الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبه تستعين
أنبأ الفقيه أبو موسى عيسى بن أبي عيسى القابسي قال أنبأ القاضي أبو القاسم علي ابن المحسن بن علي التنوخي قراءةً عليه قال حدثنا أبو عمر محمد بن العباس ابن محمد ابن زكريا ابن حيوية الخراز ولفظه علينا في يوم الأربعاء الحادي عشر من رجب سنة إحدى وثمانين وثلثمائة أن أبا بكر محمد ابن خلف بن الرزبان أخبرهم قال ذكرت أعزّك الله زماننا هذا وفساد مودة أهله وخسَّة أخلاقهم ولُؤم طباعهم وأن أبعد الناس سَفرًا من كان سفره في طلب أخٍ صالحٍِ ومن حاول صاحبا يأمن زلته ويدوم اغتباطه كان كصاحب الطريق الحيران الذي لا يزداد لنفسه إتعابا إلا ازداد من غايته بُعدًا فالأمر كما وصفتُ.
وقد يروى عن أبي ذر الغفاري ﵁ أنه قال كان الناس ورقا لا شوك فيه فصاروا شوكًا لا ورق فيه وقال بعضهم كنا نخاف على الإخوان كثرةَ المواعيد وشدة الاعتذار أن يخلطوا مواعيدهم بالكذب واعتذارهم
1 / 25
بالتزيُّد فذهب اليوم من يعتذر بالخير ومات من كان يعتذرُ من الذنب.
قال لبيد كامل:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجربِ
وأخبرنا أبو العباس المبرِّد قال حدثني بعض مشايخنا قال كنت عند بشر بن الحارث يومًا فرأيته مغموما ما تكلّم حنى غربت الشمس ثم رفع رأسه وقال كامل:
ذهب الرجل المُقتدى بفعالِهم ... والمُنكرونَ لكلِّ أمرٍ مُنكرِ
وبقيت في خلفه يزيِّن بعضُهم ... بعضًا ليدفع معورعن مُعوِرِ
وأنشدنا لغيره كامل:
ذهب الذين إذا رأوني مُقبلا ... سُرُّوا وقالوا مرحبًا بالمُقبلِ
وبَقِي الذين إذا رأوني مُقبلا ... عبسوا وقالوا ليته لم يُقبِلِ
وقال آخر خفيف:
ذهب الناس واستقلوا وصرنا ... خلَفًا في أراذلِ النسناسِ
1 / 26
في أناسٍ تراهمُ العين ناسًا ... فإذا خبِّروا فليسوا بناسِ
وقال آخر خفيف:
ذهب الملحُ من كثير من النا ... سِ ومات الذين كانوا مِلاحا
وبَقِي الأَسمجونَ من كل صنفٍ ... ليت ذا الموت منهم قد أراحا
وقال آخر كامل:
ذهب الذين إذا مرضت تجهَّلوا ... وإذا جهلت عليهمُ لم يَجهلوا
وإذا أصبتُ غنيمةً فرحوا بها ... وإذا بخِلتُ عليهمُ لم يبخَلوا
وأنشدني أبو عبد الله السدوسي كامل:
ذهب الذين هم الغياث المُسبَلُ ... وبقِي الذين هم العذاب المُنزلُ
وتقطَّعت أرحامُ أهل زماننا ... فكأنَّما خُلِقت لئلا توصَلُ
الناس مشتبهونَ من كشَّفتَهُ ... مِنهمْ كشفتَ عن الذي لا يحمل
1 / 27
فأما الفقيرُ فحاسدٌ متفطرٌ ... حسدًا وأمّا ذو الثراء فيبخَلُ
ويظنُّ أنَّ له بكثرةِ مالهِ ... فضلا عليك وغيرُهُ المتفضِّلُ
وقال آخر كامل:
ذهب الكرام فأصبحوا أمواتا ... وَرَقًا تُطيِّرهُ الرياحُ رُفاتا
وتبدَّلت عرصاتُهم مِن بعدهم ... يسوى نبات الصالحين نباتا
وبقيتُ في دهرٍ أحاذرُ شرَّهُ ... وأخافُ فيهِ من الطريقِ بَياتا
وقال آخر طويل:
وما الناس بالناس الذين عهدتُهم ... ولا الدارُ بالدارِ التي كنتَ تعرِفُ
وما كلُّ من تَهوى يحبَّكَ قلبُهُ ... ولا كلُّ مَن صاحبتَه لك مُنصفُ
وقال آخر خفيف:
ذهب الناس وانقضت دولة المجـ ... ـدِ فكلٌّ إلا القليلِ كلابُ
1 / 28
إنَّ من لم يكن على الناس ذئبا ... أكلتهُ في ذا الزمان الذئابُ
غير أنَّ الوجوه في صور النا ... س وأبدانُهم عليها الثيابُ
لستَ تَلقي إلا كَذوبًا بخيلا ... بين عينيهِ للإياسِ كتابُ
وقال آخر كامل:
ذهب الذين فضولهم معلومةٌ ... ولهم إذا قحط الزمان حَنانُ
ذهبوا فليسَ لهم نظيرٌ واحدٌ ... أفلا تراهم لا أبا لك كانوا
لم يبقَ مِن أهل الفضائل والنُّهى ... إلا فلانٌ باسمِهِ وفُلانُ
وقال آخر كامل:
ذهب الذين عليهمُ وجدِي ... وبقيتُ بعدَ فراقِهم وحدي
سلفٌ مضى وبقيتُ بعدهمُ ... وكذاك يذهبُ من أتى بعدي
تركوا الذي جمعوا لغيرهمُ ... وكذاك أتركهُ لِمن بعدي
1 / 29
وقال أبو تمام وافر:
فلو رُفِعت سناتُ الدَّهرِ عنهُ ... وألقَى عن مناكِبِهِ الدِّثارُ
لعدَّلَ قسمةَ الأيام فينا ... ولكن دهرَنا هذا حصار
ولغيره أيضا خفيف:
ذهب المُفضِلونَ والسلفُ المو ... فون بالعهد منهمُ والعقودِ
ثم خُلِّفتُ في هباءٍ من النا ... س أقاسيهمُ ودهرٍ شديدِ
فيه سادَ الرعاعُ حبةَ القلـ ... ـبِ والسيِّدُ استوى بالمَسودِ
سمع للخنى صم عن الخـ ... ـير ينادون من مكان بعيدِ
فَلَوَ اَنَّ الأمور كانت تتفادى ... لفدينا المفقود بالموجودِ
أنشدنا لعليّ بن العباس الرومي كامل:
ذهب الذين تهزُّهم مداحهم ... هز الكماة أعنة الفرسانِ
1 / 30
كانوا إذا مُدِحوا أروا ما فيهم ... فالأريحية منهم بمكانِ
والمدحُ يقدحُ قلبَ مَن هو أهلهُ ... قدحَ المواعظِ قلبَ ذي إيمانِ
فدعِ اللئامَ فما ثوابُ مديحِهِم ... إلا ثوابَ عبادةِ الأوثانِ
كم قائلٍ لي مِنهُمُ ومدحتُه ... بمدائحٍ مِثل الرياضِ حِسانِ
أحسنتَ ويحكَ ليسَ فيَّ وإنّما ... أستحسنُ الحسنات في ميزان
وأنشدني أبو هفان بسيط:
لا تعجبوا أن تروني بين أظهركم ... أمشي ويركب قوم ماهم أحدا
لئن علا السادة الأحرار سفلتها ... إن الغثاء ليعلوا الماء والزبد
قال ولقيت إسماعيل بن بلبل يوما وهو راجل فقلت مالي أراك راجلا فقال مخلع البسيط:
أرجلني قلةُ الكرامِ ... وكثرةُ المالِ في اللئامِ
1 / 31
وليس هذا عليَّ وحدي ... هذا شقاءٌ على الأنامِ
وسألتَني أعزك الله تعالى أن أجمعَ لك ما جاء في فضلِ الكلبِ على شِرار الإخوان ومحمودِ خصاله في السرِّ والإعلان فقد جمعت ما فيه كفاية وبيان ولست أشكُّ أنَّك أعزَّك الله عارف بخير عبد الله بن هلال الكوفي المجذوم صاحب الخاتم وخبر جاره لمّا سأله أن يكتب كتابا إلى إبليس لعنهُ الله في حاجة له فإن كان العقل يدفع ذلك الخبر فهو مثل حسن يعرف مثله في الناس فكتب إليه الكتاب وأكَّده غاية التأكيد ومضى وأوصل الكتاب إلى إبليس فقرأه وقبَّله ووضعه على عينيه وقال السمع والطاعة لأبي محمد فما حاجتك قال لي جار مُكرِم شديد الميل إلى شفوق علي وعلى أولادي إن كانت لي حاجة قضاها أو احتجت إلى قرضٍ أقرضني وأسعفني وإن غبت خلفني في أهلي وولدي يبرُّهم بكلِّ ما يجدُ إليه السبيل وإبليس كلّما سمع منه يقول هذا حسن وهذا جميل فلما فرغ من وصفه قال فما تحب أن أفعل به قال أريد أن تزيل نعمته وتفقره فقد غاظني أمره وكثرة ماله وبقاؤه وطول سلامته فضرخ إبليس صرخة لم يسمع مثلها منه قط فاجتمع إليه عفاريتُه وجندُه وقالوا له:
1 / 32
ما الخبر ياسيدهم ومولاهم فقال لهم هل تعلمون أن الله ﷿ خلق خلقا هو شرٌّ مني.
ولو فتشت في دهرنا هذا لوجدت مثل صاحب الكتاب كثيرًا ممن تعاشره إذ لقيكَ رحَّب بك وإذ رغبت عنه أسرفَ في الغيبةِ وتلقَّاكَ بوجه المحبة ويضمرُ لك الغشَّ والمسبَّة وقد علمت ما جاء في الغيبة قال ﷺ: "من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار"، وقال ﷺ: "إياكم والغيبة فإنها شرٌّ من الزنا إنَّ الرجل ليزني ويتوب فيتوب الله عليه وصاحب الغيبةِ لا يغفرها الله له حتى يغفرها صاحبها".
وعن بِشر بن الحارث قال قال الفضيل ابن عياض لا يكون الرجل من المتَّقين حتى يأمَنه عدوّه ولا يخافُه صديقُه فقال بعضهم ذهبَ زمنُ الأنسِ ومن كان يعارضُ فاحتفظ مِن صديقك كما تحتفِظ من عدوك وقدِّم الحزم في كلِّ الأمور وإيَّاكَ أن تكاشفه سرَّك فيجاهرك به في وقت الشَّر.
أنشدني زيد بن علي كامل:
احذر مودة مأزق ... خلط المرارو بالحلاوةْ
1 / 33
يُحصى الذنوب عليك أيا ... م الصداقة للعداوةْ
وقيل لبعض الحكماء أيُّ الناس أحق أن يُتَّقَى قال عدوٌّ قويٌّ وسلطانٌ غشومٌ وصديقٌ مخادعٌ. وأنشد لدعبل بن علي الخزاعي وافر:
عدوٌّ راح في ثوب الصديق ... كشريك في الصَّبوح وفي الغبوقِ
له وجهانِ ظاهرهُ ابن عمٍّ ... وباطنُه بن زانيةٍ عتيقِ
يسرُّكَ مُقبلًا ويسؤك غبيا ... كذاكَ تكونُ أولادُ الطريق
لكثيرة عزة خفيف:
أنت في معشرٍ إذا غبت عنهم ... جعلوا كلَّما يزينك شيئا
وإذا ما رأَوكَ قالوا جميعًا ... أنتَ مِن أكرمِ الرّجالِ علينا
أنشدني ابن أبي طاهر الكاتب خفيف:
حالَ عمَّا عَهِدتُ ريبَ الزمانِ ... واستحالت مودة الأخوان
1 / 34
واستوى الناسُ في الخديعةِ والمكر فكلٌ لسانه اثنانِ
واعلم أعزَّكَ الله أن الكلب لِمن يقتنيه أشفق من الوالد على ولده والأخ الشقيق على أخيه وذلك أنّه يَحرس ربَّه ويحمي حريمه شاهدا وغائبا ونائما ويقظانا لا يقصِّرُ عن ذلك وإن جَفوه ولا يخذُلهم وإن خذلوه.
ورُويَ لنا أنَّ رجلًا قال لبعض الحكماء أوصِني قال ازهد في الدنيا ولا تُنازِع فيها أهلها وانصح لله تعالى كنصح الكلب لأهله فإنّهم يُجيعونه ويضربونه ويأبى إلا أن يحوطهم نصحا وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رأى رسول الله ﷺ: رجلا قتيلا فقال: "ما شأن هذا الرجل قتيلا" فقالوا يا رسول الله وثبَ على غنمِ أبي زهرة فأخذ شاةً فوثب عليه كلبُ الماشية فقتَلَه فقال ﷺ: "قتل نفسَه وأضاعَ دينَه وعَصى ربَّه ﷿ وخان أخاه وكان الكلب خيرًا من هذا الغادر" ثم قال ﷺ: "أيعجز أحدكم أن يحفظ أخاهُ المسلمَ في نفسهِ وأهلهِ كحفظ هذا الكلبِ ماشيةَ أربابه"؟.
ورأى عمر بن الخطاب أعرابيا يسوقُ كلبًا فقال ما هذا معك فقال يا أمير المؤمنين نِعم الصاحبُ
1 / 35
إن أعطيته شَكَر وإن منعته صبر قال عمر نِعم الصاحب فاستمسِك به.
ورأى ابن عمر ﵁ مع أعرابيٍ كلبًا فقال له ما هذا معك قال من يشكرني ويكتو سري قال فاحتفظ بصاحبك.
قال الأحنف بن قيس: إذا بصبص الكلبُ لك فثق بودٍّ منه ولا تثق ببصابصِ الناس فرُبَّ مبصبصٍ خوَّان.
قال الشعبي خير خصلةٍ في الكلب أنّه لا ينافقُ في محبَّته وقال ابن عباس ﵄ كلبٌ أمين خيرٌ من إنسانٍ خؤونٍ.
حدثنا القاسم بن محمد الرّصديّ حدثنا محرز بن عون عن رجل عن جعفر بن سليمان قال رأيت مالك بن دينار ومعه كلب فقلت ما هذا هذا خير من جليس السوء.
أخبرنا أبو عمر ابن خيرة حدّثنا أبو القاسم ابن بنت منيع حدثنا محرز بن عون بهذا الحديث حدثني ابن أبي طاهر حدثني حماد ابن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال قال أبي قال أتيت يوما الفضل بن يحيى فصادفته يشرب وبين يديه كلبٌ فقلت له أتنادم كلبا قال: نعم يمنعني أذاهُ ويكفّ عني أذى سواهُ ويشكرُ قليلي ويحرس
1 / 36
مبيتي ومقيلي.
أنشدني الحسن بن عبد الوهاب لرجلٍ يذُّم صديقا له ويمدح كلبا وافر:
تخيرتُ من الأخلا ... ق ما يفي عن الكلب
فإن الكلب مجبولٌ ... على النصرةِ والذبِّ
وفيٌّ يحفظُ العهدا ... ويَحمي عَرصةَ الدربِ
ويعطيكَ على اللينِ ... ولا يُعطي علي الضَّربِ
ويشفيكَ من الغيظِ ... وينجيك من الكربِ
فلو أشبهته لم تَ ... كُ كانونا على القب
وذكر بعض الرواة قال كان للربيع بن بدر كلبٌ قد ربَّاه فلّما مات الربيع ودُفن جعل الكلب يتضرب على قبره حتى مات ودفن وكان للعامر بن عنترة كلابُ صيدٍ وماشية وكان يحسنُ صُحبتها فلما مات عامر لزمت الكلاب قبره حتى ماتت عنده وتفرّق عنه الأهل والأقارب وروى لنا عن شريك قال: كان
1 / 37
للأعمشِ كلبٌ يتبعه في الطريق إذا مشى حتى يرجع فقيل له في ذلك فقال لا رأيتُ صبيانا يضربونه ففرقت بينهم وبينه فعرف ذلك لي فشكره فإذا رآني يبصبصُ لي ويتبعني ولو عاش أيَّدك الله الأعمش إلى عصرنا ووقتنا هذا حتى يرى أهل زماننا هذا ويسمع خبر أبي سماعة المعيطي ونظائره لازداد في كلبه رغبةً وله محبة.
قال هجا أبو سماعة المعيطي خالد بن مالك وكان إليه محسنًا فلّما ولِيَ يحيى الوزارة دخل إليه أبو سماعة فيمن دخل من المهنئين فقال أنشدني الأبيات التي قتلها فقال ما هي قال قولك خفيف:
درت يحيى وخالدا مخلصا ل ... له ديني فاستصغرا بعض شاني
فلَوَ اَني ألحدتُ في الله يوما ... أو لو اَنِّي عبدتُ ما يعبدانِ
ما استخفَّا فيما أظن بشأني ... ولا صحبت منهما بمَكاني
إنَّ شكلي وشكلُ مَن جحد في الله وآياتِهِ لمختلفان
قال أبو سماعة: لم أعرف هذا الشعر ولا مَن قاله قال لهيحيى ما تملك صدقة إن كنت تعرف من قالها فحلف قال يحيى:
1 / 38
وامرأتك طالق؟ فحلف.
فأقبل يحيى على الغساني ومنصور بن زياد والأشعثي ومحمد بن محمد العبدي وكانوا حضورًا في المجلس فقال ما حسبنا إلا وقد احتجنا إلى أن نجدِّد لأبي سماعة منزلا وآلة وحوما ومتاعًا يا غلام ادفع له عشرةَ آلاف درهم وتختافيه عشرة أثواب فدفع إليه فلما خرج تلقَّتهُ أصحابه يهنئونه ويسألونه عن أمره فقال ما عسيتُ أن أقول إلا أنه ابن زانية أبى إلاّ كرمًا فبلَّغت يحيى كلمته من ساعته فأمر به فحضر فقال له يا أبا سماعة لم تفرق في هجائنا ولم تغرف في شمتنا قال أبو سماعة ما عرفته أيها الوزير افتراء وكذب عليّ فنظر إلى يحيى مليا ثمّ أنشأ يقول وافر:
إذا ما المرء لم يخدش بظفر ... ولم يُوجد له أن عضَّ نابُ
رمى فيه الغميزة مَن بغاها ... وذلَّلَ من قرائنه الصعابُ
قال أبو سماعة -كلا أيها الوزير- ولكنه كما قال بسيط:
لم يبلغ المجد أقوامٌ وإن شَرفوا ... حتى يذلُّوا وإن عزوا لأقوامِ
1 / 39
ويُشتَموا فَترى الألوان مسفرة ... لا صفحَ ذلٍّ ولكن صفحَ أحلام
فتبسم يحيى وقال: إنَّا أعذرناك وعلمنا أنك لن تدع مساوي شمتك ولؤم طبعك فلا أعدمك الله ما جبلك عليه من مذموم أخلاقك ثم تمتثل قائلا وافر:
متى لم تتسع أخلاق قوم ... يضق بهم الفسيح من البلادِ
إذا ما المرء لم يُخلق لبيبا ... فليس اللبُّ عن قدمِ الولادِ
ثم قال هو والله كما قال عمر بن الخطاب ﵁ المؤمن لا يشفي غيظه ثم أن أبا سماعة هجا بعد ذلك سليمان بن أبي جعفر وكان إليه محسنا فأمر به الرشيد فحلق رأسه ولحيته ومثلُ أبي سماعة كثير كرهنا أن نطول الكتاب بِذكرِهم.
وروي عن بعضهم أنه قال الناس في هذاالزمان خنازير فإذا رأيتم كلبا فتمسكوا به فإنه خير من أناس هذا الزمان.
قال الشاعر بسيط:
اشدُد يديك بكلبٍ إن ظفرتَ بهِ ... قأكثر الناس قد صاروا خنازيرا
1 / 40
وأنشدني أبو العباس الأزدي وافر:
لكلبُ الناسِ إن فكَّرت فيهم ... أضرُّ عليك من كلب الكلابِ
لأنَّ الكلبَ تخسؤه فيخسا ... وكلبُ الناس يربضُ للعتابِ
وأنَّ الكلب لا يؤذي جليسا ... وأنتَ الدهرُ من ذا في عذابِ
حدّثنا أحمد بن منصور عن أبيه عن الأصمعي قال حضَرت بعض الأعراب الوفاة وكلبٌ في جانب خيمة فقال لأكبرِ ولده منسرح:
أوصيك خيرًا به فإن له ... صنائعا لا أزال أحمَدها
يدل ضيفي عليَّ في غسق الليـ ... ـل إذا النارُ نامَ مُوقدُها
أخبرني أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر قال أخبرني بعض الأدباء كان لإبراهيم بن هرمة كلاب إذا أبصرت الأضياف بئست لهم ولم تنبح وبصبصت بأذنابها بين أيديهم فقال يمدحها كامل:
ويدل ضيفي في الضلام إذا سرى ... إيقاد ناري أو نباحُ كلابِ
1 / 41
حتى إذا واجهته وعرفته ... فديته ببصابصِ الأذنابِ
وجعلنَ مما قد عرض يقدنَهُ ... ويَكدنَ أن ينطقن بالتّرحابِ
قال الأصمعي: سمعت بعض الملوك وهو يركض خلف كلبٍ وقد دنا من ظبي وهو يقول من الفرح إيه فدتك نفسي.
وقال أبو نواس رجز:
مفدَّيات ومحمياتها ... مسميات ومُعلَّماتها
وله أيضا رجز:
أتعب كلبا أهلَه في كدِّه
قد سعدت جدودهم بجدِّه
فكلُّ خيرٍ عندهم من عندهِ
يظلُّ مولاهُ له كعبدِهِ
يبيتُ أدنى صاحبً من مهدِهِ
وإن غدا جلَّلهُ ببردِهِ
ذي غرّةٍ محجَّلٍ بزندِهِ
تلذُّ منه العينُ حُسنَ قدِّهِ
يا حسن شدقه وطول خدِّهِ
1 / 42
تلقى الظباءُ عَنَتًا من طردِهِ
يا لك من كلبٍ نسيج حده
وله في هذا المعنى أشياء حسان ومعانٍ مُختارة ومما يدلُّ على قدر الكلب كثرة ما يجري على ألسنة الناس بالخير والشر والمدح الذم حتى قد ذُكر في القرآن وفي الحديث وفي الأشعار والأمثال حتى استعمل على طريق الفأل والطيرة والاشتقاقات للأسماء فمن ذلك أكلب بن ربيعة وكلاب بن ربيعة ومكلب بن ربيعةة ابن نزار وكليب بن يربوع ومكالب بن ربيعة بن قذار وكلاب ابن يربوع ومثل هذا كثير.
والكلب أيدك الله منافعُه كثيرة فاضلة على مضاره بل هي غامرة لها وغالبة عليها ولم تزل القضاةُ والفقهاء والعباد والولاة والنسّاك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا ينكرون اتخاذها في دورهم مع ذلك يشاهدونها في دور الملوك فلوا علموا أن ذلك يكره لتكلموا ونهوا عن اتخاذها بل عندهم أنهم إذا قتلوا الكلب كان فيه عقوبة وأنّ من كان أمر بقتلها في قديم الزمان إنما كان لمعنى ولعلة وأن هذه الكلاب بمعزل عن تلك.
وقال عمر بن الخطاب ﵁ من لا يعرف الأمور يقول أن الكلب من السباع ولو كان كذلك ما ألِفَ الناسَ واستوحش من السباع وكرِه الغياض وألِفَ الدور واستوحش من البراري وجانب القفار وألِف المجالس والديار وكيف لا يكون كذلك وهو لا يرضى
1 / 43
لنفسه بالنوم والربوض على الأرض وهو لا يرى بساطا ولا وسادة إلا علاها وجلس عليها وأيضا فهو لا يجد إلى كل موضع جليلٍ نظيفٍ سبيلا فيقصر عنه وتراه متخيّرا أبدًا أرفع المواضع في المجلس وما يصونه صاحبه.
قلت: والكلب يعرف صاحبه والسنور ويعرفان اسماهما ومواضع منازلِهما ويألفانِ موطنَهما وإذا طُردا رجعا وإذا أُجيعا صبرا وإذا أهينا احتملا وللكلب أيضا من الفضائل إتيانه وجهَ صاحبِه ونظره إليه في عينيه وفي وجهه وحبه له ودنوِّه منه حتى ربما لاعبه ولاعب صبيانه بالعض الذي لا يُؤلم ولا يؤثِّر وله تلك الأنياب التي لو أنشبها في الشجر لأثَّرت.
قال بعض الشعراء خفيف:
أيها الشانئ الكلابَ أصِخْ لي ... منك سمعًا ولا تكوننَّ حبسا
إنّ في الكلبِ فاعلمنَّ خِصالًا ... من شريف الفعال يعددن خمسا
حِفظُ من كانَ مُحسنًا ووفاءٌ ... للذي يتَّخِذهُ حربًا وحرسا
واتباعٌ لرحله وإذا ما ... صار نطقُ الشجاع للخوفِ همسا
1 / 44