شرح العقيدة الطحاوية - يوسف الغفيص
شرح العقيدة الطحاوية - يوسف الغفيص
জনগুলি
عقيدة أبي الحسن الأشعري
الأشعري أصله معتزلي، وهذا مجمع عليه بين الأشاعرة وسائر أهل المقالات والسير، وقد مضى في الاعتزال زمنًا طويلًا، وصرح في كتبه بأنه كان معتزليًا، وأنه صنف للمعتزلة كتبًا لم يصنف لهم مثلها.
والأشبه أنه كان زمن الاعتزال على طريقة أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي؛ لأنه تتلمذ على يديه ونشأ في كنفه، ثم رجع الأشعري عن الاعتزال، وهذا لا خلاف فيه بين الناس، لا من الأشاعرة، ولا من أصحاب السنة المحضة، ولا من سائر أهل المقالات والسير.
إنما الذي حصل فيه تردد وكلام هو: إلى أي شيء رجع الأشعري؟
هنا أحد مسلكين:
المسلك الأول: أن الأشعري كان معتزليًا ثم رجع كلابيًا، ثم رجع سنيًا، أي أنه مرَّ بثلاثة أطوار.
وهذا القول يعتمده كثير من الباحثين، وهو غلط محض لمن نظر كتب الأشعري وتأمل كلامه، ونظر كتب المحققين كـ شيخ الإسلام ﵀.
المسلك التالي وهو الصواب: أن الأشعري ليس له إلا مذهبين: المذهب الأول هو الاعتزال، ثم لما ترك مذهب المعتزلة انتحل مذهب أهل السنة.
أما من حيث الحقيقة العلمية فإن الأشعري كان معتزليًا، ثم لما ترك الاعتزال وانتحل مذهب أهل السنة كان -كما يقرر شيخ الإسلام في منهاج السنة وغيره- علمه بالكلام وأصوله ومقالات المتكلمين من المعتزلة وغيرهم علمًا مفصلًا، وكان علمه بمقالات السلف والأئمة علمًا مجملًا، لأنه اعتنق مذهب أهل السنة عن بعض حنبلية بغداد، فأخذه أخذًا مجملًا، فصار الأشعري يقصد إلى تحقيق مقالة الأئمة، لكن لكون علمه بها علمًا مجملًا لم يحقق ذلك، وإن كان عنده نوع ترق إلى الأفضل، فكتبه الأخيرة -كالإبانة- هي أجود ما كتب، وإذا قارنت بين كتاب (الإبانة) وكتاب (اللمع) مثلًا وجدت بين الكتابين فرقًا، وأن كتاب (الإبانة) أجود بكثير من كتاب (اللمع).
لكن مع هذا فإن الأشعري لم يخلص إلى السنة المحضة، بل بقي عليه مسائل كثيرة اختلطت عليه، وأخص ذلك مسألة الصفات والقدر والإيمان، فهو في الصفات على طريقة ابن كلاب، بل إن ابن كلاب أجود حالًا من الأشعري كما يصرح بذلك الإمام ابن تيمية ﵀ في مواضع كثيرة؛ لأن ابن كلاب يثبت الغضب والرضا ونحوها من الصفات، ويقول: إن الله موصوف بالغضب، ولكنه واحد أزلي، ولا يفسر الغضب والرضا بالإرادة، بل يثبتها صفةً أزلية، في حين أن الأشعري يفسر الغضب والرضا بصفة الإرادة.
وكذلك في القدر: فإن الأشعري أبطل الجبر لفظًا، وأبطل مذهب القدرية المعتزلة، ولكنه قال بالكسب فوافق أهل السنة والجماعة لفظًا -حيث إن لفظ الكسب لفظ مستعمل في القرآن وقد أضيف إلى العباد كقوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة:٢٨٦]، وقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَة﴾ [المدثر:٣٨] إلى غير ذلك من الآيات، ولكنه فسر الكسب تفسيرًا جبريًا، فقال: إن للعبد قدرةً ومشيئةً مسلوبة التأثير يقع الفعل عندها لا بها، فهو جبري، ولكنه دون الجبرية المحضة.
ولهذا نجد علماء الأشاعرة كـ الشهرستاني والجويني والرازي يقولون: إن ما قرره أبو الحسن في هذا المقام جبر متوسط، وكذلك يقول الرازي: الكسب معناه: أن العبد مجبور في صورة مختار.
وهذا المذهب هو أحد مذاهب الجبرية، لأن الأشاعرة مذهبهم معروف في مسألة القدر، ويتوهمون أنه لا يصح في هذا إلا قول القدرية أو الجبرية، ومن هنا اختاروا مذهب الجبر.
كذلك في مسألة الإيمان: يقول الأشعري: إن الإيمان هو التصديق، وهو بهذا مقارب لقول غلاة المرجئة وإن كان ليس مثلهم.
وأما في آخر كتبه فقد صار يتباعد عن المسائل المفصلة التي لم يحكمها، وينطق بالعبارات السلفية المجملة ويدعها على إجمالها، أي: أنه يذكر الآيات والأحاديث ولا يتكلم في تفصيلها أو تفسيرها، فمثلًا في كتاب الإبانة وهو من آخر ما كتب يقول: (ونؤمن بأن الله مستوٍ على العرش كما في قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥]) لكنه لا يفصل مقصوده بالاستواء؟ وفي كتبه الأخرى يقول: إن الاستواء فعل فعله بالعرش صار به مستويًا.
أي أنه لا يثبت الاستواء الذي كان يثبته السلف.
ومن هنا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: وأما من قال منهم -أي: الأشعرية- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالةً تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة! هذا نص كلام شيخ الإسلام.
وقد توهم بعض الباحثين أن الإمام ابن تيمية ﵀ يرى أن الأشعري مر بثلاثة أطوار، وأن الطور الأخير الذي كتبه في كتاب (الإبانة) هو طور السلفية المحضة، وهو ليس كذلك، إنما مراد الإمام ابن تيمية ﵀ أن جمل كتاب (الإبانة) جمل سلفية، وإن كان الأشعري في كتاب (الإبانة) إذا أتى لمسألة فيها خلاف بين الأئمة والمعتزلة فإنه يفصلها ويقضي على مذهب المعتزلة ويبطله، كمسألة الرؤية مثلًا، فإنه أثبت الرؤية واستدل بدلائل فاضلة، منها استدلاله بقوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ [الأنعام:١٠٣] قال: إن الإدراك هو الذي نُفي، وهو قدر زائد على الرؤية، ونفي القدر الزائد دليل على أن أصل الرؤية ثابت، وهذا استدلال فاضل اعتمده شيخ الإسلام في كتبه.
وإذا جاء إلى الخلاف الذي بين ابن كلاب والأئمة فإنه لا يفصله، وإنما يقف على الإجمال.
3 / 7