سلام عليكم يا بني من والدكم الحزين الباكي الذي بليت عظامكم في قبرها ولم يبل ذكركم في قلبه، والذي ظل يختلف إلى واديكم عشرين عاما يندبكم ويبكيكم، ويسأل الله أن يلحقه بكم، فلا يستتب له ما يريد.
ثم تناول عصاه واعتمد عليها ونهض قائما كأنما يقتلع نفسه من الأرض اقتلاعا، وكأنما قد خطا نحو القبر عشر سنوات كاملة في تلك الساعات القليلة التي قضاها معي، فأصبح هامة اليوم أو غد، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، ولم يبق منها في دائرة الأفق إلا كما يبقى في جنبات الكأس من فضل الشراب، فألقى عليها نظرة هادئة مطمئنة، ثم مشى في طريقه بخطوات بطيئة، وأوصال مرتعدة، ودموعه تنحدر على خديه انحدار المزنة الهاطلة، فلبثت في مكاني أنظر إليه وقلبي يذوب رحمة به وإشفاقا عليه، حتى انحدر في بعض البطون وغاب عن نظري.
الفصل الثامن والعشرون
النهاية
عدت إلى منزلي الذي أنزله وحاولت أن آوي إلى مضجعي فنبا بي، وأن أستزير الغمض فامتنع علي، وأن أهدأ في مكاني ساعة واحدة فلم أستطع، وكان أكبر ما يشغلني وينفر النوم عن عيني حالة ذلك الشيخ المسكين، فقد هاجت تلك القصة التي قصها علي ألما دفينا في نفسه وشجنا كامنا، فاستحال في بعض ساعات إلى هيكل من العظم تتردد أنفاسه في صدره تردد الريح في جوانب الهيكل الخرب. وانصرف عني يمشي مشية الطائر المذبوح يجر شلوه جرا، وتمثل لي أنه الآن طريح فراشه في زاوية من زوايا كوخه، يكابد آلام المرض أو آلام النزع من حيث لا يعينه معين، ولا يرحمه راحم، فاشتد ذلك علي كثيرا، وشعرت بشعبة من شعب قلبي قد سقطت.
وما أصبح الصباح حتى عقدت العزم على زيارته في واديه على بعد الشقة بيني وبينه لأتفقد شأنه، وأقضي حق صحبته، فسلكت الطريق التي وصفها لي مرارا في حديثه، ولم أزل أصعد النجاد، وأهبط الوهاد، وأضل مرة وأهتدي أخرى، حتى أشرفت منزلق الشمس عن كبد السماء على كوخه المنفرد في ذلك الوادي الموحش، فانحدرت إليه، وكنت أرجو أن أراه واقفا على بابه، أو جالسا على مقربة منه، فلم يقع نظري على شيء، وكان السكون سائدا عميقا لا يسمع فيه السامع نأمة ولا حركة، كأنه سكون المقابر، اللهم إلا عصفورا صغيرا يغرد من حين إلى آخر تغريدة شجية مؤثرة، كأنما هو يوقع لحنا من الألحان المحزنة على نغم واحد، وميزان مطرد، فرفعت نظري إليه فإذا هو واقع على شجرة قصيرة منفردة أمام باب الكوخ ذكرت عند رؤيتها أنها الشجرة التي حدثني عنها أن فرجيني غرستها أمام كوخه منذ عهد بعيد، وأنه يحبها كثيرا ويأنس بها من أجلها، فدنوت منها، فراعني أن رأيت تحتها شبحا معفرا بالتراب، فتبينته فإذا هو الشيخ، فحركته فإذا هو ميت، فهالني الأمر وتعاظمني، وشعرت بقلبي يتمزق لوعة وأسى، وبنفسي تسيل رحمة وإشفاقا، وقلت: يا له من رجل مسكين! لقد مات ولا صديق يوسد رأسه أو يسبل أجفانه، ولا عين تبكي عليه غير عين ذلك العصفور الصغير الذي ينوح فوق رأسه. •••
ولم ينقض اليوم حتى دفناه تحت تلك الشجرة التي مات تحتها، والتي كان يحبها ويأنس بها، ثم انصرفنا.
ولا عين إلا وهي عين من البكا
ولا خد إلا للدموع به خد (انتهت)
بول وفرجيني
অজানা পৃষ্ঠা