَا﴾ لَا تخَافت عَن أَصْحَابك فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يَأْخُذُوا عَنْك وَلَا تجْهر حَتَّى لَا يسب الْمُشْركُونَ الْقُرْآن وَكَانَ ذَلِك بِمَكَّة
٩ - أَن أَصْحَاب مُحَمَّد ﵇ اخْتلفُوا فِي آيَتَيْنِ هَل نسخت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى وحكمهما جَمِيعًا ثابتان ثمَّ أَجمعت الْعلمَاء بعد عصرهم من التَّابِعين وَمن بعدهمْ أخذا عَن سنة النَّبِي ﵇ أَن إِحْدَاهمَا نسخت الْأُخْرَى وَأَنَّهَا معدلة لبَعض حكمهَا من ذَلِك قَوْله ﷿ ﴿وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا﴾ وَقَوله ﴿وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ﴾ فَاخْتلف الصَّحَابَة فَقَالَ ابْن مَسْعُود إِن سُورَة النِّسَاء الْقصرى أنزلت بعد وَقَالَ غَيره تربص آخر الْأَجَليْنِ وَالْأمة مجمعة الْيَوْم أَن الْآيَة فِي الْحَامِل قد ثَبت حكمهَا وَأَنَّهَا لَا تَتَرَبَّص آخر الْأَجَليْنِ وَذَلِكَ أَنه ثَبت عَن النَّبِي ﷺ أَنه أَمر سبيعة أَن تتَزَوَّج بعد وَفَاة زَوجهَا بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا
١٠ - أَن يجمع الْعلمَاء على نسخ آيَة ثمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي الناسخة مَاذَا أوجبت من الحكم فيجمعوا على حكم أَنَّهَا أوجبته وَنسخت مَا قبله ويختلفون فِي غَيره أثبت بالناسخة أم لَا
1 / 257
١١ - أَن يخْتَلف الصَّدْر الأول من أَصْحَاب النَّبِي (ص) فِي الْآيَتَيْنِ أَنْسَخْت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى أم لم تنسخها ثمَّ يجمع الْعلمَاء على أَن إِحْدَاهمَا هِيَ المحكمة من ذَلِك الْآيَتَانِ ﴿والزانية لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان﴾ ﴿وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات﴾
١٢ - أَن تخْتَلف الْأمة فِي الْآيَة أَولهَا وَآخِرهَا فِي آيَتَيْنِ هَل نسخت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى ثمَّ لَا يجمعُونَ على وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ من ذَلِك قَوْله جلّ وَعز من قَائِل فِي أهل الذِّمَّة ﴿فَإِن جاؤوك فاحكم بَينهم أَو أعرض﴾
١٣ - الَّذِي أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة أَنه نَاسخ فمنسوخ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِك
١٤ - أَن يخْتَلف الْعلمَاء فِي نسخ آيَة أَو عَدمه بِنَاء على الِاخْتِلَاف فِي تَفْسِيرهَا من ذَلِك ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا﴾ فَأَجْمعُوا أَنه أسقط الْفسق بِالتَّوْبَةِ فَقَالَ بَعضهم نسخه وَقَالَ بَعضهم لم يردهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ من لم يتب فَقَالَ بَعضهم لم يرد التائب فِي ترك الْقبُول الشَّهَادَة ثمَّ اخْتلفُوا فِي الشَّهَادَة
١٥ - مَا اخْتلفُوا أَنه مَنْسُوخ وَلَا يجوز عِنْد أهل النّظر أَن يكون فِي الْكتاب وَالسّنة من ذَلِك قَوْله ﷿ ﴿إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم﴾ وَقد سبق أَن ذكرنَا رَأْي الْحَارِث فِيمَا ذكره الْكَلْبِيّ حول نسخ هَذِه الْآيَة
ويلاحظ أَن أَكثر مَا ذكره الْحَارِث مِمَّا اخْتلف فِيهِ يُمكن إرجاعه إِلَى نوع وَاحِد وَتبقى أَنْوَاع ثَلَاثَة مَنْسُوخ حكما وتلاوة ومنسوخ حكما ثَابت تِلَاوَة ومنسوخ تِلَاوَة ثَابت حكما
1 / 258
الْقسم السَّادِس
من أساليب الْقُرْآن
وأفضى بالمحاسبي الحَدِيث إِلَى تنَاول بعض جَوَانِب التَّفْسِير مِمَّا يتَّصل بالنحو والبلاغة وَلَا شكّ أَن هَذَا أثر من آثَار بيئته الثقافية سِيمَا وَأَن من أساتذته أَبَا عبيد الْقَاسِم بن سَلام صَاحب كتاب غَرِيب الحَدِيث الَّذِي يعرض لموضوعات مشابهة والمخطوط نَاقص من آخِره سطورا أَو صفحات والأمور الَّتِي نبه إِلَيْهَا الْحَارِث الناظرين فِي الْقُرْآن بعد حَدِيثه المسهب فِي النَّاسِخ والمنسوخ هِيَ
التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير
لِأَن الْعَرَب قد كَانَت تفعل ذَلِك فِي تراجعها بَينهَا ومخاطبتها قبل أَن ينزل الْكتاب على نبيه ﵇ من ذَلِك قَوْله ﴿فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر﴾ وَلَا شكّ أَن النّذر مُقَدّمَة على الْعَذَاب فِي الْوَاقِع وَقَوله ﴿من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين﴾ فَبَدَأَ بِالْوَصِيَّةِ وَسنة النَّبِي ﷺ البدء بِالدّينِ وَقَوله لَهُم غرف من فَوْقهم غرف مقدم ومؤخر وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَهُم غرف مَبْنِيَّة من فَوْقهَا غرف كَذَلِك وَكَذَلِكَ فَسرهَا أهل التَّفْسِير
الْإِضْمَار
من ذَلِك قَوْله ﴿وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل﴾ وَإِنَّمَا هُوَ حب الْعجل وَقَوله ﴿واسأل الْقرْيَة﴾ أَي أهل الْقرْيَة واسأل ﴿العير﴾ أَي أَصْحَاب العير وَقَوله ﴿يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق﴾ وَمَعْنَاهُ ونقول ذوقوا
الْحُرُوف الزوائدة
من ذَلِك ﴿غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين﴾ فَلَا زَائِدَة وَقَوله ﴿خَلقكُم وَالَّذين من قبلكُمْ﴾
1 / 259
من زَائِدَة وَقَوله ﴿إِن الله لَا يستحيي أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة﴾ مَا زَائِدَة وَهِي توكيد وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَن يضْرب مثلا بعوضة فَزَاد قَوْله مَا توكيدا
الْفَصْل والوصل
وَفصل الْكَلِمَة عَن الْكَلِمَة إِذا انْفَرَدت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا بِمَعْنى هُوَ الْمَعْنى الَّذِي فِي الْأُخْرَى وَكَانَ لَا يتم الْمَعْنى إِلَّا بتواصلهما جَمِيعًا فَهُوَ موصل ومفصل من هَذِه الْجِهَة وَهُوَ مفصل من معنى آخر إِن الله جلّ ذكره بَينه كُله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿فصلناه تَفْصِيلًا﴾ وَقَالَ عز من قَائِل ﴿أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت﴾
وَمن الْفَصْل فصل يكون كفرا كالوقوف عِنْد لَا إِلَه من لَا إِلَه إِلَّا الله وَمن الْوَصْل وصل يكون خطأ وعَلى قَارِئ الْقُرْآن أَن يُرَاعِي ذَلِك كُله
وواضح كَمَا قُلْنَا أثر كتاب الْمجَاز لأبي عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى وَأثر شَيْخه أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام
1 / 260
= كتاب فهم الْقُرْآن ومعانيه
1 / 261
فهم الْقُرْآن
لأبي عبد الله الْحَارِث بن أَسد المحاسبي
فِي تَنْزِيه الله
عونك اللَّهُمَّ
الْحَمد لله الَّذِي مَا سبقه شَيْء فَيكون مُحدثا مخلوقا وَلَا بَقِي إِلَى أجل فَيكون فانيا موروثا
الأول الْقَدِيم الدايم الْكَرِيم فَاتَ الْمِقْدَار وَعلا عَن توهم الأذهان
تاهت الْأَلْبَاب عَن تكييفه وتحيرت الْعُقُول عَن إِدْرَاكه تفرد بِعلم الغيوب فَعلم مَا كَانَ وَمَا يكون وَمَا لَا يكون لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون
1 / 263
خلق الْخلق لغير وَحْشَة فِي انْفِرَاد أزليته وَلَا استعانة بهم على مَا يُرِيد من تَدْبيره
لَكِن أَرَادَ أَن ينشر رَحمته ويمن بفضله ويستخلص من يَشَاء من بريته فابتدأ آثَار الْقُدْرَة وَأحكم الصنع وأتقن التَّدْبِير وابتدأ بالطول وَبعد بالمن فَعم بِهِ عباده عدلا وأوسعهم فضلا فَلهُ الْحَمد وَالثنَاء شكرا
لم يخلق خلقه عَبَثا وَلَا تَركهم سدى وَلَكِن أَرَادَ أَن يتعرف إِلَى عباده بآياته الْبَيِّنَة ودلايله الْوَاضِحَة ليؤدوا وَاجِب حَقه ويجتنبوا مساخطه لغير حَاجَة إِلَى طاعتهم وَلَكِن ليستحق الثَّوَاب من أناب وَأجَاب وَيسْتَحق الْعقَاب من جحد وارتاب
فاستخص آدم وَذريته فَأخذ مِنْهُم الْمِيثَاق بِمَا فطرهم عَلَيْهِ من الْعُقُول الرضية والألباب والفهم ليدبروا بهَا شَوَاهِد التَّدْبِير وَأَحْكَام التَّقْدِير فألزمهم بذلك حجَّة من عُقُولهمْ بِمَا شاهدوا من إنشائه وإتقان صنعه فِي أنفسهم وَفِي جَمِيع خلقه ثمَّ أكد الْحجَّة عَلَيْهِم بإرسال الرُّسُل إِلَيْهِم فنبههم على النّظر بِمَا
1 / 264
شاهدوا من الْآيَات الظَّاهِرَة والدلايل الْبَيِّنَة لم يظْهر لَهُم سُبْحَانَهُ بِنَفسِهِ فيبدي لَهُم عَظمته ويخاطبهم دون رسله
وَلم تكن الرُّسُل لتعرف صِفَاته وَلَا مَا يحب وَيكرهُ فيعلموا غيبه كَمَا علم غيوبهم فَيَكُونُوا أَرْبَابًا مثله جلّ وَعلا عَن ذَلِك وَتَعَالَى وَلم يَكُونُوا ليعرفوا صِفَاته وَلَا مَا فِي نَفسه مِمَّا يحب وَيكرهُ وَمَا يُرِيد أَن يكرم بِهِ من أطاعه وَلَا مَا يهين بِهِ من عَصَاهُ أبدا
ثمَّ تكلم بذلك تكليما بِذَاتِهِ فأكد عَلَيْهِم الْحجَّة بِكَلَامِهِ وَاخْتَارَ إرْسَال الْأَنْبِيَاء من عباده فأرسلهم بِكَلَامِهِ وَوصف لَهُم صِفَاته الْكَامِلَة وأسماءه الْحسنى وَمَا يرضى بِهِ من الْمقَال والفعال وَمَا يسخطه من الْأَعْمَال وَمَا أعد لمن أطاعه من الثَّوَاب الجزيل والعيش السَّلِيم وَالنَّعِيم الْمُقِيم وَمَا أعد لأعدائه من أَلِيم الْعَذَاب وشديد الْعقَاب فِي الْيَوْم الَّذِي يعرض فِيهِ عباده وَيُحَاسب خلقه بأهواله وزلازله فَأرْسل بذلك الْأُمَنَاء من رسله فَقطع بهم الْعذر وأزاح بهم الْعِلَل وَقَالَ جلّ من قَائِل ﴿لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل﴾ وَقَالَ
1 / 265