شرح الأربعين النووية - العباد
شرح الأربعين النووية - العباد
জনগুলি
شرح الأربعين النووية [١]
لقد جمع الإمام النووي رحمه الله تعالى أربعين حديثًا من جوامع كلم النبي ﷺ، وكل حديث منها قاعدة من قواعد الدين، ويحتوي على كثير من الفوائد العظيمة والعلوم المفيدة، فمن وفّق لحفظها وفهمها وتبليغها فقد حصل على نصيب عظيم من ميراث النبوة، وصار له نصيب من قوله ﷺ: (نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها).
1 / 1
مقدمة بين يدي الأربعين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم! صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فنبدأ مستعينين بالله ﷿، متوكلين عليه، سائلين منه العون والتوفيق والتسديد، بشرح (الأربعين النووية) لـ أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى.
وهذه الأحاديث الأربعون أحاديث عظيمة، وهي من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد أُعطي النبي ﵊ جوامع الكلم، حيث يأتي بالكلام القليل في المبنى ولكنه يكون واسع المعنى، فالكلمات قليلة، ولكن المعاني واسعة، فهي قواعد كلية، وقواعد عامة اشتملت عليها الأحاديث التي اختارها الإمام النووي رحمه الله تعالى.
ولم يثبت عن الرسول ﷺ شيء في حفظ أربعين حديثًا، وما جاء في ذلك فهو حديث ضعيف، وقد ذكر الإمام النووي نفسه في مقدمته للأربعين أنه لم يثبت الحديث في ذلك عن رسول الله ﵊، ولكنه قال إن حديث: (نضر الله امراءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، وكذلك أيضًا: (ليبلغ الشاهد الغائب) يدعوان لذلك.
وإن جمع شيء من حديث الرسول ﷺ، والاشتغال به، ولفت الأنظار إليه فيه قيام بحفظ سنة الرسول ﷺ، وليس الاعتماد في ذلك على الحديث الضعيف المروي في ذلك.
1 / 2
ذكر مناقب الإمام النووي وبعض مؤلفاته
كان النووي ﵀ معروفًا بالزهد والورع والصلاح، والحرص على إفادة الناس، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتابه هذا -الأربعون النووية- اشتهر دون غيره من الكتب الأخرى التي كتبت وجمعت في هذا الموضوع، وهي كثيرة، ولكن لم يشتهر كتاب في الأربعين مثلما اشتهر كتابه؛ فإنه لقي عناية خاصة من العلماء، وصار هو الكتاب الذي يبدأ بحفظه في الحديث عند طلبة العلم.
وعدد هذه الأحاديث اثنان وأربعون حديثًا جمعها الإمام النووي، وأضاف إليها الحافظ ابن رجب ثمانية أحاديث، فأكملها خمسين حديثًا، وشرحها في كتاب واسع قيم عظيم، وهو (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم).
والإمام النووي ﵀ ليس من المعمرين، فقد عاش خمسًا وأربعين سنة، فولادته كانت في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وتوفي في سنة ست وسبعين وستمائة، ومع ذلك خلف مؤلفات وثروة عظيمة: فيما يتعلق بالحديث، وفيما يتعلق بالفقه، وفيما يتعلق بالمصطلح، وفيما يتعلق بعلوم القرآن، وفيما يتعلق باللغة، فمع قصر عمره وقلة مدته نفع الله تعالى بعلومه، وحصلت منه هذه الثروة العظيمة الواسعة.
وكتاباه (الأربعون النووية) و(رياض الصالحين) كتابان مشهوران يعرفهما الخاص والعام، وكتابه (المجموع شرح المهذب) من أحسن الكتب التي ألفت في الفقه، فإنه كتاب واسع، وهو من أوسع الكتب التي اعتنت بأقوال الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، وكذلك استيعاب المسائل، والتحقيق فيها والتدقيق مع الاجتهاد.
وقد كان شافعي المذهب، ولكنه يرجح على حسب ما يدل عليه الدليل، وذلك لجمعه بين الفقه والحديث، فكان فقيهًا محدثًا ﵀، وكتابه مع كتاب (المغني) لـ ابن قدامة هما الكتابان المشهوران في الفقه في سعة العلم وفي الفقه العام الذي ليس متقيدًا بمذهب معين، وإن كان قد شرح فيه (كتاب المهذب) لـ أبي إسحاق الشيرازي الشافعي، إلا أنه مثل ابن قدامة الذي شرح (مختصر الخرقي) في كتابه (المغني)، حيث ذكرا أقوال الصحابة والتابعين، وكذلك أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم مع الترجيح، وبيان الأدلة في ذلك، وهما كتابان لا يستغني عنهما طالب العلم، فهما كتابان واسعان ومفيدان وعظيمان.
وللإمام النووي كتب أخرى كثيرة، مثل (الأذكار)، (تهذيب الأسماء واللغات) وغيرهما، ومع كثرة هذه المؤلفات كان عمره قصيرًا، فهذه أعمار بارك الله تعالى لأصحابها فيها، حيث عمروها بخدمة العلم وتحقيقه وتدوينه ونشره، فصار من بعدهم يرجع إلى كتبهم ويستفيد منهم، ويدعو لهم في مختلف العصور والأوقات.
1 / 3
ذكر حديث النية
وأول حديث بدأ به من الأحاديث الأربعين حديث عمر بن الخطاب ﵁ (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فقال: [عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة].
هكذا كما أورده النووي ﵀، وقد كان من عادته في كتابه هذا وفي كتابه (رياض الصالحين) أنه عندما يذكر الصحابي يذكره بكنيته، وكذلك يذكر وصفه، كما قال هنا: (عن أمير المؤمنين أبي حفص).
1 / 4
ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
عمر بن الخطاب ﵁ هو أول من لقب بأمير المؤمنين، وذلك أن أبا بكر الصديق ﵁ عندما توفي رسول الله ﵊ وبايعه المسلمون خليفة لرسول الله ﵊ كان يخاطب بلقب (خليفة رسول الله) فيقولون له: يا خليفة رسول الله.
فلما توفي أبو بكر ﵁ وجاء بعده عمر صار يلقب بأمير المؤمنين، وذلك حتى لا تكثر الإضافات فـ أبو بكر خليفة رسول الله، وعمر خليفة خليفة رسول الله، وعثمان خليفة خليفة خليفة رسول الله، وعلي خليفة خليفة خليفة خليفة رسول الله، وكل من جاء بعدهم سيضاف إليه لفظ، فتكثر الإضافات، فاستبدلوا ذلك بكلمة (أمير المؤمنين) التي تطلق على كل من يتولى إمرة المؤمنين.
وأبو حفص كنيته، وليس له ولد اسمه حفص، ولكنه اشتهر بهذه الكنية، ولعلها أطلقت عليه قبل أن يولد له فلزمته واستمرت معه، وإلا فإنه ليس له ولد يقال له: حفص.
كما أن أبا بكر ﵁ ليس له ولد يقال له: بكر.
ولكنه اشتهر بهذه الكنية.
ومثلها خالد بن الوليد؛ فإنه يكنى بـ أبي سليمان، وليس له ولد اسمه سليمان، فلعل التكنية هذه حصلت في أول الأمر واستمرت، فجاء الأولاد بعد ذلك فغلبت الكنية الأولى، كما أن بعض الأشخاص الذين لم يتزوجوا ولم يولد لهم يُكنون ويكرمون بكناهم، مثل ابن تيمية، فإن كنيته أبو العباس، مع أنه لم يتزوج، ومثل النووي، فهو أبو زكريا، مع أنّه لم يتزوج، وغيرهم كثير.
فلعل ما حصل لأمير المؤمنين أبي حفص هو من هذا القبيل، أعني أن الكنية وجدت قبل وجود الولد واستمرت، ثم جاء الأولاد فلم تعلق الكنية بهم، وإنما بقيت الكنية الأولى.
وعمر بن الخطاب ﵁ هو أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
1 / 5
تخريج حديث النية مع فوائد إسنادية
وأما تخريج الحديث فقد خرجه جماعة كثيرون، وفي مقدمتهم أصحاب الكتب الستة: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، بل إن المعلق على جامع العلوم والحكم -وهو الشيخ شعيب الأرناءوط - ذكر تخريجه عن تسعة عشر إمامًا، وفي مقدمتهم أصحاب الكتب الستة، وفي مقدمة الذين خرجوه البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة.
والإمام النووي ﵀ لما ذكر الحديث عازيًاَ إليهما ذكر ذلك في أول الأمر فقال: (رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي)، ونسبته إلى الجعفي نسبة ولاء، ونسبة الولاء تكون أحيانًا بالعتق، وتكون -أيضًا- بسبب الإسلام، ونسبة البخاري إلى الجعفيين نسبة ولاء بسبب الإسلام؛ لأن أحد أجداده دخل في الإسلام على يد رجل من الجعفيين، ولهذا يقولون في ترجمته: الجفعي مولاهم.
وأما مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري فهو قشيري، وهو منهم نسبة أصل وليست نسبة ولاء، ولهذا يقولون عنه: القشيري من أنفسهم، فإذا كان الشخص ينسب نسبة ولاء قالوا: مولاهم.
وإذا كان فيهم أصلًا أتوا بكلمة (من أنفسهم) أي أنه ينتسب إليهم نسبة أصل، وليست نسبة ولاء، فـ مسلم بن الحجاج من بني قشير، وأما البخاري فنسبته إلى الجعفيين نسبة ولاء، وليست نسبة أصل.
وهذا الحديث من غرائب (صحيح البخاري)، فقد جاء من طريق واحدة، فهو فرد مطلق، فرواه عمر بن الخطاب ﵁ عن رسول الله ﵊، ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولم يروه عن علقمة بن وقاص الليثي إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم كثر الآخذون والراوون له عن يحيى بن سعيد حتى قيل: إن الذين رووه عنه يبلغون السبعين وقيل: إنهم يبلغون المائتين.
وقيل: أكثر من ذلك.
وهو غريب عن رسول الله ﷺ إلى يحيى بن سعيد.
ومثله الحديث الذي ختم به البخاري (صحيحه)، وهو حديث أبي هريرة (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فإنه -أيضًا- غريب، فلم يروه عن رسول الله ﵊ إلا أبو هريرة، ولم يروه عن أبي هريرة إلا أبو زرعة بن عمرو بن جرير، ولم يروه عن أبي زرعة إلا عمارة بن القعقاع، ولم يروه عن عمارة بن القعقاع إلا محمد بن فضيل بن غزوان، ثم انتشر بعد ذلك وكثر الآخذون والراوون له عن محمد بن فضيل بن غزوان، ففاتحة صحيح البخاري وخاتمته حديثان من غرائب الصحيح، فلم يأتيا إلا من طريق واحدة، وقد قال الترمذي عندما خرج الحديث الأخير في جامعه -وهو: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن) - قال: حديث حسن غريب صحيح.
ويعني بقوله: (غريب) أنه جاء من طريق واحدة.
وقد افتتح البخاري ﵀ صحيحه بحديث عمر السابق، وكذلك الإمام النووي ﵀ بدأ به الأربعين إشارة إلى تصحيح النية، وأن الإنسان إذا عمل عملًا فإنه يستحضر الإخلاص، ويستحضر حسن القصد، وأن يفعل ذلك ابتغاء وجه الله، وابتغاء مرضاته سبحانه.
فقد بدأ الأربعين بحديث (إنما الأعمال بالنيات)، وثنى بحديث عمر في قصة جبريل، فبدأ بأول حديث في البخاري، وثنى بأول حديث في صحيح مسلم، فحديث عمر الذي في قصة جبريل هو أول حديث في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، وأول حديث في صحيح البخاري هو حديث (إنما الأعمال بالنيات).
وقد سبق المؤلف إلى هذا الصنيع الإمام البغوي في كتابيه (شرح السنة) و(مصابيح السنة)، فإنه بدأ كلا الكتابين بحديث (إنما الأعمال بالنيات)، وثنى بحديث جبريل في تعليم الدين.
وكذلك -أيضًا- بدأ المؤلف كتابه (المجموع شرح المهذب) بهذا الحديث؛ لأنه بعدما انتهى من المقدمة عقد فصلًا في إخلاص النية وحسن القصد، وأن يكون ذلك في الأمور الواضحة والجلية، ثم ذكر ثلاث آيات من كتاب الله، ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب (إنما الأعمال بالنيات).
وقد فعل ذلك -أيضًا- بعض المؤلفين فبدءوا بما بدأ البخاري به صحيحه، ومنهم: السيوطي، فقد بدأ كتابه (الجامع الصغير) بهذا الحديث، وكذلك: عبد الغني المقدسي في كتابه (عمدة الأحكام)، فإنه بدأ بهذا الحديث، وكل هذا إشارة منهم إلى هذا الغرض النبيل الذي هو حسن القصد، والبدء بشيء يذكر الإنسان وهو يعمل عملًا ما بضرورة الإخلاص وحسن النية، وأن يريد الإنسان بعمله ذلك وجه الله ﷿ والتقرب إليه ﷾.
1 / 6
الأحاديث التي قيل إن الدين يدور عليها
وقد ذكر بعض أهل العلم أنّ هذا الحديث من الأحاديث التي يدور عليها الدين.
فمن العلماء من قال: إن الدين يدور على حديثين: حديث (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
ومنهم من قال: إنه يدور على ثلاثة.
وأضاف إلى الأولين حديث النعمان بن بشير (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وقال بعضهم: إنها أربعة.
واختلفوا بعد ذلك، فمنهم من جعل الرابع حديث: (الدين النصيحة)، ومنهم من جعله حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة).
ومنهم من قال: خمسة.
والأحاديث التي وردت في ذلك بعد حديث (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) منها الأحاديث التي أشرت إليها سابقًا، ومنها حديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، ومنها حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، ومنها حديث (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، ومنها حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وكل هذه الأحاديث التي ذكر الحافظ ابن رجب آثارًا عن السلف في أن الدين يدور عليها هي من جملة الأحاديث التي اشتملت عليها (الأربعون النووية)، وهي من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
1 / 7
معنى قوله: (إنما الأعمال بالنيات)
قوله ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات) قصر وحصر، و(إنما) تأتي لهذا الغرض، وكذلك كون المبتدأ والخبر يأتيان محليان بالألف واللام، فذلك من هذا القبيل، مثل (الدين النصيحة)، ومثل: (الحج عرفة)، ومثل (الأعمال بالنيات)، وقد جاء في بعض الراويات بدون (إنما)، وذلك بلفظ (الأعمال بالنيات)، وكل منهما يفيد الحصر والقصر.
والأعمال هنا مطلقة، فقد حليت بالألف واللام للاستغراق، وقيل: إن المقصود من ذلك الأعمال التي هي قربة؛ فإنها لا تعتبر إلا بنياتها، ولا يعول عليها إلا بنياتها، وكل عمل فيها لا بد فيه من نية، وإذا خلا من النية فإنه لا عبرة به، والنية تأتي لتمييز العبادات بعضها عن بعض، ولتميز العبادات عن العادات، ولتمييز العبادات عن العادات.
فمنهم من قال: إن المقصود به العموم، ويدخل في ذلك القُرَب وغير القُرَب، فأما القرب فأمرها معلوم، وأما غير القرب من الأمور التي يفعلها الناس -كالأكل والشرب والنوم والجماع وما إلى ذلك- إذا حسن المرء قصده فيها، ونوى بذلك التقوي على طاعة الله ﷿ فإن الله تعالى يأجره، كما جاء في الحديث: (وفي بضع أحدكم صدقة.
قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم إذا لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟! قالوا: نعم.
قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)، وقد جاء في ذلك حديث [نية المؤمن خير من عمله] ولكنه لا يصح عن رسول الله ﷺ.
و(النيات) جمع نية، والمراد بها القصد، والألف واللام في (النيات) بدل من الضمير (الهاء)، ومعنى ذلك أن أصل العبارة هكذا (الأعمال بنياتها)، أي: الأعمال معتبرة بنياتها.
فحذف المضاف إليه -وهو الهاء- وأتي بـ (أل) مكانه، فصارت العبارة (الأعمال بالنيات).
وهذا الاختصار يأتي كثيرًا في الاستعمال، ولا سيما في أسماء الكتب، فيقولون -مثلًا-: البلوغ.
ويعنون (بلوغ المرام)، ويقولون: النيل.
ويعنون (نيل الأوطار)، وهكذا، فيأتون بالمضاف ويحذفون المضاف إليه، ويجعلون (أل) قائمة مقامه، فالألف واللام هنا عوض عن المضاف إليه، فالمراد: الأعمال بنياتها.
فالمقدر الذي يتعلق به الجار والمجرور هو (معتبرة)، أي: الأعمال معتبرة بالنيات.
فهي بدون نية غير معتبرة، فالإنسان إذا كان عليه غسل جنابة فاغتسل للتبرد أو للجمعة ولم ينو رفع الحدث فإنه باقٍ على حدثه، ولو صلى لم تصح صلاته، وعليه الغسل للجنابة وإعادة الصلاة ولو كان قد تنظف؛ لأن هذه عبادة، ولا بد في العبادة من نية، وليس المقصود مجرد النظافة فقط، بل هي عبادة تفتقر إلى نية.
إذًا: فالجار والمجرور متعلق بمحذوف، والتقدير: (معتبرة)، أو (نافعة)، أو (مقبولة) أو ما إلى ذلك من العبارات المناسبة.
1 / 8
تعلق العمل بالنية خيرًا وشرًا
قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) يعني أن الإنسان يحصل من الثواب والأجر على نيته؛ فإن العمل لا بد فيه من نية، والإنسان يحصل الأجر والثواب على حسب ما نواه.
ثم إن هاتين الجملتين (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) قاعدتان عامتان، وقد ذكر النبي ﷺ بعدهما مثالًا يوضح المقصود، وأن الأمر يتبع النية، وأنه متعلق ومرتبط بها، وذلك المثال هو الهجرة، فقال ﵊: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله).
أي: إذا كان قصده حسنًا -وهو الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من أجل أن يأتي بشعائر دينه، ومن أجل أن يحافظ على دينه، ومن أجل أن يتعلم الدين وأن يتفقه فيه- فهجرته إلى الله ورسوله.
فإن قيل: الأصل في الشرط والجزاء أنهما يكونان متغايرين، فيقال: (من جد وجد، ومن زرع حصد)، فالجزاء غير الشرط، وهنا اتحد الجزاء مع الشرط، حيث قال ﷺ: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)! فالجواب أنّ الجزاء وإن كان هنا نفس الشرط إلّا أن الحكم يختلف باختلاف المتعلق، فقوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله) أي: نية وقصدًا، (فهجرته إلى الله ورسوله) أي: ثوابًا وأجرًا.
فبهذا يختلف الشرط والجزاء، فالأول يتعلق بالنية والقصد، والثاني يتعلق بالثواب والأجر.
فذكر النبي ﷺ في صدر هذا التمثيل الشيء الذي فيه أجر وثواب، وهو كون الإنسان يريد بعمله وجه الله ﷿ والدار الآخرة.
وأما إذا كانت الهجرة من أجل غرض دنيوي من تجارة أو زواج فقد قال فيها ﵊: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، فلم يقل: فهجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها وإنما جاء بلفظ عام ليبين أن من هاجر لشيء فإن هجرته إلى ما هاجر إليه، فإذا كان من أمور الدنيا لتحصيل المال، أو تحصيل الزواج أو غير ذلك فهجرته إلى ما هاجر إليه، فأتى بالجواب بلفظ عام؛ لأن أغراض الناس ومقاصدهم في أعمالهم المتعلقة بالدنيا لا تنحصر، فجاء بالجواب بلفظ يشمل كل شيء يقصد به الإنسان شيئًا من الدنيا.
وأيضًا ذكر الرسول ﷺ هذا المثال ليوضح به أن من يكون قصده حسنًا فله الثواب والأجر، ومن كان قصده غير ذلك فهجرته إلى ما هاجر إليه.
1 / 9
الهجرة معناها وأنواعها
الهجرة لغة: الترك.
وتكون الهجرة من بلد الخوف إلى بلد الأمن، مثل الهجرة من مكة إلى الحبشة، فإنها هجرة من بلد خوف إلى بلد أمن، وتكون من بلد شرك إلى بلد إسلام، كالهجرة من مكة -قبل الفتح- إلى المدينة، فإن المهاجرين تركوا بلادهم، وتركوا أموالهم، وتركوا دورهم، ومتاعهم من أجل نصرة الرسول ﵊، ولهذا جمع الله للمهاجرين بين الهجرة والنصرة في قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر:٨]، وبهذا كانوا أفضل من الأنصار؛ لأنهم عندهم النصرة التي عند الأنصار، وزادوا بالهجرة التي ليست عند الأنصار، فالمهاجرون أنصار، وزيادة على ذلك هم مهاجرون، والأنصار أنصار فقط، والذين جمعوا بين الهجرة والنصرة أفضل من الذين حصلوا النصرة فقط.
والهجرة من مكة انتهت بفتح مكة، ولهذا قال ﵊: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)، وأما الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام فهي باقية ومستمرة إلى قيام الساعة.
1 / 10
شرح الأربعين النووية [٢]
حديث عمر في النية من جوامع كلمه ﷺ، وهو قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وأول دعائم الإيمان، حتى قيل: إنه ثلث العلم.
وقد عظم العلماء هذا الحديث تعظيمًا كبيرًا حتى رأوا البداءة به في مصنفاتهم، وذلك تنبيهًا لطالب العلم إلى تصحيح نيته، وإخلاص قصده لله ﵎ في خفي عمله وظاهره، وفي قليله وكثيره، ليجازى بالجزاء الحسن عند الله ﵎.
2 / 1
حديث النية من الأحاديث الغريبة
الحديث الأول هو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ونذكر ما كتبناه عن هذا الحديث: أولًا: أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وقد تفرد براويته عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، وتفرد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرد به عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم كثر الآخذون عنه، فهو من غرائب صحيح البخاري، وهو فاتحته، ومثله في ذلك خاتمته، وهو حديث أبي هريرة ﵁: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن).
2 / 2
فضل حديث النية وافتتاح الكتب به
افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم كتبهم به، منهم الإمام البخاري، فقد افتتح (صحيحه) به، وعبد الغني المقدسي في كتابه (عمدة الأحكام)، والبغوي، في كتابيه (مصابيح السنة)، و(شرح السنة) به، وافتتح السيوطي كتابه (الجامع الصغير) به.
وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصلًا قال فيه: (فصل في الإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع الأعمال البارزة والخفية) وأورد فيه ثلاث آيات من القرآن، ثم حديث: (إنما الأعمال بالنيات).
ثم قال: (حديث صحيح متفق على صحته، ومجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو إحدى قواعد الإيمان وأول دعائمه وآكد الأركان).
قال الشافعي ﵀: (يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه)، وقال أيضًا: (هو ثلث العلم)، وكذا قاله -أيضًا- غيره.
وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدها، فقيل: ثلاثة.
وقيل: أربعة.
وقيل: اثنان.
وقيل: حديث.
وقد جمعتها كلها في (جزء الأربعين) فبلغت أربعين حديثًا، لا يستغني متدين عن معرفتها؛ لأنها كلها صحيحة، جامعة قواعد الإسلام في الأصول والفروع والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك، وإنما بدأت بهذا الحديث تأسيًا بأئمتنا ومتقدمي أسلافنا من العلماء ﵃، وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث -بلا مدافعة- أبو عبد الله البخاري صحيحه.
ونقل جماعة أن السلف كانوا يستحبون افتتاح الكتب بهذا الحديث تنبيهًا للطالب على تصحيح النية وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفية.
وروينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي ﵀ أنه قال: (لو صنفت كتابًا بدأت في أول كل باب منه بهذا الحديث)، وروينا أيضًا عنه أنه قال: (من أراد أن يصنف كتابًا فليبدأ بهذا الحديث).
وقال الإمام أبو سليمان حَمْد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه المعالم: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث: (إنما الأعمال بالنيات) أمام كل شيء يُنشأ ويبتدأ من أمور الدين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها).
انتهى كلام النووي -رحمه الله تعالى- في شرح المهذب.
2 / 3
تخريج حديث النية
جاء في حاشية (جامع العلوم والحكم): أخرجه البخاري، ومسلم، والحميدي، والطيالسي، وأحمد، وابن المبارك في الزهد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه ومالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن، وابن حبان، وابن الجارود، والطحاوي في شرح معاني الآثار، والدارقطني في السنن وفي العلل، والقضاعي في مسند الشهاب، والبيهقي في السنن الكبرى وفي المعرفة، وأبو نعيم في الحلية وفي أخبار أصبهان، والخطيب البغدادي في تاريخه، والبغوي في شرح السنة.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول، وبه صدّر البخاري كتابه الصحيح، وأقامه مقام الخطبة له؛ إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة.
2 / 4
حديث النية من الأحاديث التي يدور الدين عليها
قال ابن رجب: وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها، فروي عن الشافعي أنه قال: (هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابًا من الفقه).
وعن الإمام أحمد قال: (أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر (الأعمال بالنيات)، وحديث عائشة ﵂ (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وحديث النعمان بن بشير ﵄ (الحلال بين والحرام بين».
وقال ابن رجب أيضًا في توجيه كلام الإمام أحمد: (فإن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات، وترك المحظورات، والتوقف عن الشبهات)، وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير، وإنما يتم ذلك بأمرين: أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة، وهذا هو الذي تضمنه حديث عائشة (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله ﷿، كما تضمنه حديث عمر (الأعمال بالنيات).
وأورد ابن رجب نقولًا عن بعض العلماء في الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، وأن منهم من قال: إنها اثنان ومنهم من قال: أربعة.
ومنهم من قال: خمسة.
والأحاديث التي ذكرها عنهم بالإضافة إلى الثلاثة الأولى هي: حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه)، وحديث (من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه)، وحديث (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا)، وحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وحديث (لا ضرر ولا ضرار)، وحديث (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم)، وحديث (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)، وحديث (الدين النصيحة)، وكل هذه الأحاديث من الأحاديث التي أوردها النووي في (الأربعين).
2 / 5
شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)
قوله: (إنما الأعمال بالنيات).
(إنما): أداة حصر.
والألف واللام في (الأعمال) قيل: إنها خاصة بالقُرَب، وقيل: إنها للعموم في كل عمل، فما كان منها قُربة أثيب عليها فاعلها، وما كان منها من أمور العادات كالأكل والشرب والنوم فإن العامل يثاب عليها إذا نوى بها التقوي على الطاعة.
والألف واللام في (النيات) بدلًا من الضمير، والأصل: الأعمال بنياتها، ومتعلق الجار والمجرور محذوف تقديره (معتبرة) أي: الأعمال معتبرة بنياتها.
والنية في اللغة: القصد، وتأتي للتمييز بين العبادات كتمييز فرض عن فرض، أو فرض عن نفل، وتمييز العبادات، عن العادات كالغسل من الجنابة، والغسل للتبرد والتنظف.
2 / 6
العمل تابع للنية خيرًا وشرًا
خامسًا: قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى).
قال ابن رجب: هذا إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه، فإن نوى خيرًا حصل له خير، وإن نوى شرًا حصل له شر، وليس هذا تكرارًا محضًا للجملة الأولى، فإن الجملة الأولى دلّت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة، وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحًا، فلا يحصل له به ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه، المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب نيته التي صار العمل صالحًا أو فاسدًا أو مباحًا بها.
2 / 7
الهجرة وأنواعها
قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
الهجرة: مأخوذة من الهجر، وهو الترك، وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد الأمن، كالهجرة من مكة إلى الحبشة، وتكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، كالهجرة من مكة إلى المدينة، وقد انتهت الهجرة إليها بفتح مكة، والهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة.
وقوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) اتحد فيه الشرط والجزاء، والأصل اختلافهما، والمعنى: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا، وبهذا يحصل التغاير.
قال ابن رجب: لما ذكر ﷺ أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر، وهاتان كلمتان جامعتان، وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالًا من أمثال الأعمال التي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال.
وقال أيضًا: فأخبر النبي ﷺ أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات والمقاصد بها، فمن هاجر إلى دار الإسلام حبًا لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهار دينه الذي قد يعجز عنه في دار الشرك، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقًا، وكفاه شرفًا وفخرًا أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة، ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول: تاجر، والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر.
وفي قوله: (إلى ما هاجر إليه) تحقير لما طلبه من أمر الدنيا، واستهانة به، حيث لم يذكره بلفظه.
وأيضًا فالهجرة إلى الله ورسوله واحدة، فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة، ومحرمة أخرى، وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني: كائنًا ما كان.
وهذا هو آخر ما كتبناه حول هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
2 / 8
شرح مقدمة الإمام النووي على الأربعين
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين، مدبر الخلائق أجمعين، باعث الرسل صلواته وسلامه عليهم إلى المكلفين؛ لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية وواضحات البراهين، أحمده على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، الكريم الغفار، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين، المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وآل كل وسائر الصالحين، أما بعد:
2 / 9
ما جاء في أجر حفظ أربعين حديثًا
فقد رُوَّينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم من طرق كثيرات، بروايات متنوعات: أن رسول الله ﷺ قال: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء)، وفي رواية: (بعثه الله فقيهًا عالمًا)، وفي رواية أبي الدرداء: (وكنت له يوم القيامة شافعًا وشهيدًا)، وفي رواية ابن مسعود: (قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة شئت)، وفي رواية ابن عمر: (كتب في زمرة العلماء، وحشر في زمرة الشهداء).
وقد اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثُرت طرقه].
ومعلوم أنّ كثرة الطرق لا يتقوى بعضها ببعض دائمًا، وإنما ذلك إذا كان الضعف خفيفًا يجبر، وأما إذا كان الضعف شديدًا فإنّ كثرتها لا تفيدها شيئًا، فتفيده الطرق الكثيرة حيث يكون الضعف يسيرًا، فإن ضم بعضها إلى بعض فإن ذلك يرفعها إلى الحسن لغيره كما هو معلوم، وأما إذا كانت الطرق المتعددة كلها ضعفها شديد فإن وجودها كعدمها لا يفيد الحديث شيئًا.
2 / 10