٢ - أخبرنا الشيخ أبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري، أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد الخيري، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا فليح بن سليمان المدني، عن ابن شهابٍ الزهري، عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة ﵂ زوج النبي ﷺ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا: فبرأها الله منه.
قال الزهري: وكلهم حدثني طائفةً من حديثها، وبعضهم أوعى من بعضٍ، وأثبت اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل رجلٍ منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضًا.
زعموا: أن عائشة ﵂ زوج النبي ﷺ قالت: كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يخرج سفرًا، أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، قالت: فأقرع بيننا في غزاةٍ غزاها، فخرج سهمي، وخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودج وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من غزوته تلك، فقفل، ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري ⦗٣٣⦘ فإذا عقدٌ لي من جزع أظفارٍ قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فشغلني ابتغاؤه، فأقبل الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا، لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، وإنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه، وكنت جاريةً حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحدٌ، فأقمت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينما أنا في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك.
وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول، فقدمنا ⦗٣٤⦘ المدينة فاشتكيت بها شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ولا أشعر بشيءٍ من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله ﷺ اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلم علي ثم يقول: كيف تيكم؟ فذلك يريبني ولا أشعر بذلك، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع متبرزنا، لا نخرج إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو التنزه، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي، فعثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطحٌ، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلًا شهد بدرًا؟ فقالت: يا هنتاه، ألم تسمعي ما قالوا فيك؟ قالت: فقلت: وما قالوا: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا على مرضي.
فلما رجعت إلى منزلي دخل علي رسول الله ﷺ فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي إلى أبواي، وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت فأذن لي رسول الله ﷺ فأتيت أبواي فقلت لأمي: ما يتحدث به الناس؟ فقالت: يا بنية، هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كان امرأة قط وضيئة عند رجلٍ يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها، قالت: فقلت سبحان الله، ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: بلى، قالت: فبت ليلتي تلك حتى أصبحت لا يرقى لي دمعٌ، ولا أكتحل بنوم.
ثم أصبحت ودعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيدٍ، حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن ⦗٣٥⦘ زيدٍ، فأشار عليه بالذي يعلم مِن براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثيرٌ، وسل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله ﷺ بريرة، فقال: «يا بريرة هل رأيت منها شيئًا يريبك»، فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيت منها أمرًا أغمصه عليها أكثر من أنها جاريةٌ حديثة السن، تنام عن العجين، فتأتي الداجن فتأكله.
قالت: فقام رسول الله ﷺ من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله ﷺ: «من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي، فوالله فوالله فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل علي إلا معي»، قالت: فقام سعدٌ بن معاذٍ فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ⦗٣٦⦘ ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا ولكن حملته الحمية، فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقال: أسيد بن حضيرٍ، كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافقٌ تجادل عن المنافقين، قال: فتمادى الحيان الأوس والخزرج حتى هموا، ورسول الله ﷺ قائمٌ على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت.
⦗٣٧⦘ قالت: وبكيت يومي لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنومٍ، فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتي ويومي، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، فاستأذنت امرأةٌ من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي.
قالت: فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله ﷺ، فجلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل، وقد مكث شهرًا لا يوحي الله في شأني شيءٌ، قالت: فتشهد ثم قال: «أما بعد: يا عائشة، إنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئةً، فسيبرؤك الله ﷿، وإن كنت ألممت بخطيئةٍ، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف لله بذنبه، ثم تاب، تاب الله عليه».
فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرةً، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله ﷺ فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله ﷺ فيما قال، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، قالت: وأنا جاريةٌ حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلت: إني والله لقد علمت أنكم قد سمعتم بما تحدث به، ووقع في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم: إني بريئةٌ، والله يعلم أني لبريئةٌ لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر الله يعلم أني منه بريئةٌ لتصدقني، والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف إذ قال: ﴿فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون﴾.
قالت: ثم تحولت على فراشي، وأنا أرجو أن يبرئني الله ببرأةٍ، ⦗٣٨⦘ ولكن ما ظننت أن ينزل في شأني وحيٌ، ولا أنا أصغر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يري الله رسوله في النوم رؤيا تبرئني.
قالت: فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحدٌ من السكن، حتى أنزل عليه، فأخذه من البرحاء حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شاتي، فلما سري عن رسول الله ﷺ وهو يضحك، كان أول كلمةٍ تكلم بها رسول الله ﷺ أن قال: «يا عائشة، احمدي الله فقد برأك الله».
قالت لي أمي: قومي إلى رسول الله ﷺ، فقلت: لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله ﷿، وأنزل الله ﷿: ﴿إن الذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم ..﴾ الآيات كلها.
فلما أنزل الله ﷿ هذا في برأتي، قال أبو بكر الصديق ﵁ وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، فقال: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعدما قال لعائشة، فأنزل الله ﷿: ﴿ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يفغر الله لكم والله غفورٌ رحيمٌ﴾، قال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطحٍ الذي كان يجري عليه.
قالت: وكان رسول الله ﷺ يسأل زينب بنت جحشٍ عن أمري، ⦗٣٩⦘ فقالت زينب: ما علمت ولا رأيت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع. اهـ
رواه البخاري ومسلم عن أبي الربيع.
1 / 32