والسكينة أو الطمأنينة
ataraxia .
والثاني هو تحمل السخرية والتهكم ممن يحيطون به؛ لأن من يرفض القيم السائدة وأنماط السلوك الشائعة بين الناس، فإنه يثير ارتيابهم ويكتسب عداوتهم. غير أنه بثباته على مبدئه والتزامه بفضائله سرعان ما يسترد ثقتهم وسرعان ما يتفهمون نموذجه كشخص يبحر في العالم دون أن يغرق فيه ويأخذ الأشياء دون أن يؤخذ بها، ويجدون فيها نمطا من الشخصيات مهما لصلاح المجتمع وموكلا لمهام معينة لا يجيدها سواه مثل التوسط في الخلافات وفض المنازعات ... إلخ. يقول إبكتيتوس في «المختصر»: «إذا كانت لديك رغبة مخلصة في اكتساب الفلسفة، فلتعد نفسك منذ البداية لتلقي ما لا يحصى من استهزاء الآخرين وسخريتهم، وقولهم: «ها قد عاد إلينا فيلسوفا دفعة واحدة.» وقولهم: «من أين أتى بهذا الخد المصعر؟» أما من جهتك فلا تصعر خدك حقا، وتمسك بتلك الأشياء التي تراها الأفضل، تمسك بذلك المكان الذي قيضك الله له. واعلم أن ثباتك على تلك الحال سوف يجعل من كان يسخر بك بالأمس يعجب بك. أما إذا انخذلت أمامهم فستكون قد جلبت على نفسك ضعفين من السخرية» (المختصر، 22).
ولأنه لا يعول في شيء إلا على نفسه، فإنه يأخذها بكل الحزم والشدة، ويراقبها بكل اليقظة والاحتراس. «صفة الجاهل وأمارته أنه لا يرتقب النفع ولا الضرر من نفسه بل من الأشياء الخارجية. وصفة الفيلسوف وأمارته أنه يرتقب كل النفع والضرر من نفسه. أمارات المتقدم على درب الحكمة هي أنه لا يذم أحدا ولا يطري أحدا ولا يلوم أحدا ولا يتهم أحدا، ولا يتحدث عن نفسه كما لو كان شيئا ما أو كما لو كان لديه علم ما. وإذا أعيق أو تعثر يتهم نفسه. وإذا مدح يسخر في نفسه من المادح. وإذا انتقد لا يرد، بل يمضي حذرا كأنه الناقه يخشى أن يتعتع أي عضو فيه لم يلتئم بعد . إنه ينفي عنه كل رغبة. أما نفوره فيحصره فيما هو في قدرته ومضاد للطبيعة. إن نزوعه معتدل تجاه كل شيء. إذا بدا غبيا أو جاهلا لا يبالي. وباختصار، يراقب نفسه كما لو كان عدوا مترصدا لها في مكمن» (المختصر، 48). (11) الحرية
نحن لا نملك إلا حريتنا، والحرية هي أن يتصرف المرء في أفكاره وإرادته بحيث لا يمكن أن يقهره أحد على غير ما يريد. من لا يرضى بحاله فهو في سجن. «السجن الحقيقي هو أن تكون حيث لا تريد أن تكون» (المحادثات، 1-12). «إنه حر ذلك الذي يعيش مثلما يحب أن يعيش، لا يناله قهر أو كبح أو عدوان، لا توقف مساعيه ولا تخيب رغائبه ولا يحيق به مكروه. فمن ذا الذي يختار أن يعيش في ضلال؟ لا أحد، من ذا الذي يريد أن يعيش مخدوعا متخبطا ظالما منفلتا ساخطا منكسر النفس؟ لا أحد. إذن لا أحد من الأشرار يعيش مثلما يود، وبالتالي لا أحد من الأشرار يمكن أن نعتبره حرا» (المحادثات، 4-1). «لو سمعك شخص تقلد منصب قنصل مرتين تقول هذا الكلام فلسوف يعذرك بشرط أن تضيف: «غير أنك إنسان حكيم ولا يشملك هذا الحديث.» ولكن ماذا لو أخبرته الحقيقة، وقلت له: إنه من حيث العبودية فلا فرق بينه وبين أي عبد بيع ثلاث مرات؟ هل تتوقع منه غير اللكمات؟ فسوف يقول لك: - «أأنا عبد وأبي حر وأمي حرة؟! وسيناتور بعد ذلك وصديق لقيصر وتقلدت منصب قنصل مرتين وأمتلك الكثير من العبيد؟» - أولا، يا صاحب العزة، ربما يكون أبوك أيضا عبدا من نفس الصنف. وكذلك أمك وجدك وشجرة أسلافك جميعا. وحتى لو كانوا جميعا أحرارا، فماذا يفيدك هذا؟ ماذا لو كانوا كراما وأنت لئيم، شجعانا وأنت جبان، راشدين وأنت خليع؟ - «ولكن ما علاقة ذلك بكوني عبدا؟» - أليس من العبودية أن تفعل شيئا ضد إرادتك؟ مكرها متحسرا؟ - «ومن ذا الذي يمكنه أن يكرهني على شيء، باستثناء سيد الجميع؛ قيصر؟» - إذن باعترافك الشخصي فإن لك سيدا. أما كونه سيد الجميع على حد قولك فلن يجديك شيئا، لأنك بذلك تكون عبدا لعائلة عظيمة لا أكثر.
ومع ذلك فأرجو منك أن تدع ذكر قيصر جانبا وتجيبني: ألم تقع يوما في حب أي شخص، سواء كان عبدا أو حرا؟ أتقول: وما شأن ذلك بكوني حرا أو عبدا؟ ألم تأتمر قط بأمر حبيبتك في شيء ما كنت تود أن تفعله؟ ألم تدلل يوما جاريتك؟ ألم تقبل قدميها أنت الذي لو أمرت بتقبيل قدمي قيصر لاعتبرت ذلك إهانة وإمعانا في الطغيان؟ ماذا تكون العبودية غير هذا؟ ألم يقدك الغرام ليلا إلى حيث لا تريد؟ ألم تحمل على الانتظار أطول مما يليق بك؟ ألم يتهدج صوتك أحيانا وتمتزج نبراته بالأنين والنشيج؟ ألم تضطر يوما إلى تحمل الإهانة والصدود؟» (المحادثات، 4-1). «انظر فكرتنا عن الحرية في حالة الحيوان. البعض يحتفظ عنده بأسود مستأنسة، ويطعمها، بل يأخذها للتروض. فمن يقول: إن هذا الأسد حر؟ أليست الحقيقة أنه كلما تمادى في عيشه الرغد كان أكثر عبودية؟ ومن ذا الذي أوتي إدراكا وعقلا ويود أن يكون واحدا من هذه الأسود؟
ثم تلك الطيور التي تؤخذ وتحبس في الأقفاص، ترى كم تعاني في محاولة الهروب من سجنها؟ إن بعضها يفضل أن يجوع على أن يمضي في هذا العيش، ولا يتردد في الهروب مهما كانت المصاعب إذا سنحت له الفرصة. إن لديها رغبة مكينة في الحياة الطبيعية الحرة والانطلاق دون قيود. إذا سألتها: «أي ضير عليك من حياة القفص؟» ستجيبك: «ماذا تقول؟! لقد خلقت بطبيعتي لكي أطير حيث أشاء، وأعيش في الهواء الطلق، وأغني متى شئت، أتحرمني من كل هذا ثم تسألني أي ضير؟ لهذا السبب فنحن لن نعده حرا إلا الكائن الذي لا يطيق الأسر وعندما يقع فيه يهرب منه بالموت. لهذا السبب قال ديوجين مرة: «ليس إلى الحرية غير طريق واحد، أن تموت راضيا مرتاح البال.» وكتب إلى ملك الفرس: «لا يمكنك أن تستعبد الأثينيين أكثر مما يمكنك أن تستعبد السمك.» «كيف ذاك؟ أليس بوسعي أن أقبض عليهم؟» يقول ديوجين: «إذا فعلت فسوف يفلتون منك على الفور مثلما يفعل السمك؛ إذا أمسكت سمكة فإنها تموت. وإذا أمسكت هؤلاء الناس فسوف يموتون، ماذا تستفيد إذن من الإعداد للحرب؟»» (المحادثات، 4-1). «العبد يود أن يعتق فورا، لماذا؟ أتظن أنه راغب في أن يدفع رسم الإعتاق للمأمور؟ كلا بل لأنه يتصور أنه يعيش متعثرا حتى الآن ومحبطا لافتقاره إلى العتق، ويحدث نفسه: «إذا نلت حريتي سأرتد سعيدا كل السعادة. لن يهمني أحد، سأخاطب الجميع خطاب الند للند، سأذهب حيثما شئت، وأعود وقتما شئت وكيفما شئت.» وأخيرا نال حريته، وما كاد ينالها حتى وجد نفسه مضطرا إلى أن يتملق من يتعشى معه، ثم إن عليه أن يعمل بيده ويتحمل الأهوال. فإذا أمكنه الدخول إلى مائدة واحد من سراة القوم فإنه يرزح في عبودية أسوأ من عبوديته السابقة، وحتى لو أصبح غنيا، فإنه لافتقاره إلى أية معرفة بما هو خير فإنه يقع في حب فتاة وينوح ويشقى، ويود أن يكون عبدا مرة ثانية، ويقول لنفسه: «أي ضير نالني من العبودية؟ لقد كان غيري يقدم لي الكساء، وغيري يقدم لي الحذاء، وغيري يطعمني، وغيري يعتني بي في المرض، ولم أكن أقدم له إلا خدمات قليلة. أما الآن فما أشقاني وقد أصبحت عبدا للكثير بدلا من أن أكون عبدا لواحد. ومع ذلك، فلو أمكنني أن أرتقي إلى رتبة فارس فسوف أعيش في غاية الهناء والسعادة.»
لقد تنازل بما يقتضيه الحصول على هذه الرتبة، ثم عندما اكتسبها وجد الحال كما هو مرة ثانية، فقال: «إذا انخرطت في الخدمة العسكرية فسوف أتخلص من كل المتاعب.» فلما انخرط ناله من الهوان ما ينال أحط العبيد، ومع ذلك فقد سعى إلى خدمة ثانية وثالثة. وعندما وضع اللمسة الأخيرة وصار عضوا في مجلس الشيوخ أصبح يعيش أرقى ضروب العبودية وأبهاها ...
وعندما نجح في أن يصبح صديقا لقيصر فقد فشل رغم ذلك في أن يظفر بما يريد. فماذا يريد كل إنسان سوى أن يعيش آمنا وسعيدا وأن يفعل ما يرغب فيه وألا يحبط ولا يقهر؟ وعندما أصبح هذا صديقا لقيصر فهل تخلص من الإحباط والقهر؟ هل هو مطمئن؟ هل هو سعيد؟ ... ولنسأله متى نمت نوما أهنأ، الآن أم من قبل أن تصبح صديقا لقيصر؟ فيصيح بنا في الحال: «كفى، أتوسل إليكم، لا تسخروا مني فأنتم لا تعرفون أي بؤس أعاني، والنوم لا يأتيني، بل يأتي واحد ويقول إن قيصر استيقظ حالا، ويأتي آخر ويقول: إنه سيخرج الآن، ثم تأتي المتاعب والهموم.»
حسن، ومتى اعتدت أن تتعشى بمتعة أكبر، الآن أم في السابق؟ واسمع ماذا يقول في هذا أيضا. يقول إنه إذا لما يدع فقد انتقص من قدره. وإذا دعي فإنه يتعشى مثل عبد مع سيده، موسوسا طوال الوقت خشية أن يأتي بأي فعل غير لائق. وماذا تظن؟ أتظنه يخشى أن يجلد كالعبد؟ كلا؛ فالعقوبة ليست بهذه البساطة، بل عقوبة تناسب رجلا عظيما مثله؛ صديق قيصر: الإطاحة برأسه.
অজানা পৃষ্ঠা